يبدو أنّ الذين 0بتهجوا، خصوصا من أدعياء "العَلْمانيّة"، للدّعوة المُنْبعثة أخيرًا إلى إصلاح "التّعليم الدِّينيّ" لدى المُسلمين يَنْسون أَمريْن عظيمَيْن: أَوّلُهما أنّ هذه الدّعوة قد عُمِلَ بها منذ ثمانينيّات القرن الماضي حينما أُنِيط بكثيرٍ من عُتاتِهم أنْ يَضعوا مشروعًا ثقافيّا كَلّف أَموالًا طائلة ولم يُسْفر عن أَيّ نتيجة؛ وثانيهما أنّ "التّعليم الدّينيّ" في المُجتمعات ذات الأكثريّة المُسْلِمة كان (ولا يزال) يُدَبَّر من طرف الدّوْلة التي هي المسؤول الأوّل عمّا يُعانيه من تَخلُّف وتَعثُّر. وعلى أساس إدْراك ذَيْنِك الأمرَيْن، يَنْبغي أن يَتبيّن أنّ أُولئك المُبْتهِجين يَنْخرطون - بوعيٍ أو من دُونه- في زُمْرةِ الذين لا يَرَوْن أنّ «0لإجْرام 0لاسترهابيّ» (المُلْصَق عَنْوةً بالإسلام والمُسلِمين) يَجِدُ أُصولَه في فشل السِّياسات العُموميّة للدُّول من حيث مسؤوليّتها القانونيّة والمُؤسَّسيّة ليس فقط عن "التّعليم الدِّينيّ"، بل أيضا (وبالأساس) عن مجموع القطاعات الحيويّة بمُجتمعات تشترك في الخضوع لأنظمة "الاستبداد" و"الفساد". وبالتالي، فلو كان الدّاعُون إلى إصلاح تعليم الدِّين الإسلاميّ صادِقين، لطالبُوا بمُراجَعة وإصلاح السِّياسات العُموميّة كُلِّها؛ وليس فقط التّركيز على مَجالٍ صلته الفِعْليّة ب«0لإجْرام 0لاسترهابيّ» ضعيفةٌ بالمُقارَنة مع المَجالات الأُخرى التي يُعاني فيها مُعْظمُ النّاس الأَمرَّيْن. وإلّا، فإنّ تَحمُّسَ أدعياء "العلمانيّة" إلى تلك الدّعوة إلى إصلاح "التّعليم الدِّينيّ" يَفْضح كونَهم أحرص النّاس على التّوسُّل بسُلُطات الدّولة لتحقيق ما لا يستطيعونه بشتّى تَدخُّلاتهم السياسيّة والثّقافيّة في إطار العمل المَدنيّ والتّنْظيميّ. لا غرو، إِذًا، أن يَنْبري أحدُ أُولئك المُبْتهِجين - مُغْتنِمًا فُرصةَ تلك الدّعوة إلى إصلاح "التّعليم الدِّينيّ"- ليَزْعُم أنّ الخَللَ الأساسيّ قائمٌ في «الإسلام/الدين» نفسه الذي لا يُعْطي، حسب ظَنّه، للإنسان الأوْلويّةَ بما يَجْعلُه قيمةً عُليا، وإنّما يَعُدّه مُجرّد وسيلةٍ على النّحو الذي يُبرِّر تَسْخيرَ الآدميِّين لخدمةِ مُختلِف الأغراض والمَصالح التي تَتستّر بقناع "الدِّين" لامْتهان كرامتهم وحِرْمانهم من حُقوقهم الأساسيّة والكَوْنيّة. وإذَا كان الاستدلالُ على «أَوْلويّة 0لإنسان» بادِّعاء أنّه «0لعاقل 0لوحيد» ضمن نظام الطّبيعة لا يُمثِّل سوى إعلانٍ عن مُعْتقَدٍ يُكذِّبه واقعُ المُمارَسة البَشريّة (التي يَغْلِب فيها 0تِّباعُ الأهواء والشّهوات) كما تُفنِّدُه مُكْتسَباتُ البحث العلميّ والفلسفيّ (ثُبُوت "اللَّاشُعور" كواقع نفسيّ، ومُلازَمة "0للَّامعقول" ل"0لمعقول"، ووُجود كائنات حيّة عاقلة)، فإنّ تَعدادَ أَمثلةِ الفساد البَشريّ بين المُسلمِين وجَعْلها سندَ القول بوُجوب 0ستبدال «أَوْلويّة 0لإنسان» مكان «أَوْلويّة 0لدِّين» (و، من ثَمّ، «أَوْلويّة 0للّه») ليس سوى مُغالَطةٍ مُزْدوِجةٍ يُخْلَط فيها بين "الواقع" و"المثال" ويُعْرَض فيها "الفرعُ" كأنّه "الأصل". ولو صَدَق ذلك المُستدِلُّ، لكان عليه أن يَسْتعرض أيضا أَهمّ أمثلةِ الفساد المُترتِّبة على «مشروع 0لحداثة» نفسه باعتباره قام باستبدال «مركزيّة 0لإنسان» مكان «مركزيّة 0للّه» (وليس أَهْوَنَ هذه الأمثلة تدمير البيئة وترسيخ "الاستغلال" و"الاستلاب" كواقع مُؤسَّسيّ مُعَوْلَم بما آلَ إلى تَزايُد 0نْحطاط الإنسان نفسه إلى مستوى العبد المُسترَقّ لكُلٍّ من 0لآلة و0لوَهْم و0لشّهوة). ومن ثَمّ، فليس "الإنسانُ" أَوّلًا بالنّظر إلى كُلّ الأسباب التالية: لأنّ بدايةَ الكون – كما يُحدِّدها العلمُ المُعاصرُ من خلال ما يُسمّى "الانفجار العظيم"– تَتمثّلُ في شيءٍ هو ك«لا شيء» لا صلة له البتّة بالإنسان، من حيث إنّ ذلك "المُنْطلَق" المُفْترَض لا يُتصوّر إِلّا كشيء مُتناهٍ في الصِّغر وبالغ الكثافة بما يَجعلُه خارج الزّمان والمكان (يُقدَّر ب«48-10») ويتعالى على إرادة الإنسان ووعيه. فكيف يَكُون أَوّلًا من هو ذَرّةٌ من الغُبار الكونيّ لا تستطيع أن تَتَجاوَز جدارَ ذلك "الانفجار العظيم" لاسْتكناه الحقيقة من ورائه؟! لأنّ عُمرَ الإنسان (وهو على أَبْعد تقدير أربعة ملايين سنة) بالقياس إلى عُمر الكون (نحو أربعة عشر مليار سنة) والأرض (نحو أربعة ملايير ونصف مليار سنة) والأنواع الحيّة (بداية الحياة في الأرض منذ نحو ثلاثة ملايير ونصف مليار سنة، وأُولى الحيوانات منذ نحو نصف مليار سنة) لا يُعَدّ بشيء ذِي بالٍ، إنه ليس سوى «الثانية الأخيرة» في حَدثٍ مضى عليه من الدّهْر ما لا يكاد يُتصوَّر. فالإنسان ما كان يُذْكَر طوال أربعة عشر مليار سنة، أيْ أنه لمْ يَأْتِ إلَّا حديثًا جِدًّا (عُمر الإنسان الحاليّ لا يزيد على ثلاثين ألف سنة!). فهل يَكُون أَوّلًا هذا الذي مَضى عليه حينٌ من الدَّهْر لمْ يَكُنْ شيئًا مَذْكُورًا؟! لأنّ قيمةَ الإنسان كشخص (أيْ بما هو ذاتٌ لها حُقوق وعليها واجبات) لا تَجْعلُه يَتفرّد بصفة الكائن الوحيد في الكون الذي له حُقوق، بل إنّ "البيئة" بكُلّ أحيائها وأشيائها صارتْ كذلك «صاحبة حُقوق» بما يَقْتضي أنّها هي التي تُؤسِّس – في الواقع– «حُقوق الإنسان» نفسَها ك«حُقوق طبيعيّة» مُلْحَقة ب«حُقوق البيئة» ومُشتقّة منها. فهل يَكُون أَوّلًا هذا الذي لا وُجود له ولا قيام من دون "الوسط البيئيّ" المُحيط به في تَنوُّعه وثرائه؟! لأنّ الإنسانَ ليس «العاقل الوحيد في الكون»: فإذَا صَحّ أنّ "العقلَ" يَتحدّد أساسًا بما هو "ذكاءٌ" و"حِسابٌ" و"نِظامٌ"، فإنّ ثمّة كائناتٍ كثيرةً تَتمتّع بمثل قُدرة الإنسان على "الذّكاء" و"الحِساب" و"النِّظام"، بل يبقى من المُحتمَل أن تَكُون هُناك كائناتٌ أقدرُ منه على ذلك؛ بل إنّ مظاهرَ "الذّكاء" و"الحِساب" و"النِّظام" لا يَخلُو منها شيءٌ في الكون الذي يَتجلّى بصفته بالغَ الدِّقة والنِّظام حتّى في أصغرِ الجُزَيْئات المُكوِّنة للمادّة. فهل يَكُون أَوّلًا هذا الذي يُغالِبُ بمعقوليّته الاصطناعيّة الضيّقة معقوليّةَ الكون الطبيعيّة والواسعة؟! لأنّ الإنسانَ قد فَقَد مركزيّتَه في الكون منذ أن 0كْتُشف خطأُ القول بمركزيّة الأرض مع الانقلاب الكوﭙّرنيكيّ في القرن 16؛ ومنذ أن ثَبَت أنّ الكونَ لانهائيٌّ ويَزدادُ توسُّعًا على الرّغم من أنّ المسافات فيه تُقاس أصلًا بالسّنوات الضوئيّة. فهل يُعْقَل أن يُعَدّ الإنسان أَوّلًا في كونٍ يَتّسع لما لا يُحْصى من الموجودات والعوالم التي لا نَكادُ نَعْرِف عنها شيئًا؟! لأنّ الإنسانَ – كما صار يُنْظَر إليه من خلال «إديولوجيا حُقوق الإنسان» (الأَثيرة جدًّا عند أدعياء "السَّلَفيّة العَلْمانيّة")– إنّما هو نتاجٌ حديثٌ لصَيْرُورةٍ لا تَنْفكّ عن التُّراث اليهوديّ-المسيحيّ الذي من أُصوله قياس الإنسان على صُورة اللّه بما يَكْشف أنّ الأمرَ ليس سوى "تَنْزيل" أو "تَجْسيد" ل"الإلاهيّ" في "البَشريّ". فهل يَكُون الإنسانُ أَوّلًا من دون إِضْمار فكرة «الاستخلاف الإلاهيّ» له أو 0فْتراض أنّ "التَّألُّهَ" قَدَرُه ككائن بلا إِلاه؟! لأنّ الإنسانَ قد أُعْلِنَ موتُه في الفكر الغربيّ منذ عُقود (فلسفات موت الإنسان، بالخصوص، مع "هيدغر" و"ليفي-ستروس" و"فوكو")، وذلك مباشرة بعد 0كتشاف أنه نتاجٌ مُتأخِّرٌ جدًّا و0عتباطيٌّ تمامًا للعصر الحديث؛ بل لقد صار يُعْلَن عن ظُهور «بَعْد-الإنسان» أو «البَعْد-إنسان» (the Post-human) و«الإنسان الأخير» من حيث إنّ كُلّ شيء في العالَم «البَعْد-حديث» قد أصبح «لاإِنسانيًّا». فهل يَكُون الإنسانُ أَوّلًا رغم أنه نتاجُ سلسلةِ «التّطوُّر» الطّبيعيّ والتاريخيّ الذي لا شيء فيه يَمْنع من ظُهور ما يَتجاوز هذا الكائن الذي ليس بالأوّل ولا بالأخير في تلك السِّلسلة الخاضعة ل«الانْتقاء» من دون قصدٍ مُوَجِّه ولا غايةٍ معقولة؟! لأنّ الإنسانَ – حتّى في "الإسلام" حيث يُعَدّ مخلوقًا مُكرَّمًا ومُفضَّلًا («ولقد كَرَّمنا بني آدم وحَمَلْناهم في البَرّ والبَحْر ورَزقناهُم من الطِّيبّات وفَضَّلْناهُم على كثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضيلًا» [الإسْراء: 