تشكل المبادرات الذاتية وخلق المشاريع الشخصية من أهم الرافعات الاقتصادية التي تساهم بشكل كبير في الحد من ظاهرة البطالة المتفشية خاصة وسط فئة الشباب من حملة الشواهد العليا. فأمام وضع اقتصادي هش بنسب نمو ضعيفة ومعدلات بطالة مهولة، خاصة بين الخريجين راهن المغرب على التوظيف الذاتي باعتباره احد المخارج المهمة لتشجيع التشغيل وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وذلك من خلال ما تتيحه مثل هذه الشركات الصغرى و المتوسطة المحلية المحدثة من طرف المقاولون الشباب من قيمة مضافة محتملة. نسب بطالة مهولة فأمام : عجز القطاع العام عن تلبية الطلب المتزايد على الوظائف في هذا القطاع من طرف شريحة التي لا تخفي تفضيلها المشروع لهذا القطاع لما له من امتيازات تهم الأمن الوظيفي، الأجر والتعويضات الاجتماعية...، وهي للأسف لازالت غير متوفرة بالشكل المطلوب في: قطاع خاص غير مؤهل بما يكفي ليلعب دوره الأساسي في استيعاب عمالة كبيرة وافدة من: نظام تعليمي منفصل كليا عن الواقع اقتصادي و عن عالم المقاولة واحتياجات سوق الشغل وبالتالي يفرخ ليد عاملة بعيدة كل البعد على أن تجلب له القيمة المضافة المتوخاة. تطورت نسب البطالة بالمغرب بشكل كبير: رقم مخيف لعدد العاطلين بالمغرب وصل إلى 1.20 مليون شخص بمعدل يقدر ب 10 بالمائة، رقم يرتفع إلى اكتر من 20 بالمائة لدى الشباب اقل من 30 سنة، اقتصاد فشل في مواكبة واستيعاب أفواج الوافدين كل سنة حيث لم يتمكن من خلق أكثر من 33000 منصب شغل بين 2014 و 2015 بينما تحتاج السوق إلى 200 ألف وظيفة كل سنة لاستيعاب آلاف الوافدين الشباب من الخريجين (21000 ما بين 2013 و 2014). وهو رقم مرشح للارتفاع بقوة أمام توقعات انخفاض نسبة النمو إلى 1 فالمائة خلال 2016 بسب تراجع نسبة الأمطار، بينما يحتاج المغرب إلى معدلات تفوق 6 بالمائة للتخفيف نسبيا من البطالة. رئيس الحكومة لم يخف عجزه أمام بطالة متفشية أضحت هيكلية، وهو الذي شدد غير ما مرة عن رفضه منطق ربط التكوين بالتوظيف داعيا الشباب إلى عدم انتظار الوظيفة العمومية، كون القطاع العام لا ينت، و بالتالي وجب الحد منها لما تمثله من عبء على ميزانية الدولة، ويدعو في نفس السياق إلى الدخول في دائرة الإنتاج بدل انتظار وظيفة قد لا تأتي. التوظيف الذاتي للحد من البطالة مجموعة من البرامج تم إحداثها رصدت لها ميزانيات ضخمة و ذلك من اجل تشجيع التوظيف الذاتي عبر خلق مشاريع خاصة، وذلك لما له من أهمية قصوى في الحد من عطالة الشباب وخلق فرص العمل وتشجيع النمو. ذلك أن خلق مشروع يعني خلق فرصة عمل لصاحب المشروع ولعدد أخر من العاطلين يتم توظيفهم داخل المشروع ذاته، وهو عدد يختلف من مشروع لآخر حسب طبيعة كل مقاولة. مجموعة من المشاريع الحكومية رأت النور وذلك من اجل احتضان هذه المشروعات و تقديم الدعم اللازم لها ومساعدتها خاصة خلال سنواتها الأولى حتى تستقيم ويشتد عودها، من هذه المشاريع و البرامج نشير على سبيل الذكر لا الحصر: إنشاء المراكز الجهورية للاستثمار، الشبكة الوطنية لاحتضان المقاولات، الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل و الكفاءات، برنامج مقاولتي وغير ذلك من البرامج التي تروم الاستجابة لاحتياجات المقاولين الشباب ومد يد العون لهم من خلال تمكينهم من الوسائل و الإجراءات المناسبة لخلق وتنمية مشاريعهم المبتدئة. لكن الأرقام و الإحصائيات سواء في عدد الشركات المحدثة او في نسب البطالة ومدى استجابة الشباب العاطل للنداءات المتكررة لرئيس الحكومة بالكف عن التظاهر وعن طلب