يقدم الأستاذ منتصر حمادة نفسه بصفة (الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية)؛ وهي صفة تستلزم قدرا كبيرا من الموضوعية والنأي بالنفس عن التوظيف السياسوي للفكر والبحث العلمي .. والنأي بها عن خدمة المشاريع ذات النزعة الإقصائية التحكمية التي يريد أصحابها المغرب لأنفسهم فقط؛ ومن ليس معهم في آراءهم فهو دخيل على الإسلام المغربي ومشكوك في وطنيته؛ وهو من الإسلاميين الذين تجب محاربتهم كما أمر بذلك الإمبراطور العماري ..! آخر فصول هذه الحرب الإقصائية جزم السيد حمادة في عدد الأمس من (آخر ساعة)؛ بأنه "لا علاقة بين سلفيي المغرب والمشرق"! وجزمه بأن السلفية الحديثة لم تتأسس باتصال مع السلفية الإصلاحية النهضوية ولا الحركة الوطنية!! وهنا يطرح سؤال المصداقية وحجم المعرفة التي يتحلى بها السيد حمادة؟ فإما أن صاحب هذا الجزم لا يعرف وهنا نتساءل عن أهليته ليصنف في زمرة الباحثين والخبراء في التيارات الإسلامية؟ وإما أنه يعرف لكن يكذب على قراءه ويقول لهم خلاف الواقع؟؟ وإلا فإن الباحث المبتدئ؛ يعرف جيدا بأن السلفية المعاصرة تأسست باتصال مع السلفية الإصلاحية النهضوية والحركة الوطنية!! وبرهان ذلك أن رائد السلفية المعاصرة الدكتور تقي الدين الهلالي؛ ما عرف السلفية والوطنية إلا على يد العلامة الوطني الفقيه بلعربي العلوي؛ وقد وثق الدكتور هذه الحقيقة في كتابه "الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية" الذي قال فيه(1) بعد مقدمة بين فيها كرم ضيافة الشيخ محمد بن العربي العلوي له في بيته بفاس، وأنه لما سمعه وجلساءه يطعنون في الطرق الصوفية غضب وهمّ بالخروج؛ قال: "ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي: أراك منقبضا! فما سبب انقباضك؟ فقلت: سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التيجانية، وأنا تيجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته". فقال لي: "لا بأس عليك، أنا أيضا كنت تيجانيا فخرجت من الطريقة التيجانية لما ظهر لي بطلانها(2)؛ فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها، وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة فإن ظهرت عليّ رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا". فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت: قبلت المناظرة. قال: فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس، كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير، وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال"(3). فالهلالي صار سلفيا على يد فقيه مغربي وطني قبل أن يرحل إلى المشرق ويتعرف على السلفية الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ وجميع الشيوخ المغاربة السلفيين المعاصرين البارزين عرفوا السلفية على يد الهلالي .. فإن كان السيد حمادة لا يعرف هذه الحقيقة فكيف يعتبر نفسه باحثا أكاديميا خبيرا في التيارات الإسلامية؟ وإن كان يعرفها فلماذا يخفيها ويكذب على قراءه؟! وقد بالغ ذ منتصر في الكذب إلى حد قوله: "السلفية الوهابية والسلفية الوطنية خطان متوازيان لا يلتقيان"!! والحقيقة خلاف هذا الكلام: فالسلفيتان التقتا زمن السلطان المغربي السلفي مولاي سليمان الذي أرسل وفدا بقيادة ابنه إبراهيم ليطلع على حقيقة (الوهابية)؛ فقد ذكر المؤرخ المغربي الصوفي محمد أكنسوس رحمه الله: أن المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه جواب السلطان، فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم وعلى كل من تعلق بهم من الحجاج شرقا وغربا، حتى قضوا مناسكهم وزيارتهم على الأمن والأمان، والبر والإحسان، قال أكنسوس: حدثنا جماع وافرة ممن حج مع المولى إبراهيم في تلك السنة، أنهم ما رأوا من ذلك السلطان –يعني: ابن سعود- ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام، من صلاة وطهارة وصيام، ونهي عن المنكر الحرام، وتنقية الحرمين الشريفين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل بهما جهارا من غير نكير، وذكروا أن حاله كحال آحاد الناس لا يتميز عن غيره بزي ولا مركوب ولا لباس، وأنه لما اجتمع بالشريف المولى إبراهيم أظهر له التعظيم الواجب لأهل البيت الكريم، وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته، وكان الذي تولى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي. فكان من جملة ما قال ابن سعود لهم: إن الناس يزعمون أننا مخالفون للسنة المحمدية، فأي شيء رأيتمونا خالفنا من السنة، وأي شيء سمعتموه عنا قبل اجتماعكم بنا، فقال له القاضي: بلغنا أنكم تقولون بالاستواء الذاتي المستلزم لجسمية المستوى، فقال لهم: معاذ الله إنما نقول كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، فهل في هذا من مخالفة، قالوا: لا، وبمثل هذا نقول نحن أيضا، ثم قال له القاضي: وبلغنا عنكم أنكم تقولون بعدم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم. فلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ارتعد ورفع صوته