70])– ليس بأفضل من كُلّ المخلوقات، وإنّما هو «مُفضَّلٌ على كثيرٍ منها تَفْضيلًا». فهل يَكُون أَوّلًا من لا تَكُون له الأَفْضليّةُ إِلّا نسبيّةً أو مشروطةً (كما هو مُقتضى الاعتقاد الدِّينيّ ب«تَحمُّل الأمانة» الذي هو الأصل في مفهوم "المسؤوليّة" الأخلاقيّة والقانونيّة)؟! وأخيرًا، لأنّ الإنسانَ ليس أَوّلًا باعتبار أنّ القولَ بأسبقيّته على كُلّ ما سواه لا يُعبِّر – حينما يكون خطابًا مُوَجَّهًا إلى من يُفْترَض فيهم أنهم مُسلِمُون يُؤمنون بأنّ اللّهَ ربُّ العالَمين وخالقُ الإنسان ورازقُه وحَسيبُه– إِلّا عن الجُحود الذي يَتفادى به صاحبُه أن يُواجه مُعضلةَ 0مْتناع تَعْليل الوُجود بشكلٍ عامٍّ و، بالخصوص، وُجود الإنسان في تميُّزه عن كُلّ الموجودات. والجُحود المُتنكِّر خلف القول بأنّ للإنسان الأسبقيّة حتّى على اللّه ليس سوى إخفاءٍ لمُعتقَدٍ لا يجد سبيلَه للإفصاح عن نفسه بما يُمْكِن أن يَفْضحه أو لكون صاحبه داخلًا في تَصْفيةِ حساباته الدُّنْيويّة مع خُصومه الفِكْرَويِّين والسِّياسيِّين. تُرى، ماذا يَتبقّى مِمّا يُمْكِن أن يُؤسِّس أَوْلويّة الإنسان؟ بالتأكيد لن تَكُون عاقليّتُه كما تَتجلّى فيما يَكْتسبُه بأفعاله المُنْتِجة للعُمران البَشريّ عبر التاريخ. ذلك بأنّ هذه الفاعليّة المُتصوَّرة عقلانيّةً لا تَنْفكّ عن 0تِّباع الشّهوات وسَفْك الدِّماء والإفساد في الأرض، بالخصوص كما 0زداد تَعزيزُها في الأزمنة الحديثة التي لا تُعَدّ عقلانيّةً إِلّا بقدر ما يَظْهَر نُزُوعُها نحو "اللَّامعقول" و"العَدَميّة". وهكذا، فإنّ 0ستحضارَ كُلّ تلك المُعْطيَات يَقُود إلى تَبيُّن أنّ القولَ بكون الإنسان يأتي أَوّلًا بما يُعْطِيه الأسبقيّة على كُلّ ما سواه ليس سوى تَعْبير عن مُعتقَد لا سند له سوى التَّحكُّم أو التّشهِّي. وإلّا، فهو مُعتقَدٌ سخيفٌ تمامًا في ظلّ واقعٍ علميّ وفلسفيّ يُؤكّد أنّ الإيمانَ بمركزيّة الإنسان لا يَقبل أن يُعلَّل إِلّا كبقيةٍ من ماضٍ لمْ يَعُدْ ثمّة ما يُوجب الأخذ بها، ولا سِيَّما أنّها كانت السببَ في إفساد نُظُم الطّبيعة والحياة على الأرض. لكنْ، قد يُعْترَض بأنّ أَوْلويّةَ الإنسان المقصودة لا تَتحدّد برُتْبَته الزَّمنيّة أو التاريخيّة، وإنّما تَتحدّد برُتْبته المنطقيّة والقِيميّة. فالإنسان له الأَوْلويّةُ من جهة كونه هو الأقدر على "التّعقُّل" و"التّخلُّق" بما يَقْتضي أنه يَتحدّد على أساس «ما يجب أن يَكُون»، وليس على أساس «ما كان» أو «ما هو كائن». وإرادةُ تَأْسيس أَوْلويّة الإنسان بتلك الكيفيّة يَرْجع إلى تأكيد لا فقط أنّه من المُمْتنِع بناء وُجوبُ «أَوْلويّة الإنسان» على وُجود مُعْطيَات عَيْنيّة تسمح