توقف كثيرون عند الجوانب الشكلية في الاستفتاء الذي عرفته مصر في الأيام القليلة الماضية، وغاب عنهم الغوص في الجوانب العميقة التي يمكن أن نستفيد منها نحن في المغرب الشيء الكثير. لا يقف الأمر هنا عند الحديث عن إمكانية الانتقال من أوج الديكتاتورية، إلى حد مقبول من الديموقراطية في وقت وجيز، بحكم أن إرادة الشعوب قادرة على تغيير مسارات التاريخ. كما لا يمكن الوقوف فقط عند الانضباط والإقبال غير المسبوق والنزاهة والشفافية التي طبعت لأول مرة استفتاء تعرفه مصر التي أدمنت صناديق الاقتراع فيها على التزوير العام والعلني والمباشر والمفضوح.. بل الأهم من ذلك كله النظر إلى خلفية الصورة.. لقد كتبت قبل أسابيع، أن جماعة الإخوان المسلمين هي الرابح الأكبر من الثورة المصرية، وأن ابتعادها عن الواجهة في لحظات الاحتكاك الحاسمة كان تكتيكا بدأت الجماعة فعلا في جني ثماره انطلاقا من الاستفتاء الأخير. فغير خاف أن الجماعة كانت عراب التعديلات الدستورية، وأبرز المدافعين عنها، وستكون حتما أكبر المستفيدين منها في المستقبل القريب.. فحين وصلت الأمور إلى الجد، لم يبق في الساحة سوى الحركات المنظمة فعلا والقادرة على بناء الاستراتيجيات، والفضل في ذلك - صدق أو لا تصدق- يعود إلى النظام المصري المطاح به. فالانتماء إلى جماعة الإخوان لم يكن من أجل البحث عن الامتيازات أو المناصب، بل بالعكس كانت مجرد شبهة العلاقة معها سببا كافيا للإقامة الدائمة في المعتقلات السرية، والإدمان على وجبات التعذيب، وهذا ما نجح في تطهير "الإخوان" من المرتزقة وصيادي الفرص.. كما أن تدجين كثير من الليبراليين واليساريين والقوميين والناصريين..والجمعويين والمستقلين، مهد الطريق أمام هذه الجماعة لتجد نفسها، بعد الإطاحة بمبارك ونظامه، أقوى تنظيم في الساحة.. وقد اتضح ذلك جلياً من خلال الحملة الداعمة للتعديلات الدستورية، حيث كانت أقوى الداعين للتصويت عليها بنعم، ونجحت في تحريك قواعدها في هذا الاتجاه، بينما رأينا كيف فشل كثير "شباب الثورة" وغيرهم من المطالبين بمجلس تأسيسي ودستور جديد، في تحريك الشارع في اتجاه رفض التعديلات.. وهذه هي قواعد اللعبة الديموقراطية.. إن هذه المقدمة كانت ضرورية، لمحاولة فهم ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية عندنا في المغرب، عندما ارتفع أكثر من صوت للإيحاء بأن جماعة "العدل والإحسان" سطت على حركة 20 فبراير، بل إن ذلك كان من بين المبررات التي تم ترويجها لتفسير التدخلات الأمنية العنيفة في حق المحتجين..في وقفات سابقة.. إنني هنا أتساءل عما إذا كانت جهة ما في مراكز صناعة القرار تعمل من حيث لا تدري على تكرار نموذج "الإخوان المسلمين"؟ فشيطنة جماعة ياسين، واتهامها بالخروج على الإجماع، وتصنيفها كقوة المعارضة الوحيدة في البلاد، واستهدافها بكافة الأشكال، سيجعلنا في النهاية أمام تكرار حرفي للحالة الإخوانية، حيث إن العداء الرسمي لها تحول إلى رأسمالها السياسي، وها نحن نرى كيف أن قيادييها سكنوا بلاطوهات التلفزة المصرية التي كانت محرمة عليهم طيلة عقود، بل أصبحوا المخاطب الرئيسي للمجلس العسكري، وحتى للقوى الدولية التي ترى فيهم حكام المستقبل.. إن محاولة الاستخفاف بالمطالب الشعبية الرامية إلى إصلاح سياسي حقيقي، ومحاولة الالتفاف عليها عبر نسبتها تارة إلى اليسار العدمي، وتارة أخرى إلى الأصولية "المتطرفة"، أمر لا يستقيم مع توجهات أعلى سلطة في البلاد، أثبتت التطورات أنها تلقت الرسالة الشعبية وردت عليها بأحسن منها.. لقد كتب الصحفي الفلسطيني بلال الحسن، أياما قليلة بعد وفاة العاهل الراحل، أن "الحسن الثاني كان صاحب مشروع سياسي دائم، يقدمه، ويشكل بعد تقديمه تحديا للأحزاب، بحيث تجد نفسها تناقش مشاريع الملك السياسية وتتحاور حولها، وفي مراحل سياسية متلاحقة طرح الحسن الثاني مشروع الدستور (وتعديلاته) التي أقرت التعددية..