رغم إقرار ولد امخيطير بارتكابه خطأ وقراءته آيات من القرآن الكريم، أيّدت محكمة استئناف نواديبو بموريتانيا الحكم بإعدامه، رافضة طلبه العفو وإعلانه لتوبته، الشيء الذي اعتبر سابقة لم تعهدها محاكم هذا البلد منذ استقلاله عام 1960 . قضية ولد امخيطير أشعلت الشارع الموريتاني في ديسمبر 2014، فلم يهدأ إلا بصدور حكم ابتدائي بالإعدام ضده، حيث اتهم بكتابة “مقال يسيء للرسول محمد صلى الله عليه و سلم” نشره عام 2014 . وكما أن هذه النازلة تضعنا بإلحاح أمام مفترق طرق تلتقي فيه احترام المقدسات وحرية التدين والاعتقاد بما تحويه من حرية تفكير وتعبير، فإنها تحيلنا مباشرة إلى قضية المفكر السوداني محمد محمود طه صاحب نظرية نسخ الآيات المكية للمدنية في القرآن، والذي تم إعدامه في 1985 من طرف نظام النميري. لقد ذهب النائب العام الموريتاني إلى تأييد الحكم بإعدام المتهم، “حتى يكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه التطاول على الرسول الذي لا يجوز المساس به”، تماما كما ذهب النميري حاكم السودان إلى تنفيذ حكم إعدامه لمفكر بلغ من العمر 76 سنة بعد تحالفه ( أي النميري ) مع الإخوان المسلمين وطيّه تاريخ تعامله مع إسرائيل. بذلك يبدو أن سلوك القرن الماضي لم يتطور ، تماما كما بات إثبات تطور العقل و قيمته أمرا صعبا. لكن للأمانة العلمية و “بكل تحفّظ” كما لو أننا سنرافع أمام المحكمة العليا التي ينتظر الصحفي المعني العرض عليها للنظر في الحكم الاستئنافي، لكل هذا نقرأ أولا مقطعا من مقالة محمد الشيخ ولد امخيطير التي جرته لمقصلة الإعدام تحت عنوان : الدين و التدين و “لمعلمين”. إذا كان مفهوم ”بنو العم والعشيرة والإخوان” يجعل أبا بكر يحجم عن قتل المشركين وعلاقة الأبوة بين زينب والرسول تمنحها إطلاق سراح زوجها مجانا، والانتماء القرشي يعطي ألقاب البطولات للقرشيين ويمنعها عن الحبشيين. إخوتي: أريد فقط أن أصل معكم – و أخاطب لمعلمين أساسا – أن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات “طيبة لكنها لا تنافس” فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل/البيظاني من ذاك الأسد… وأن الذي يعاني يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين و لمعلمين و إيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام ومشربهم حرام وعملهم حرام) إنتهى في محاولة لتحليل المقال، يتبين أنه في ثاني جملة فيه، تم توظيف كلمة “إن صح ما تقولون” من هم هؤلاء ؟ تناول بعد ذلك الفرق بين الدين وما يعرف ب”التدين، يقول : “….. تلكم أطروحة جديدة وقد وجدت من بين لمعلمين أنفسهم من يدافع عنها….” و نفس الشيء تناوله المفكر محمد أركون حول “الجهل المقدّس والجهل المركٌب”. إن الدين كما أنزله الله في القرآن الكريم أي 6534 آية (ما فرّطنا فيه من شيء)، هو العمد الأساس الذي لا يسوغ ولا ينبغي أن يتعارض معه قول أو تقرير أو عمل يُنسب للنبي الأعظم صلوات الله عليه. و لقد تعمّدت ذكر الآية أعلاه حتى لا يبقى مجال لمناقشة نظرية ما يعرف بحجيّة السنة التي مفادها أن هذه الأخيرة متممة ومكملة للقرآن، في حين لا إشكال لدينا هنا إذا ما تعلق الأمر بالعبادات، بل المعضلة الكبرى أن نورد “أحاديث” في درجة آحاد و نشرّع لما لم يرد في القرآن الكريم. للتوضيح أكثر، فإن جميع أقطاب الفقه والتاريخ الإسلامي يعترفون بمسألة وضع الأحاديث المكذوبة عن الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، و هذه الأحاديث إن خدمت أجندات وإديولوجيات في الماضي، يبدو أن أخرى منها ستناقش مع المتأخرين الذين