بها، بل أيضا أنه لا سبيل إلى القول ب«أَوْلويّة الإنسان» إلّا من جهة ظُهُور أسبقيّة "الخُلُق" على "العقل". ولو أنّ المُعترِض تَبيّن ذلك، لكان عليه أن يَقُوم بمُراجَعة أحد أهمّ مُقْتضيات دعواه؛ مِمّا قد يَقُوده إلى 0عتبار أنّ «حُقوق الإنسان» لا تَتأسّس طبيعيًّا بما يَجعلُها مُطْلقَةً وكونيّةً، بل تَتأسّس على «الضّرُورة الاجتماعيّة» بما يَفْرِض أنّها مشروطةٌ بالنِّسبة إلى «واجبات الإنسان». ولنْ يَقْبَل المُعترِضُ مُواجَهةَ هذا الإحراج لأنه، من جهةٍ، يَفْضح «إديولوجيا حُقوق الإنسان» ويدفع، من جهةٍ ثانيةٍ، إلى بناء "الحقّ" على "الواجب" بما يَقْتضي أنّ «أَوْلويّةَ الإنسان» أخلاقيّةٌ و، من ثَمّ، دينيّةٌ تمامًا بخلاف ما يَزْعُمه دُعاةُ "العَلْمانيّة" وأدعياؤُها! فوحده، إذًا، من كان يُطْبِق على النّقد المُتقادِم للدِّين أو يَحْرِص على النّظر إلى "الإسلام" بالقياس على أديان التّحْريف تجده لا يَلْتفت إلى أنّ «أَوْلويّة الدِّين» هي التي تُؤسِّس «أَوْلويّة الإنسان»، لأنه لا يُعْقَل أَلّا يَكُون في تَكْريم اللّه للإنسان تَفْضيلُه (من حيث إنّ ربّ العالَمين أَسْجَدَ ملائكتَه لآدم في آيات كثيرة في «القُرآن الكريم»). وإلّا، فإنّ مَنْ يدعو إلى «حُرِّيّة الاعتقاد» ويُنْكر «أَوْلويّةَ الدِّين» يَغْفُل عن أنّ هذه الأوْلويّة ليستْ شيئًا آخر غير ذلك الأصل المُكرِّم والمُحرِّر للإنسان بصفته قد خُيِّرَ ليَكُون إمّا شاكرًا وإمّا كافرًا. وفي جميع الأحوال، فإنّ رَدَّ القول بأسبقيّة الإنسان على كُلّ ما (ومَنْ) سواه لا يَستلْزم تأكيدَ تَحْقيره وتَجْريده من كُلّ كرامةٍ كما يَزْعُم الذين لا يَجدون سندًا لمَزاعمهم إِلّا بتَسْفيهِ «الإسلام/الدِّين»، وإنّما يَستلْزم أنّه - في وُجوده وفِعْله- لا يَقُوم كما لو كان مُسْتقلًّا تمامًا بما يَجعلُه يُؤسِّس نفسَه بنفسه، بل يَقُوم على أساس مَحدوديّته ومشروطيّته الضروريَّتَيْن بالنسبة إلى "العالَم" و، أيضا، بالنسبة إلى «ربّ العالَمين». ومن ثَمّ، فإنّ أيَّ تَقْديرٍ للإنسان لا يَأخُذ بعين الاعتبار كونَه محدودًا ومشروطًا ليس سوى سُخْفٍ يُراد به 0ستعادةُ وَهْمٍ لم يَفْعل العصرُ الحديثُ سوى تَجْليته بما يَكفي لفَضْح كُلّ مُحاوَلةٍ لبَعْثه من جديد تَلْبيةً لأغراض فِكْرَويّة (أو "إِدْيولوجيّة") تَتوسّلُ بخطاب «حُقُوق الإنسان» باعتباره يُتِيحُ لبعض ذَوِي الأغراض- بصيغته الفضفاضة والمُجرَّدة من كُلّ سياق- أن يَظْهَرُوا بمظهر حامليْ لواء "العقلانيّة" و"التّقدُّميّة" و"الكونيّة"، وهو ما يُعَدّ غطاءً فِكْرَوِيًّا (أو "إِدْيولوجيًّا") يُتَستَّر خلفه لمُمارسة "التّضْليل" في هذا الاتّجاه أو ذاك.