الوظيفة العمومية كحق دستوري، تبين بالملموس تعثر إن لم نقل فشل هذه البرامج في خلق الجاذبية والفاعلية المرجوة كي تكون أداة ورافعة للحد من البطالة وخلق ديناميكية تنموية محلية ووطنية . مجموعة من العوامل يمكن أن تلخص أسباب هذا الإخفاق يمكن أن نلخصها في أسباب ذاتية وأخرى موضوعية. من أهم العوامل الموضوعبة التي تعيق إحداث المقاولات الشبابية و تهدد نموها و استمرارها: مشكل التمويل وسبل الحصول عليه، فرغم المجهودان في هذا المجال إلا انه يبقى ضعيف ولا يرقى إلى المستوى التي يمكن من خلاله تشجيع الشباب على المغامرة. يتلخص هذا العائق أساسا في تردد البنوك في تمويل هذا الصنف من المقاولات في ظل ما تفرضه هذه البنوك من إجراءات احتياطية وضمانات لا تتوفر في لدى غالبية الشباب حاملي مشاريع واعدة وكذا عدم ملائمة هذه المنتجات المالية مع احتياجات المقاولات الصغرى و المتوسطة ناهيك عن جهل جل الشباب، أصلا بقوائم هذه المنتجات البنكية المتوفرة. مشكل المساطر الإدارية المعقدة والتي تكبح أي رغبة في المحاولة لإنشاء مقاولة صغرى إضافة إلى القيود الضريبية المجحفة والتي تعيق نمو و تطور المقاولات دون أن نغفل القيود العقارية و صعوبة الحصول على عقار. دون التقليل من هذه القيود الموضوعية تبقى في نظرنا القيود الذاتية أهم ما يعيق مبادرات الشباب في هذا المجال، وهي القيود التي ترتبط مباشرة بالشاب المقاول، شخصيته، تكوينه، ثقافته وطموحاته وهي شروط ذاتية تلعب المدرسة والأسرة دورا مهما في إنضاجها و اختمارها و من ثم، يتمكن الشاب من الثقة في نفسه ومؤهلاته، يضع مشروعه وأهدافه ويسعى إلى إنجاحه عوض أن يكون انتظاريا سلبيا، كل همه وأقصى غاياته وظيفة عمومية تضمن له الراحة الخلاص. واقع الاسرة التعليم بالمغرب بالرجوع إلى المشروعات الحكومية لدعم وتشجيع الشباب على خلق المقاولات، تبقى في نظرنا برامج سطحية كونها تركز على العوامل الموضوعية وتغفل شخصية الشاب وتكوينه. فرغم البرامج و السويعات القليلة المخصصة لتكوين الشباب في مجال اختيار المشاريع و إجراء الدراسات و غيرها وهي تكوينات في غاية الأهمية، لكنها تبقى دون جدوى في نظر غالبية الطلبة وغير كافية من حيث الكم و الكيف زيادة عن كون المتلقي يجد صعوبة في تنزيل هذه المعلومات على أرض الواقع و ذلك لافتقاره للشخصية المقاولاتية التي تم إغفالها لسنوات خلال التعليم المدرسي فلا يمكن أن ننتظر برامج وتكوينات على قلتها من أجل ضخ عقلية المقاول في شخص الشاب العاطل الذي لا يتوفر على المصوغات الضرورية لتنزيلها و تطبيقها، ومن ثم جني ثمرات تعليم لم يقم بدوره، كونه أغفل تكوين الشخصية المؤهلة و الموهوبة. الشخصية المقاولاتية المؤهلة تتكون منذ حداثة السن عبر المدرسة و الأسرة حيث أن معظم الدراسات تثبت أن سن الطفولة الأولى هي سن تكوين شخصية الإنسان وتنمية المواهب الفردية و القدرات الحسية حيث أن الصورة الذاتية التي تتشكل لدى الطفل منذ الصغر تؤثث لنظرته لنفسه طيلة حياته فإذا نمت لديه صورة سلبية عن مقدرته و مكانته في عائلته و مدرسته استقرت في ذهنه صورة سلبية عن مقدراته و مكانته. فإذا رجعنا للأسرة وجدنا جلها بالمغرب إما بسبب الأمية المتفشية لدى الآباء أو للثقافة السائدة، تحافظ على تلك النظرة النمطية للمدرسة حيث ترى في الطفل ذلك الاستثمار المربح. والربح و الخسارة مرهونتان فقط بالتفوق الدراسي و بعدد الدرجات والترتيب، وكذا الشواهد و المناصب العمومية المحصل عليها. وهي من اجل ذلك لا تراعي في الطفل ميولا ته كما تتناسى إمكاناته وقدراته. فكم من طفل