أنا مجرد طبيب!!.. كل متتبع لوضعية الطب في المغرب يعي جيدا أن علاقة الطبيب بمجتمعه لم تعد على ما يرام، فكثيرا ما يقال عنه إنه قليل الخبرة والكفاءة، عديم الإحساس مجرد من الإنسانية، وأحيانا نصفه باللص المحتال الذي لا يهمه إلا الربح وجني المال. ذهب زمن ابن سينا وابن رشد حين كان الطبيب يُعد حكيما بين الحكماء ويُنظر إليه كواحد من النبلاء. وفي الوقت نفسه لازال مجتمعنا يعتبر الطب مهنة نبيلة، إلى درجة أنه أحيانا ينسى بأنها مهنة لكسب الرزق ويخالها عملا اجتماعيا يزيد في الحسنات ويٌدخل الرَّحمة على الوالدين، وبالتالي فهو يتطلب التضحية بالغالي والنفيس والرّضى بما قسَّم الله !! الطبيب من جهته يرى أنه أمضى شباب عمره في طلب العلم ودرس أكثر من غيره، ولذلك فهو يستحق أن يتقاضى أعلى الأجور وأن تكون له مكانة سامية في المجتمع من الناحية المادية وليس فقط من الناحية المعنوية، كما هو الحال في كافة الدول المتقدمة. هذه العلاقة المتوترة أصبحت جلية في السنوات الأخيرة، وهي راجعة لسوء فهم كبير من الجانبين. فأن تكون طبيبا في المغرب ليس بالأمر الهين، لأن في الموضوع من التحديات والصعوبات والمواقف والطرائف ما يفسر إلى حد كبير السبب وراء سوء الفهم الحاصل.. لذلك علينا ألا نحكم على الطبيب المغربي قبل أن نتعرف على واقعه ونلمس مشاكله وتطلعاته، فهو أولا وقبل كل شيء إنسان يصيب ويخطئ، وهو فرد من هذا المجتمع يتأثر به بقدر ما يؤثر فيه. أن تكون طبيبا في المغرب يعني أنك أمضيت سبعة أو ثمانية أعوام من الدراسة الجامعية بما تتطلبه من جهد ومثابرة وسهر الليالي بكل أنواعها !! وبعد هذا تجد من يقول لك إذا سألك عن مهنتك: "آه ..غِيرْ الطِّبْ الْعَامْ". وإذا أردت أن تصبح طبيبا متخصصا وتتفادى مثل هذه التعليقات يجب أن تضيف إلى سجلك الدراسي أربع أو خمس سنوات أخرى.. ولا داعي للتذكير بالسنوات التي تضيع بين الوثائق الإدارية والإعداد لمباريات الولوج. وفي النهاية لكي تزاول المهنة عليك أن تختار بين القطاع العام والقطاع الخاص، وإن كان الاختيار في حد ذاته غير متوفر للجميع، لأنه مرتبط أساسا بالإمكانيات المادية لعائلة الطبيب. عندما نلج كلية الطب نعتقد أننا دخلنا كلية النخبة، لأنها تضم فقط المتفوقين في الدراسة والحاصلين على أعلى المراتب في امتحانات الباكالوريا؛ بالإضافة إلى ذلك نجد معظم الآباء يتباهون أمام عائلاتهم وأصدقائهم بأن أبناءهم دخلوا كلية الطب وسيكونون أطباء في المستقبل. كل هذا يجعل من طالب الطب يعتقد، ومنذ السنة الأولى، أنه أصبح من علية القوم. وسنة بعد أخرى تكبر الأحلام ويبدأ كل واحد منا برسم تصوره لمستقبله المشرق الذي ينتظره.. وتأتي سنة الحسم ويرتدي فيها طبيب المستقبل بذلة الشرف والافتخار، ويؤدي قسم الطبيب أمام أساتذته وعائلته وكل الأخيار، وتدمع عيون الآباء وتعم الفرحة والسعادة في الأرجاء.. انطلق فأنت اليوم طبيب!! تنتهي أجواء الاحتفال ويستفيق طبيبنا الجديد من أحلام المساء، ويجد نفسه غير قادر على فتح عيادة للطب العام، وذلك لأسباب عديدة؛ فهو لا يملك الإمكانيات الكافية لشراء شقة أو كرائها وتجهيزها بالوسائل الضرورية. وعندما يلجأ إلى الأبناك يجد الأبواب موصدة، فهو لازال مجرد نكرة.. وحتى إذا توفرت الإمكانيات وساعدته العائلة فهو لا يملك من الخبرة والتجربة ما يؤهله لمزاولة مهنة الطب العام، لأنها في حد ذاتها تخصص بما في الكلمة من معنى، وبالتالي سيلاقي صعوبات كبيرة ومنافسة عتيدة من أطباء متمرسين سبقوه للميدان بسنوات ضوئية.. ماذا يفعل إذن؟ اختياران لا ثالث لهما: الالتحاق بالقطاع العام أو ولوج سلك التخصص، وكلاهما يحتاج إلى اجتياز مباراة الولوج. عفوا لا تنطلق !! فأنت لا تزال طالبا يجب امتحانه من جديد، وإن كنت تحمل بين يديك شهادة الدكتوراه في الطب. ونظرا لصعوبة الاختيار الثاني، وقلة المقاعد المتاحة في كل سنة، كثيرون يفضلون العمل كأطباء عامين في القطاع العام؛ وهو ليس اختيارا بقدر ما هو مسايرة للظروف والإمكانيات المتاحة. وبعد النجاح في مباراة الالتحاق بالقطاع العام يجد طبيبنا الذي تخرج حديثا من كلية الطب نفسه في جبال المغرب الشاهقة، يمتطي الحمير ويتعلم كيف يلقي بالدلو في بئر عميقة. ستقولون أين هي الوطنية وخدمة أبناء هذا البلد في الأماكن النائية؟ سأقول أين هو الصيدلي والمهندس والمحامي والموثق وكل المهن الضرورية؟ على الأقل إذا اجتمعوا كلهم سيصبح امتطاء الحمير نزهة بين أصدقاء الطفولة الوردية!! ولمن سيقول إن هذه المهن ليست ضرورية في هذه الأماكن، وهي ليست من الأمور المستعجلة، أقول له: هل تعتقد أن طبيبا حديث التخرج في مستوصف يخلو إلا من بعض الحقن والضمادات يستطيع وحيدا أن يعالج أمور السكان المستعجلة؟. القرى والمناطق النائية تحتاج إلى نظرة شمولية تعيد لها الحياة وتجعلها تلحق بباقي مناطق المغرب التي تعرف إقلاعا اقتصاديا واجتماعيا متميزا، وليس فقط إلى طبيب معدم الخبرة والإمكانيات ومعلم يقضي معظم وقته في جمع حطب التدفئة وهو يعطي بذلك المثل للأطفال عن جدوى طلب العلم والمعرفة.. القرى في حاجة إلى أن تصبح تجمعات سكنية حقيقية تتوفر على كل شروط الحياة المعاصرة من تعليم أولي وثانوي ومستشفى يضم بعض التخصصات الضرورية كالمستعجلات الطبية والجراحية والولادة مع توفير الأطر الطبية والتمريضية الكافية وتحفيزهم بمنح إضافية، فلا مقارنة بين من ينعم بدفء العاصمة وبين من يعمل في هذه المناطق النائية. في الوقت نفسه يجب أن يوجد بالقرى بريد ومؤسسات بنكية وفروع للمؤسسات العمومية، ويلزم ربطها بباقي تراب المملكة بشتى أنواع المواصلات حتى لا يشعر أهلها بالعزلة والدُّونية. هذه هي المواطنة الحقة؛ فلا تجعلوا من الطبيب حجة واهية. وبالنسبة لمن حالفهم الحظ في اجتياز مباراة التخصص فالأمر مختلف نسبيا، لأنهم بعد تخرجهم وعملهم في القطاع العام سيجدون أنفسهم على الأقل في إحدى حواضر المغرب، حتى وإن كانت بعيدة عن المركز فهم سيصلونها بسياراتهم ولن يحتاجوا إلى تعلم سياقة، أو بالأحرى امتطاء وسيلة نقل جديدة. بالنسبة لهؤلاء المشكلة تكمن في الوضعية الاجتماعية التي تُفرَضُ عليهم، حين يترك الطبيب أسرته في مدينة أخرى بسبب عمل زوجته، وخصوصا حين تضطر الطبيبة إلى ترك مولودها الصغير في رعاية الأهل والأحباب. من جهة أخرى فهم يشتكون من نقص الوسائل اللوجيستية والتقنية، الضرورية لممارسة تخصصهم، مما يقيد عملهم ويحد من نجاعته، ويجعل منهم أشباح أطباء. وطبعا لا ننسى الأجر الهزيل الذي يتقاضونه، والذي يجعلهم يرددون في كل مناسبة "أَشْدَّانَا لْهَادْ المِدْسِينْ"... ولتعويض ما يمكن تعويضه يلجؤون إلى القطاع الخاص أسوة بأساتذتهم الذين أعطوهم المثل من قبل ولازالوا يفعلون !! زملاؤهم في القطاع الخاص هم في الحقيقة الأوفر حظا ومشاكلهم تختلف تماما، فهم إلى حدود الساعة يختارون بأنفسهم مكان إقامتهم، وأين يؤسسون عيادتهم. لكن بما أنهم لا يتقاضون أجرا محددا فهم يكسبون عيشهم بالتعامل المباشر مع المواطنين، من خلال رسوم محددة للاستشارات الطبية والعلاجات المقدمة، طبية كانت أم جراحية، وهذه منطقة رمادية مفتوحة على العديد من التأويلات بين ما هو مستحق وما هو تجاوز. وبالتالي فإن العلاقة بين الطبيب والمريض يشوبها انعدام الثقة من الأساس، ويجد الطبيب المتخصص الذي أمضى معظم سنوات عمره الثماني في الدراسة ليصل إلى هذا المستوى، يجد نفسه ينعت بأسوأ النعوت ويوصف بأقدح الأوصاف؛ من جهة أخرى، فهو بدون تغطية صحية وبدون تقاعد، ويواجه منافسة شرسة وغير متكافئة من طرف الأساتذة الجامعيين وأطباء القطاع العام. وفي المستقبل القريب سينضم إلى هؤلاء أطباء أجانب من كل صوب وحدب، لتكتمل علامات الموت السريري. ورغم كل ما قيل، لا بد من الاعتراف بأن هناك أطباء استحقوا كل شيء إلا لقب الطبيب، وأساؤوا إلى هذه المهنة النبيلة، وشوهوا صورتها العظيمة. وهذا طبعا ليس حكرا على مهنة الطب، فهو موجود في كل المهن حين يغيب الضمير وتختل الموازين، وتنعدم الرقابة وتُجَمَّد القوانين. ما نحتاجه اليوم هو الشعور بأننا كلنا مواطنون، نسعى إلى خير البلاد، أطباء ومعلمين وكافة العباد، فمصلحتنا واحدة وهدفنا واحد، وإن اختلفت مهننا وأفكارنا وانتماءاتنا. نحن إذن بحاجة إلى إيجاد نظرة جماعية للأمور والبحث عن الحلول بالتشاور ومراعاة كافة المصالح، فنحن أبناء وطن واحد ولسنا في معركة يسعى كل واحد فيها إلى أن يكون هو الرابح. هذا جزء يسير من واقع الطبيب في بلدنا الحبيب...هل فهمتم الآن لماذا قلت في البداية: "أنا مُجَرَّد طبيب"؟!