نرمي من خلال هذه الورقة الموجزة تسليط الضوء على مسلك دفاعي يقتفي أثره عدد من مثقفي البلد وأكاديمييه، وتحديدا أولئك الذين كانوا "يتوجسون" من إحقاق الحقوق الأمازيغية لذرائع مختلفة (ومنهم من لا يزال على موقفه)، فيعمدون إلى نفي تهمة نصب العداء لهذه اللغة، بترديد عبارات يخالونها ذات حجية، ومنها: "أنا أمازيغي الأصول..."، و"والدتي أمازيغية..."، و"زوجتي أمازيغية..."، وما شابه ذلك من تنويعات الإشارة إلى "صلات القرابة التي تجمع من يسعى إلى نفي التهمة بأشخاص أمازيغيين...". وكذا تنويعات الاعتزاز بشخصيات تاريخية أمازيغية. وهذا ديدن دأب عليه كثير من المثقفين المغاربة منذ انطلاق الشرارة الأولى للمطلب الحقوقي الثقافي الأمازيغي، وظل مستمرا إلى وقتنا الراهن. ورغم وضوح القصد من كلام هؤلاء، فإننا نفضل، حرصا على عدم تقويلهم، ما لا يقصدونه، أن نستدعي أحد بنود آداب النقد التي أثارها دانيال دينيت (Daniel C. Dennett)، وهو يقول:"يتعين عليك أن تجتهد في إعادة صوغ موقف خصمك بوضوح وإتقان تامين، وعليك أن تكون منصفا في إعادة الصوغ هذه، بحيث تجعل خصمك يقول لك: شكرا، تمنيت لو أنني عبرت عن موقفي بطريقتك". وعليه سنسعى إلى إعادة صياغة المقول توسعا وشرحا كي نبسط فهمنا. وكي نعرض مقدار الهافت والمغالطة فيه، وكي نبرئ، بالنتيجة، أي قائل يعني شيئا آخر غير ما سار إليه فهمنا. ولذلك سنعمد إلى استعادة "البَدَهي" من الكلام وتوطينه في سلسلة القول، خشية أن يكون هذا البدهي بدوره محط فهم مختلف. إن المفهوم من مثل هذه العبارات أن المتكلم يقصد الآتي:" أنا أمازيغي، بدوري، ولذلك فليس من المنطقي تماما أن أعادي الأمازيغية ؟"، أو "زوجتي أمازيغية. وهذه حجة دامغة تدل على نقاء سريرتي تجاه الأمازيغية؛ إذ لو كنت معاديا للأمازيغية لما تزوجت امرأة أمازيغية". أما الذين يتخذون حجة "اعتزازهم بأبطال، ومقاومين، وسلاطين أمازيغ..."، فهم يفعلون ذلك في السياق نفسه، ليقولوا ما يلي:" اسمعوا، إن نيتنا صافية تجاه الأمازيغية، والدليل أننا نقف على المسافة نفسها من أبطال البلد ومقاوميه، سواء أكانوا عربا أم أمازيغ. فلو كنا نعادي الأمازيغية، كما تقولون، لحصرنا ثناءنا واعتزازنا على رموزنا التاريخية العربية دون غيرها". يتعلق الأمر، في تقديرينا، بحجاج باطل لا ينفي التهمة، بل يزكيها ويكرسها في مجمل الأحيان. وبيانا سنفصل قليلا في القصد، ونقول إن ما يستلزمه الكلام يحتمل أمرين: إما أن قصد المتكلمين وهم ينعتون القريب (أو المُتَحَجَّج به) بكونه أمازيغيا، أنه أمازيغي اللغة والثقافة، أو أنهم يقصدون بذلك أنه أمازيغي العرق. وفي الحالتين معا لا تفيد الحجة، في تقديرنا، غير تزكية المفارقة والتناقض بين فحواها وفحوى الخلفيات الأخلاقية النبيلة المُعلنة التي يصدر عنها المُتَحدث عنهم (المساواة، تثمين التنوع والاختلاف...). سنبدأ بالاحتمال الثاني، لخطورة اعتناقه من قبل المنتمين إلى النخبة المثقفة، ونعني الاعتقادَ بوجود عرقين متمايزين بالمغرب، أحدهما عربي والآخر أمازيغي، بل وما يتأسس عليه أصلا من لزوم