وطفلة أرغما على أن يحققا ما فشل في تحقيقه أبويهما ولم يراعى في ذلك مؤهلاتهما ولا رغباتهما وكم من طفل وطفلة فقدا تلك الرغبة في التحدي واثبات الوجود باكتساب خبرة ومهارة ليست فقط محصورة في التفوق الدراسي. أما المدرسة و المناهج المدرسية في المغرب فهي في مجملها تعتمد أساسا على: الكم مكان الكيف إذ تتميز بكثرة الحشو و الإطناب في المواد و المقررات و التركيز على الحفظ و إغفال تنمية ملكة التفكير و النقاش. فالمدرسة المغربية تفتقر إلى إستراتيجية بيداغوجية باعتمادها على التعلم فقط وإغفالها للخبرة والمهارة فهي تراهن على الحفظ مع إغفال الذكاء، ترتكز على التلقي مع إغفال النقاش والعمل الجماعي الذي يذكي في الطفل ملكة الجرأة والحوار ووضع الأفكار والدفاع عنها. انعدام الحق في الخطأ : العنف اللفظي أو الجسدي الذي يتعرض له الطفل سواء من طرف المعلم أو الأسرة وما يشكله من وأد للثقة في نفس الطفل وذلك بعدم إعطائه الفرصة ليستبين من أخطاءه و يقوم بتصحيحها ومن تم الاستفادة منها. الامتحان للتنقيط فقط عوض أن يكون فرصة للتقييم والنتيجة قبل الخبرة : من المتعارف عليه أن الاختبارات وخاصة في المستويات الأولية إنما هي فقط لتقيم ملكات الطفل ومدى قدرته على الاستيعاب والتحصيل، هي فرصة لاكتشاف نقاط القوة من اجل تنميتها ونقاط الضعف من اجل معالجتها, وذلك من خلال منهاج تعليمي يراعي الاختلاف الطبيعي بين الأطفال عوض ، كما هو الحال في مدارسنا اليوم، أداة للتنقيط والترتيب وخلق المنافسة الغير الشريفة بين أطفال تتكون لدى غالبيتهم بسبب اختلاف قدراتهم الذاتية تلك النظرة السلبية عن مقدراتهم وإمكاناتهم. باختصار، يمكننا القول أن كل النداءات الموجهة إلى هؤلاء الشباب من اجل الكف عن المطالبة في الحق في التشغيل في الوظيفة العمومية, والانخراط في المشروعات الذاتية تبقى في نظرنا صماء، والمشاريع المشجعة في هذا الاتجاه حلولا سطحية ومجتزئة، ما لم تنكب على العامل الذاتي والعنصر الرئيسي ألا وهو الشاب وذلك بالتكوين الفاعل من خلال التعليم والمناهج المتبعة. فسويعات التكوين التي يتلقاها الشاب داخل الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل و الكفاءات واللقاءات التي يقضيها مع مستشاري المراكز الجهورية للاستثمار لايمكن بأي حال من الأحوال أن تملئ الفراغ الذي يشكو منه التعليم المغربي في هذا المجال ولا يعول عليها لتطوير لدى الشباب حاملي الشهادات فكر المقاولة وثقافة المقاولة و شخصية المقاولة الضروريين لإنشاء المشاريع الخاصة. تطوير ثقافة ريادة الأعمال يجب ان تكون وفق تكوين استراتيجي بعيد المدى يبدأ بالمدرسة ومنذ حداثة السنة وينمى طيلة سنوات الاعدادي والثانوي، يصقل ويجسد بالجامعة ويعرض للاختبار بالمتابعة والاستشارة خلال مرحلة إنشاء المشروع, فلا يمكننا خلال هذا المسار الطويل ان نحرق المراحل ونطالب الشباب وهم بعد لم يكتسبوا عقلية المقاولة وروح المقاولة بضرورة المغامرة وإنشاء المشروع. وبعد ذلك ومعه، جب وضع وتهيئة بيئة مواتية لريادة الأعمال بممارسة سياسة مالية ومصرفية تاخذ بعين الاعتبار خصوصية هذه الفئة، وتمكنها من الحصول على الخدمات المالية بتكاليف مناسبة وبآجال زمنية معقولة وبضمانات حقيقية، وكذا تسهيل الإجراءات الإدارية والمسطرية وتسهيل الحصول على العقار بأسعار تفضيلية وهو أمر غير ممكن دون سياسة حقيقية وجادة تحارب الفساد والريع والمحسوبية، التي تعد هذه فئة من الشباب الضحية الرئيسية لها. *أستاذ الاقتصاد بجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال