لا تنتهي الثورات عادة بإسقاط النظام الحاكم ممثلا في رئيس الدولة والنخبة الضيقة المتنفذة المحيطة به، وليس زوال حكم هؤلاء معياراً دقيقاً لسقوطه، إذ الثورة لا تأمن على مصيرها ونصرها إن هي وقفت عند هذه الحدود الابتدائية المتواضعة، ولا يوفّر لها مثل هذا الإنجاز ضمانة ضدّ احتمال ثورة مضادة تعيد عقارب السياسة إلى لحظة ما قبل الثورة. هكذا كانت حال الثورة الفرنسية، في طورها اليعقوبي العنيف وما تلاه من أطوار. وهكذا كانت حال الثورة البلشفية في تدّرجها من إسقاط القيصرية، إلى اسقاط حكومة كيرنسكي، إلى إقامة السوفييتات، إلى الخروج منتصرة من تجربة الحرب الأهلية. لم يختلف الأمر في الثورتين التونسية والمصرية اللتين ما برحتا تعيشان، منذ مطلع هذا العام وحتى كتابة هذه السطور، مسلسلاً متّصلاً من وقائع تغيير الأوضاع والحقائق والمعادلات في البلدين على الرغم من زوال الطغمتين الحاكمتين السابقتين فيهما ورمزيْهما الكبيرين غير المأسوف عليهما.. لم تحتج الثورتان العربيتان الكبيرتان إلى ما احتاجت إليه ثورتا فرنساوروسيا من زمن مديد "سبْع سنوات في فرنسا وثلاث سنوات في روسيا قبل أن يستقر أمر الثورة فيهما"، وإلى كل تلك الشلالات من الدماء المتدفقة في باريس وسان بطرسبورغ، كي تحققا ما حققتاه من مكتسبات، فمن طريق نضالٍ سلميّ ومدنيّ حضاريّ خالٍ من أيّ مظهر من مظاهر العنف، وفي زمن قياسي "بين شهرين وثلاثة" أنجزت ثورتا تونس ومصر معظم أهدافهما. والحق أن كلّ ثورة من هاتين الثورتين المجيدتين كناية عن مسلسل متّصل من الثورات الفرعية المتلاحقة داخل الواحدة منهما، فكأنما يشبه أمرُهما أمر الزلزال العنيف الذي تتلاحق، بعد الضربة الكبرى، تردّداته الناجمة منها، لقد كانت الواحدة منهما عنواناً عريضاً لأربع ثوْرات حتى الآن في وسعنا إحصاؤها وتعيينها على النحو التحقيقي الآتي: اللحظة الأولى الكبرى في الثورتين هي لحظة الثورة الشعبية العارمة على نظاميْ بن علي ومبارك واسقاطهما. وهي استغرقت من الزمن ما يزيد قليلاً على ثلاثة أسابيع في تونس، وما يقل قليلاً عن ذلك في مصر. كان ضغط هذه اللحظة هائلاً على النظاميْن وأجهزتهما الأمنية وقاعدتهما الحزبية بسبب ذلك الاحتشاد الشعبي المذهل، وذلك الاصرار البطولي على الاستمرار في التظاهر والاعتصام حتى تحقيق هدف اسقاط النظامين، على الرغم من القمع الأمنيّ الدمويّ، وإرهاب جماعات الزّعران "البلطجية" المرتبطة بالحزبين الحاكمين. ومن النافل القول إن موقف المؤسّسة العسكرية ساعد، إلى حدّ بعيد، في تيسير شروط نجاح الثورة في البلدين سواء من طريق حيادها في المعركة بين الشعب والنظام أو -أحياناً - من طريق حمايتها الثورة من اعتداءات أجهزة الأمن وعصابات النظام الحزبية والأهلية كما في مصر. غير أن هذه اللحظة الثورية الكبرى لم تكن قد استكملت إنجاز هدفها حتى فتحت الآفاق أمام لحظات ثورية جديدة. تمثلت اللحظة الثانية في الثورتين في عملية الاطاحة بالأجهزة الأمنية والحزبية للنظامين بما هي احتياطه الاستراتيجي وذخيرته الحيّة القابلة للاستخدام في مشروع الثورة المضادة. حصل ذلك، على نحو كامل، في تونس، حيث جرت تصفية جهاز الحرس الرئاسي الذي أداره علي السرياطي- وحلّ جهاز البوليس السياسيّ ثم حلّ "التجمع الدستوري الديمقراطي" بقرار قضائي، وجرى مثيل ذلك في مصر، وإن على نحو جزئي "علماً بأن "الحزب الوطني" لم يُحَلّ بعد" من طريق حلّ جهاز "مباحث أمن الدولة". وليس من شك في أن الثورة على النظامين الأمنيّ والحزبي ليست تقل قيمة ونتائج عن الثورة على النظامين السياسيين، بل إن هذه الأخيرة لا تكتمل إلا بإطاحة ركائز ذينك النظامين، وهو عين ما أنجزته الثورتان في لحظتهما الثانية هذه. أمّا اللحظة الثالثة فيهما، فتمثلت في إسقاط الحكومتين المؤقتتين اللتين قامتا عقب سقوط نظاميْ ابن علي ومبارك: حكومة محمد الغنوشي في تونس وحكومة الجنرال محمد شفيق في مصر، ومع أن حكومة الغنوشي تشكلت بعد الثورة وضمّت رموزاً من المعارضة الديمقراطية وعُدّل في تشكيلها فسحب منها وزراء التجمع وجرى توسيعها بما يُرضي أطرافاً عدّة منها "الاتحاد العام" النقابي العمّالي "وفي هذا تختلف عن حكومة شفيق التي عينها مبارك وثبتها "المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الثورة"، إلا أن مصيرها كان مصير حكومة شفيق تحت ضغط المظاهرات والاعتصامات التي أصرّت جماهيرها على أن الثورة لا تكتمل فصولاً إلاّ بإسقاط حكومتين تشكّلتا من خارج بيئة الثورة. وأخيرآً، كان إنجاز اللحظة الرابعة من الثورتين دستورياً أو قل كان الدستور موضوعها الذي عليه مدارها، إذ بعد طول جدل حول التعديلات الدستورية في البلديْن، تقرر "حتى مع الاستفتاء على التعديلات في مصر" أن يُعَاد صَوْغ دستور جديد يناسب الحقائق التي صنعتها الثورتان، وأن يقوم بأمر ذلك هيئة تأسيسية منتخبة، لتكتمل بذلك فصول انتصار الثورتين المجيدتين. هي، إذن، أربع ثورات في ثورة، ويمكنك القول هي ثورة من أربع لحظات كبرى ومفصلية، لا فرق. المهّم أن ما جرى في تونس ومصر يحمل صفات وسمَات الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر.