تطور العلاقات المغربية - المسيحية من العصر الروماني إلى نهاية القرن العشرين، سلسلة تنشرها هسبريس مُنَجمة عبر حلقات يومية في شهر رمضان الكريم. 3. القديس أوغسطين (354م-430م) كل فترة تاريخية مثقلة بصدامات الأفكار والنظريات وتعدد التيارات والتوجهات، لابد وأن تفرز رجالاتها ورموزها التي تجسد أنماطا جديدة على مستوى الآراء والتصورات، وتنعكس سلبا أو إيجابا على السلوكيات. وهذا ما حدث بالضبط خلال الحكم الروماني في شمال إفريقيا. لقد اختلطت الآلهة الأمازيغية بالآلهة الفينيقية والقرطاجية ثم بالآلهة الرومانية وبالديانة المسيحية، وخلف هذا الزخم وعيا جديدا لدى المجتمع الأمازيغي ودفعه إلى إيجاد فضاء فكري وسياسي لكي يساعده على تحديد هويته. وكان هذا دليلا قويا على انفتاح المغاربة القدامى على محيطهم الحضاري الخارجي بخيره وشره، ولم يكن أسلوب تعاملهم مع الآخر هو الرفض التام، وإنما التكيف مع الحفاظ على المقومات الأساسية للذات. فلا غرابة أن نجد من بين الزعماء السياسيين والقادة العسكريين والمفكرين الدينيين لتلك العصور أمازيغ شهد لهم التاريخ بكفاءتهم وقدرتهم على استيعاب التطورات الثقافية والحضارية والتأثير في صيرورتها. ففي مجال الدين المسيحي، برزت في شمال إفريقيا أسماء لامعة يعتد بها إلى الآن عند المسيحيين، من أمثال سيبريان وترتيليان وأوغسطين. وهذا الأخير يعتبر بكل تأكيد من بين أكبر فقهاء الديانة المسيحية وأعمقهم فلسفة وتبصرا إلى يومنا هذا. وإذا كانت المصادر لا تشكك في أصله الأمازيغي، فإنها كذلك غير مخطئة عندما تركز على روما المسيحية كموطنه الفكري. وقد شكلت إسهاماته المعرفية العديدة، و منها مؤلفين تحت عنوان: «مدينة الله» و«اعترافات»، حلقات مضيئة في التراث والآداب المسيحية التي لا يستغنى عنها في دوائر الاختصاص. ازداد القديس أوغسطين يوم 13نونبر من سنة 354م بسوق أهراس (بالجزائر) وتوفي يوم 28 غشت سنة 430م بعنابة. ومعلوم أنه لم يعتنق الديانة المسيحية حتى تجاوز الثلاثين من عمره، وكان ذلك سنة 386م بمدينة ميلانو الإيطالية. وقد سبق له أن قضى فترة مهمة من شبابه المضطرب في روما التي كانت تستهويه فكريا وثقافيا، لكن ظروف العيش فيها لم تعوض له بما فيه الكفاية الدفء الاجتماعي واعتدال الطقس الإفريقي، سيما وأن حالته الصحية لم تكن دائما جيدة لتتحمل برودة العاصمة الرومانية، تنضاف إلى ذلك أسباب أخرى كان لها الآثار البالغة على نفسيته، وتتجلى في تهكمات بعض حساده في الأوساط المسيحية المثقفة: كانوا يعيبون عليه لكنته الأمازيغية والأخطاء النحوية والأسلوبية في كتاباته اللاتينية. بيد أن أوغسطين كان يجيد الرد على منتقديه ويجاهر بافتخاره بالانتماء إلى إفريقيا. ونظرا لتمكنه من الفلسفة اليونانية، فإن بعضهم كان ينعته متهكما ب"أرسطو القرطاجيين"، مما كان يكشف بكل وضوح عن وجود مضايقات ذات طابع عنصري تستهدف أوغسطين لكونه أمازيغيا حاول اختراق النظرة الاستعلائية الرومانية بفضل جده واجتهاده وليس بفضل حماية الرومان له. ومهما يكن من أمر، فإن القديس أوغسطين جند نفسه عن اقتناع عميق وبكل إخلاص دفاعا عن الديانة المسيحية. إنه لم يكتف بتوسيع أنشطته الرعائية خلال خمس وثلاثين سنة من حياته، بل أعطى روحا جديدة للمسيحية وكافح بكل قواه ضد المنشقين الدوناتيين والبلاجيين، وأضحى بفضل تفانيه وعمق تفكيره مدرسة قائمة الذات يعتبرها بعض المختصين المعاصرين بمثابة الموروث اللاهوتي الجماعي بالنسبة للغرب المسيحي قاطبة. وفي كل سنة –حاليا- هناك ما لا يقل عن معدل ثلاثمائة وخمسين دراسة حول فكر القديس أوغسطين والتأثيرات التي خلفها في اتجاهات متعددة، ليس أقلها تأثيره على مارتان لوثر (1483 - 1546) وجون كالفن (1509 –1564) اللذين كانا وراء التيار الإصلاحي الذي هز الكنيسة في القرن السادس عشر، والذي أدى إلى ظهور المذهب البروتستانتي. ومن سخرية الأقدار، فإن هذا المفكر الأمازيغي اللامع مات محاصرا من طرف القوات الظلامية الوندالية. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]