من بين أعتى الأشياء، التي أسفرت عنها الثورات العربية، حتى حدود اللحظة، على الأقل. تبرز، في رأيي مسألتين رئيستين، أكثر تجليا مقارنة مع غيرها. أقصد، بذلك : تبين بالملموس وبدليل قاطع لا رجعة فيه، أن الطغاة الذين يحكموننا، أكثر ضحالة فكرية ومذهبية وأخلاقية مما كنا نعتقد سابقا، بالتالي قد يصلح أفضلهم لإدارة شؤون مصرف صغير، أما جهاز دولة بالمفهوم الحديث للكلمة، فلا أظن. إذن، اكتشفنا اليوم بالملموس، سبب تخلفنا المريع عن الأمم المتقدمة، بقرون وقرون، مادام مصير العرب انتهى في هذا الزمان اللعين إلى بلهاء ومخادعين ومخاتلين وضعاف النفوس. في المقابل، وكحقيقة ثانية سطعت مثل الشمس على كهف لم ير النور منذ ملايين السنين، أن الشعوب العربية ودحضا لكل النماذج المرسومة قبلا، فاجأت العالم بشدة، وأثبتت لمن يحتاج إلى إثبات أن فطرتها وذكاءها وخيالها ومبتغاها ...، لا تختلف قيد أنملة عن ما يميز باقي البشر، وبأن الليبي أو المصري أو السعودي...، يسكنه نفس التطلع إلى الحرية والكرامة...، فقط ما كان ينقص العربي عن غيره، تلك القيادة التاريخية المؤهلة فعلا لأن تستثمر إيجابياته وتهذب سلبياته. أستعيد شريط سنوات الثمانينات والتسعينات، عندما أخذ بعض أبناء الحي، الوجهة صوب ليبيا كي يمارسوا مهنا مختلفة. وحين عودتهم في العطل، كانوا يحملون غرائب كثيرة عن هذا البلد، الذي حسبناه طويلا بؤرة ثورية حقيقية، والقذافي رسول مستضعفين. اختلفت بطبيعة الحال، تقييماتهم للحياة هناك، انطلاقا من الزاوية التي يستند إليها كل واحد في تحديد الموقف، بيد أن أغلبها التقت عند ثلاثة مسائل جوهرية : القذافي يخطب ويخطب، ليل ليبيا كنهارها واللجان الشعبية تهتف. التواجد، الوافر للأيدي العاملة الأجنبية. أما، المسألة الأخيرة، والتي أستحيي الآن من إعادة استحضارها، فتتعلق بتشديدهم وقتها على بدائية الشعب الليبي وتصنيفه ضمن زمرة الخليجيين الذين لا يدركون إلا لغة البطن والفرج والتنكيل بمن ساقه الإملاق إليهم بحثا عن القوت، وغالبا ما انطوت حكايات هؤلاء الأصدقاء على امتعاض من طريقة تعامل الليبيين مع العمال المصريين خاصة، الذين يصطفون طوابير في الطرقات والممرات وكذا أماكن مخصصة لاستئجار مياومين. يرتجل الليبي من سيارة قيصرية، مرتديا أزياء كيفا اتفق على طريقة العقيد، ويعانق السماء بحزمة شعْر هيبيزمية، فيسرع المصري نحوه بكل ما أوتي من نَفَس، يقبل أكتافه ورأسه مرددا بأعلى صوته : ((ربنا، يحميك ويخليك، يافندم. لحم أكتافي من خيرك !). ثم يرتمي في مؤخرة السيارة، كي يشتغل بأي ثمن. إجمالا، توخت مختلف الخلاصات، ربط القذافي بالأبرار وتضفي كل المساوئ على الليبيين. معناه، أن الديكتاتوريات العربية البائدة، سعت بكل ما ملكت، إسقاط التهم على رقاب شعوبها ومن ثمة شد وثاقها، بنعوت شريرة ترفع عنها القلم وتجعلها تحت وصايتها. مع تراكم وتأسس ثقافة