قال عنهم النبي الأكرم “إخواني”، و هذا ممكن مع تطور العقل واستعمال اليات البحث العلمي الحديثة. هذا الدين الحنيف كما نقرأه في كلام الله تعالى، ينبذ التباهي واعتبار الأنساب والطبقية. طبقية وأنساب، هذا للأسف ما يعيشه الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، ولكن ليس أكثر من موريتانيا المختلطة الأجناس. ومن هنا إذن خرج ولد امخيطير للمخاطرة ومناقشة وقائع لا زالت محصّنة بالقدسية، ويكفي أن نقرأ في آخر مقاله كلمة “حراطين” لكي نفهم حرارة 0كتوائه بذلك. من منا لا يعرف قصة تبول الأعابي في مسجد رسول الرحمة وكيف عفا عنه وردّ الصحابة الذين أرادوا قتله ؟ إنني أذكر في الحين ذاته يوم وجه لنا طالب باحث موريتاني وهو أسود البشرة (من لكْور) قائلا : لماذا لم يختر الله نبيا أو رسولا أسود البشرة ؟ فما كان إلا أن أعتقنا زميلنا الدكتور وشيخ من الأزهر بالإجابة الشافية : بلى لقد جعل الله سيدنا موسى عليه السلام نبيا وهو أسود البشرة. بداية، في السطر الحادي عشر من مقال الصحفي، يقول :”مما لا شك فيه أننا إذا قسمنا الفترة الزمنية للإسلام إلى قسمين سنجد:” وهو هنا يقتفي أثر المفكر محمود طه (الذي هو الآن معتبر من المفكرين الجدد المسلمين. انظر كتاب رشيد الزين. بالفرنسية)، هذا الأخير الذي اعتبر أن آيات القتال الواردة في الفترة المدنية نسخت بآيات الفترة المدنية. فما أحوج مسلمي هذا الوقت المطبوع بانفلات الشباب لاعتناق الإرهاب إلى فهم هذه الطروحات التي ستبقى اجتهادات بشر . لا أحد من المتخصصين في المادة وصنعة الفقه، ينكر ثنائية وضع النبي الأعظم في أقواله وتصرفاته كنبي تارة (وهذا هو المجال المقدس “لا ينطق عن الهوى”) من جهة وأقواله و تصرفاته صلى الله عليه وآله وسلم كإنسان (أي مجال “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”). يسترسل في خلاصة “أخاطب لمعلمين أساسا – أن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات “طيبة لكنها لا تنافس” فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل من ذاك الأسد…” حيث إن (مشكلتكم إن صحّ ما تقولون) أيها الأوصياء على الدين، والمخْتفون وراء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله و سلم، فإنكم تسيئون للدين نفسه. وحيث أنه (لا أنساب في الدين ولا طبقية ولا “أمعلمين”)؛ حيث إن “الدين هو وضع إلهي والتدين كسب بشري…..” فإن الذي يعاني كما يقول الكاتب “يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا لحراطين و لمعلمين وإيكاون الذين لا زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام ومشربهم حرام عملهم حرام” انتهى. وبالتالي فإنه ينبغي نزع القدسية عن “قيل وقال” البشر. فوحده كلام الله بين الدّفتين والأحاديث الصحاح، المحقّقة عند كل طوائف المسلمين، وحده لا يناقش. لقد شهدنا كيف تمّت “دعششة” وتجييش الشعوب “القبلية”، ثم توجيهها خلال “الخريف العربي” إلى ملاحقة أصحاب الرأي، معتقدة أن “شعار محاربة الفساد” إنما هو فرض التناسق العام في المجتمع، فكان بذلك أن توجهت الأنظار للباس البنات وإلى المثليين والملحدين و أكلة رمضان… بدل العمل الحقيقي والإرادة الحقّة الجامعة من أجل صالح الأوطان والشعوب العربية. وكأنني بمسجد سطالينكراد بباريس حين صلى بنا في عام 2005 الشيخ سعيد رمضان البوطي، يقول من على المنبر تعقيبا على الكاريكاتيرات الدانماركية، “النبي الأعظم مثل نور الشمس، هل يستطيع أحد أن ينفخ فيها ليطفئها ؟”، فلا داعي للاختفاء وراء الشمس، فهذا الخريفُ عربيٌّ باهت. * كاتب موريتاني