بالصلاة عليه وقال: معاذ الله؛ إنما نقول أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، وكذا غيره من الأنبياء، حياة فوق حياة الشهداء. ثم قال له القاضي: وبلغنا أنكم تمنعون من زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصحاح التي لا يمكن إنكارها، فقال: معاذ الله أن ننكر ما ثبت في شرعنا، وهل منعناكم أنتم لما عرفنا أنكم تعرفون كيفيتها وآدابها، وإنما نمنع منها العامة الذين يشركون العبودية بالألوهية، ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلا الربوبية، وإنما سبيل الزيارة الاعتبار بحال الموتى، وتذكر مصير الزائر إلى ما صار إليه المزور، ثم يدعو له بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى المنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميت إن كان ممن يليق أن يتشفع به، هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ولما كان العوام في غاية البعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدا للذريعة، فأي مخالفة للسنة في هذا القدر؟" ثم قال أكنسوس: هذا ما حدث به أولئك المذكورون، سمعنا ذلك من بعضهم جماعة، ثم سألنا الباقي أفرادا فاتفق خبرهم على ذلك".(4) والتقت السلفيتان في شخصية العلامة أبي شعيب الدكالي الذي أخذ علوم الدين في المغرب والمشرق كليهما، وكان مفتيا في مكة كما كان مرجع الفتوى في المغرب. والتقتا في شخص الفقيه محمد بن العربي العلوي تلميذ الفقيه أبي شعيب الدكالي .. فكيف يقفز منتصر حمادة على كل هذه الحقائق ويستبيح الكذب على قرائه؟؟ هذا من جهة البحث العلمي المتعلق بالتاريخ وسوسيولوجيا الحركات الإسلامية .. أما من الناحية العلمية فلا يتصور أصلا أن تكون السلفية النهضوية في المشرق والسلفية النهضوية في المغرب خطان لا يلتقيان؛ فقد التقتا وتلاقحتا وتمازجتا بشكل كبير في المدرسة المالكية .. وما السلفية المغربية إلا نموذج من نماذج سلفية الإمام مالك. ولم يزل علماء المغرب في ارتباط وثيق بالمشرق وعلمائه؛ كالشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره .. وبدهي أنه لا يلزم من الاقتباس من علماء المشرق أو الاستفادة من ابن عبد الوهاب؛ لا يلزم من ذلك أن السلفية المغربية وهابية أو معادية للعادات والأعراف المغربية .. وليت شعري لماذا لا نرى غيرة منتصر على الإسلام المغربي من الفرانكفونية التي تمسخه والفكر الاستغرابي الذي يحاربه؟ ولماذا لا ينتقد تأثير العادات الغربية والإفرنجية على العادات المغربية؟ لماذا نراه يتحدث عما يفد من الغرب بمنطق الانفتاح والتسامح والتلاقح بين الحضارات؟ لماذا لا يتخوف على الإسلام المغربي من الفكر الثوري الوافد من أمريكا الجنوبية؛ والذي يشيد به السيد إلياس العماري؟؟ إن هذه الازدواجية في المواقف والكيل بمكيالين واعتبار الإسلام المغربي منفتحا على كل الأديان والتيارات والمذاهب إلا تلك التي تأتي من المشرق -وخصوصا السعودية-؛ هذا الموقف يدل على خلل عميق في فكر بعض الباحثين وقصور ظاهر في قدرتهم على البحث وتقديم المعرفة الموضوعية لقرائهم. إن الأسس التي بنى عليها منتصر حمادة نقده؛ تلزمه بأن يوجه هذا النقد إلى التيار المدخلي وإلى الجهات السياسية المغرية التي تشجع تحركه ونشاطه اللافت في المغرب؛ لاسيما أن التيار المدخلي لا يعترف أن في المغرب علماء؛ ولذلك يستقدم من السعودية عددا من الشيوخ ليعوض بهم الخصاص؛ وترخص السلطات قدومهم مرحبة ب(الوهابية) التي يتخوف منها منتصر حمادة! هذا الفكر والسلوك الخطيران هما الأولى بالنقد؛ لما يتضمنانه من خطر على التماسك المغربي وعلى الإسلام الذي عرفه المغاربة مشرقيا مغربيا لا شرقيا ولا غربيا .. وفي الختام أنصح -والدين النصيحة في الإسلام المشرقي والمغربي-؛ السيد منتصر أن يتخلى عن لعب دور الوصي على الوطنية والإسلام المغربي: يدخل إليهما من شاء ويخرج منهما من شاء. كما أدعوه إلى التخلي عن مشاريع الإقصاء والكراهية والتحلي بروح الأخوة الإسلامية والوطنية, فالإسلام يسعنا جميعا والمغرب يسعنا جميعا. والوطنية في حاجة إلينا جميعا لاسيما في هذه الظرفية الحساسة والحرجة التي يمر منها وطننا وتعاني منها أمتنا من مشرقها إلى مغربها والتي تحتاج إلى قدر كبير من التسامح والتفاهم والتوافق والتعاون من أجل وطن يحافظ على أمنه واستقراره ويواصل بناء تماسكه وازدهاره .. (1) الهدية الهادية إلى الفرقة التجانية (ص 17-20) (2) كان ذلك حين مناظرة الشيخ أبي شعيب الدكالي له بمثل ما ناظر به محمد تقي الدين الهلالي في هذه المناظرة. ثم قراءته لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. (3) [قلت: حدثني شيخنا وگاگ عن شيخه الهلالي؛ أن الشيخ محمد بن العربي أحال تقي الدين على مقدم التيجانية آنذاك؛ الشيخ الفاطمي الشرادي، وقال له: إسأله على انفراد وسيشهد لك بأن التيجانية بدعة، ففعل، فصرح له الفاطمي بذلك! وقال: لكننا في زمان لا نملك فيه الجهر بالحق، أو مثل هذا الكلام؛ فاعتبروا يا أولي الألباب!! (4) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (8/121-122).