الاستبداد، أُلزمت هذه الشعوب بوضع تصنيفي مبتذل بقدر خطورته. هكذا : الجزائريون قتلة وحرامية يتربص بهم الغدر، والتونسيون جبناء، والليبيون أغبياء، والمصريون عواصف لغوية، والعراقيون أهل شقاق ونفاق، متعطشون للدماء، واللبنانيون مجرد حماة حانات، والسوريون أسود مسلسلات لا غير، والخليجيون أكباش والمغاربة حراس ماخور و و و ... . فكانت شعوبنا، مع أقل تعكر لأمزجة الديكتاتوريات العربية، تقذف بعضها البعض بقاموس الشتائم الجاهزة، وتجلد ذاتها بشتى السلبيات حينما أضحت الهزيمة قدرا، وظنت بأن أصنامها أبدية لن تنزاح ولو تغيرت الكرة الأرضية عن موقعها، ثم تتقيح الذوات المريضة لأدنى تفاهة : مباراة في كرة القدم، لقطة فيلم، إخلال بالبروتوكول الرئاسي، كلمات أغنية سطحية... . المهم جراء أي شيء، كان بوسع الديكتاتور العربي شحن محكوميه ضد عدوه المفترض، بحيث تجيش الجيوش ويحضر ببداهة التصنيف المرجع بعد أن تحول إلى صناعة إعلامية إيديولوجية مربحة. أمثلة كثيرة في هذا الميدان، عكرت صفو الإخوة الأعداء : المغرب/الجزائر، المغرب/ ليبيا، تونس/ليبيا، الجزائر/مصر، ليبيا/مصر، العراق/سوريا، الأردن/سوريا، العراق/الكويت، العراق/السعودية، سوريا/ لبنان... وهلم جرّا. كانت الأنظمة الفاسدة، تنسج خيوط العداوة والمحبة، حسب أهوائها وغرائزها، وكم من مرة استمعنا إلى ديباجة خطاب عشاء بين رئيسين عربيين، فأوهمنا بأنه سيخلق للإنسانية دينا جديدا من خلال عبارات الود والتبجيل والتمجيد والنفخ والدهن ...، لكن فجأة صبيحة الغد، تنقلب أمداح سوق عكاظ إلى هجاء ماجن بين الأوس والخزرج. عواطف مجانية، انتشينا بها لعقود طويلة مع الديكتاتوريات العربية، على حساب الوحدة الحقيقية بين الشعوب العربية والتمثل الحضاري لتطلعاتها. أيضا، استمر قسم كبير من النخبة في رجم الشعوب العربية بأسوأ الأوصاف. من الكتلة الميتة إلى قطيع الأغنام، فالشعوب التي تستحق حالها، إلخ، مادامت ردود فعلها لم تكن عند المستوى المطلوب، وظلت استجابتها صماء بغية استيعاب مضامين فكر التغيير. وقد وصل النكوص بهذه النخبة حد تبرير ديمومة الاستبداد، بحكم أن المجموعة العربية لازالت غير ناضجة كي تتمتع بالديمقراطية. إذن، ليس هناك أفضل، مما هو كائن. لاشك، مع توالي حلقات الثورات العربية، ستسقط تباعا منظومات التضليل، وسيتأكد عكس مجمل السائد، أن العربي مفعم بالحياة، زاخر بالذكاء، متوقد العقل، عاشق للجمال، ترقب فقط الفرصة السانحة، كي يظهر عدم اختلاف جيناته عن باقي خلق الله، وعلى منوال عبارة ديكارت عن العقل، فاستنشاق نسيم الحرية يعتبر أعدل قسمة بين الناس. جميعنا يفتخر حاليا بأن يكون تونسيا، ومصريا وليبيا ويمنيا أي عربيا قبل ذلك.