وطرح برنامج العقد الاجتماعي بين السلطة وأرباب العمل والنقابات والأحزاب لكي يوفر مناخا من الاستقرار الاجتماعي يسمح بتطوير التنمية، وطرح قضية التنظيم الجهوي (اللامركزية) لكي يشرك أكبر القطاعات الاجتماعية في عملية البناء، ثم طرح أخيرا قضية التبادل في السلطة، ودفع لكي تتسلم المعارضة الحكم.. ولقد شكلت كل هذه المبادرات تحريكا متواصلا للحياة السياسية المغربية، وأنشأت حالا من الحوار بين القصر والأحزاب، تلقى فيها القصر أفكار الأحزاب وشذبها حسب تقديره لدرجة التطور في المجتمع المغربي، وتفاعل معها حسب تقديره لما هو ممكن التحقق من خلال العمل الديموقراطي بعيداً عن أفكار الانقلابات وما يشابهها." (جريدة الحياة اللندنية 26 يوليوز 1999...) إن هذه المقاطع فرضت نفسها بقوة بعد خطاب 9 مارس الأخير، لأنها كشفت مرة أخرى أن الملكية تسبق الأحزاب بمراحل، وأن قصور هذه الأخيرة مضافا إليه "تدخلات" بعض رجال المحيط، هو الخطر الحقيقي على المبادرات الملكية.. ولا يجادل أحد في أن محاولة جعل جماعة "العدل والإحسان" وحدها سبب الحراك الذي يعرفه الشارع، ومن ثم تحويلها إلى "الفزاعة" التي قد تؤدي إلى "تحوير" التعديلات الدستورية في اتجاه "ما"، لا تختلف - أي المحاولة- في شيء عما جرى به العمل منذ بداية الاستقلال، عندما كانت بعض "الجهات" تدخل على الخط لقطع جسور التواصل بين القصر والشعب بكافة شرائحه ومكوناته وفعالياته..وتخترع أحيانا أعداء وتحاربهم باسم الملك ونيابة عنه..ولا يهدأ لها بال إلا بعد أن يجري وادي الدماء بين القصر والشارع.. وأظن أنه بعد الخطاب الملكي للتاسع من مارس، لم يعد هناك مكان لمثل هذه الممارسات، ولا لمحاولات تهريب الإرادة الملكية، ببساطة لأنه لم يعد هناك مزيد من الوقت لتضييعه. وإذا كانت أوروبا وأمريكا قد أشادت بالمبادرة الملكية، فإن ذلك لا يعني توقيع شيك على بياض، بل لقد تعلمت هذه الدول ضرورة عدم قطع شعرة معاوية مع الشعوب، وأن مصالحها يمكن أن تحمى بشكل أفضل في دول مستقرة وديموقراطية بغض النظر عمن يحكمها. ولا أدري ما الذي يمكن أن يربحه من يروجون لكون جماعة العدل والإحسان واليسار العدمي، هما اللذان يتحركان في الشارع، خاصة وأن التخويف ب"البعبع الأصولي" -أو غيره- سقط بسقوط النظامين التونسي والمصري اللذين كانا رائدين في هذا المجال، إلى درجة أن التحقيقات الجارية في مصر حالياً تؤكد ضلوع النظام في كتابة سيناريو الكثير من العمليات الإرهابية، التي ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء.. لست هنا أدافع عن جماعة تملك أكثر من ناطق باسمها، ولكنني أحذر من تكرار سيناريوهات الماضي التي وفرت الأجواء لصراع دام أكثر من أربعين سنة بين القصر واليسار، قبل أن يتسلم نفس اليسار كثيرا من مفاتيح تدبير الشأن العام، وعلى رأسها الوزارة الأولى ووزارات العدل والاتصال..لكن الكلفة كانت عالية جداً، على الواجهة التنموية، الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الوضع الحرج الذي يمر به ملف الوحدة الترابية هذه الأيام هو أحد رواسب مطاردة اليساريين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما تحول الطلبة الصحراويون المطاردون في الرباط إلى النواة الصلبة لما سيعرف لاحقا بالبوليساريو، ثم الجمهورية "الوهمية" التي يفاوضها المغرب حاليا على أرضية الحكم الذاتي.. إن الدرس المستفاد، سواء من تجارب الماضي، أو من الخلاصة التي خرج بها بلال الحسن في مقاله التأبيني للعاهل الراحل، هو أن الملكية فوق الجميع، ولذلك لم نسمع شعارات ولا رأينا لافتات تخل بالاحترام الواجب للملك، خلال المسيرات التي جابت القرى والمدن المغربية طيلة الأسابيع الماضية للمطالبة بإسقاط الفساد، أو برحيل بعض الوجوه، رغم أن المشاركين فيها قد يصنفون ضمن خانة الراديكاليين والمتطرفين.. وهذه رسالة تكشف أن الوعي الشعبي هو صمام الأمان في هذا البلد، وليس نفاق المنافقين ولا قصائد المادحين، فالشعب يعرف أعداءه جيدا، وقد كتب أسماءهم وحمل صورهم أمام الملإ، وكل محاولة لخلق عدو وهمي للتخويف من المجهول، هي دعوة مفتوحة لإضاعة مزيد من الوقت، بعد الأربعين سنة التي ضاعت في حروب مجانية ضد اليسار وجزء من الحركة الوطنية..ولازلنا نتحمل تبعاتها إلى الآن. يمكن القول في النهاية إن 9 مارس هي لحظة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر، لأنها مدت جسرا نحو المستقبل، وقطعت الطريق أمام مشروع كان يسعى جاهدا لتحويل المؤسسة الملكية، من مظلة لكل المغاربة باختلاف توجهاتهم ومشاربهم، إلى مجرد طرف في صراع حزبي وسياسي ..وكان يراهن على أن يحول الملك من ممثل أسمى للأمة إلى مجرد رئيس فريق برلماني.. [email protected]