لقد، أعاد شبابنا النجيب، استظهار دروس عظماء هذه الأمة من عبد الكريم الخطابي إلى المهدي بن بركة فالسرفاتي وعمر بن جلون وجبهة التحرير والضباط الأحرار وعمر المختار وفرحات حشاد... . مع حكم الديكتاتوريات ظلت تسمية العربي عقدة ولعنة، تلاحق الواحد منا، أينما حل وارتحل، بحيث أنت أبله وبدائي ولص ومكبوت وإرهابي وقاتل وخنوع...، لكنك حاليا صرت إيقونا ثوريا، تستحضرك بقوة باقي الإنسانية الأخرى، التي لازالت تترنح تحت كُمّاشة العبودية. لم نكن نعرف شيئا يذكر عن ليبيا طيلة حكم "ملك ملوك إفريقيا"، نجهل أسماء مثقفيها وسياسييها ومبدعيها...، لكن مباشرة بعد اندلاع الثورة، فوجئنا جميعا بدرجة الوعي الكبيرة التي يتمتع بها الليبيون وبأنهم شعب عظيم حقا، يستحق حاكما من زمرة عقلاء البشر، وكل الناطقين الآن باسم المعارضة الليبية، أبانوا عن حس سياسي رفيع جدا، لا علاقة له بتاتا بخواء "زنڭة زنڭة" وهرطقة "أنا مقاتل مجاهد مناضل ثائر من الخيمة ، من البادية" وكان من باب الجرم الذي رسم علامات القيامة الكبرى، أن تصادف وجود رجل كهذا، على رأس بلد غني بثرواته البشرية والمادية. بالتأكيد، حينما تستتب الأمور فعلا، سيتجلى صنيع سياسيين حقيقيين ومفكرين وشعراء وأدباء وعلماء ذرة أفذاذ وسينمائيين...، سيضيفون بصمات نوعية للتاريخ الإنساني. يقول إبراهيم الكوني : ((ليبيا بلد اغترب عن العالم طويلا جدا، وليبيا الحقيقية ليست ليبيا التي صادرها النظام طوال ما يزيد على الأربعين عاما، ليبيا وطن غني بالخبرات السياسية والثقافية والتقنية، ليبيا ثرية بالمواهب أيضا، وإن كان النظام استطاع أن يميتها بسلاح العماء الإيديولوجي، وبالقمع المباشر أحيانا، وبالتهميش المنكر أحيانا أخرى، ففي الوقت الذي نبتهل فيه إلى العناية الإلهية بإنجاح ثورة الضمير هذه، فإننا على يقين بأن هذا الوطن الشقي الذي نفي عن الزمان دون وجه حق سوف يدهش العالم بحقيقته، وتسامحه، وتعدديته، وثراء روحه، وهو لن يسمح بعد اليوم لفرد أن يمتلك مصيره حتى لو كان هذا الفرد حكيما في نزاهة مُشرَع اليونان القديمة "صولون" !)). أما، لسان "ماو" فبقي يردد : ((دع مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتبارى)). لقد أهلكت الديكتاتوريات العربية، الحرث والنسل، وتماهت في تجذير اللامعنى، بيد أنه حين دقت ساعة الحقيقة، تهاوى كل شيء بسرعة البرق كما الحال دائما مع مدن الملح. في حوار، أجريته منذ سنوات مع المثقف التونسي عمر الشارني بمناسبة صدور كتابه عن "أشكال الهجرة في الأدب العربي المعاصر"، اختتم مدرس الفلسفة الباريسي، حديثه بصرخة صادقة : ((علينا، أن نخجل من أنفسنا أيما خجل، يا أخي نحن العرب عالة على أنفسنا قبل العالم، ساستنا حفنة جهلة انتهازيين، منظوماتنا التعليمية ضعيفة جدا، مستشفياتها خربة، سجوننا ممتلئة، مثقفونا إن استحقوا الصفة لا وزن لهم، الفساد يأكلنا...)). ربما، لو التقيته مجددا، سيضيف أيضا، لكن لكل حديث مقام، يجدر بالشعوب كالأفراد أن تصنعها المحن، لقد انبعثت شعوبنا مثل طائر الفنيق... . [email protected]