الاعتقاد والانطلاق من فكرة العرق والسلالة؛ لا لتقادمها وفساد مرتكزاتها العلمية والفلسفية، ولكن لما يمكن أن تشيعه من التوترات الاجتماعية. ونحن، وإن كنا نميل إلى استبعادِ اعتقادِ مثقفينا المذكورين بفكرة الأعراق، لأننا نربأ بمثقفين يعيشون في هذا القرن عن اعتناق فكرة النقاء العرقي، لكننا نضعها في الحسبان لأن من شأنها الوقوع على حافر قاعدة كبيرة من القراء، ولا سيما الفئة الحريصة على إثبات نسبها العربي بكل ما أوتيت من القرائن والوثائق، لأن في هذا التأويل ما يزكي سعيها إلى إظهار تمايزها عن غيرها، وما يذكي لديها الرغبة في استبقاء هذا الوهم، طالما لا يزال رائجا على ألسنة فئة من المثقفين. وطالما يستدرون به منافع وامتيازات مادية واعتبارية، بسبب شيوعه لدى فئات اجتماعية عريضة لم يمسها التعليم والتنوير. ونحن لا نرى من حاجة إلى بيان تبعات تكريس هذا الوهم في مغرب القرن الواحد والعشرين. أما إذا كان القصد هو اللغة والثقافة، أو الهوية الثقافية بمعنى أشمل، فيبدو أن هنالك حاجزا منطقيا صوريا يحول دون استيعاب قضية الحقوق الثقافية الأمازيغية من قبل هؤلاء. ذلك أن الانتماءَ إلى جماعة أمازيغية الهوية لا يعني الوقوفَ لزوما إلى صف إحقاق حقوق هذه الثقافة، مثلما لا يعني الانتماءُ إلى جنس "النساء" الوقوفَ لزوما إلى صف إحقاق حقوق المرأة، ومثلما لا يعني الانتماءُ إلى النوع الإنساني الوقوفَ لزوما إلى صف حقوق الإنسان. لأن كثيرا من الأمازيغ مستلبون لا يكترثون بأمر لغتهم وثقافتهم، لاعتبارات ثقافية يطول الخوض فيها، بل إن كثيرا من الأمازيغ يعادون لغتهم وثقافتهم، ويتنكرون لها، ولا يفوتون فرصة دون الاستهزاء بإنتاجها الثقافي، وتخوين من يدافع عنها. وتوسُّعا في شرح الفكرة، نقول إن الذي يعني الأمازيغية كقضية ثقافية وسياسية ليس الانتماءُ إلى الأمازيغية كهوية سوسيوثقافية، ولكن الذي يعنيها هو طبيعة الموقف المُتبنى بخصوصها، والجهدُ الأكاديمي والإعلامي والنضالي الذي يبذله المغاربي (مثقفا كان أم غير مثقف) في سبيل تبويئها مكانتها المستحقة أسوة باللغة والثقافة العربية. وبيانا للمُبَيّن، نقول إن المغاربي العربي اللسان والثقافة، الذي يقف في صف الأمازيغية، ولو كانت مساهمته في ذلك مثقال ذرة، أجدى وأنفع للأمازيغة من المغاربي الأمازيغي اللسان والثقافة الذي يعارض إحقاق حقوق لغته، أو يقف منها موقف الحياد. وعلى هذا الأساس لا تعني حجة هؤلاء شيئا ذا بال، ولو أرادوا الإتيان بما هو أحجى، ونحن نجاريهم في مسلك تبرئة الذمة، لكان عليهم القول مثلا: "أنا أنتمي إلى عائلة من المدافعين عن الأمازيغية..."، أو لكان أجدى وأوقع تأثيرا أن يقولوا مثلا: "زوجتي وأصهاري في طليعة المطالبين بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية". وآنذاك لن يكترث عاقل لأمر هوية هذه العوائل والأصهار، ولن يأبه "لانتمائهم العرقي المزعوم"، وستستوي حينها هويتهم، أمازيغية كانت أم عربية أم شرقية أم غربية أم نورماندية أم لابونية.... فذلك يصبح فاقدا للقيمة، فائضا عن مستوجبات السياق التي تضيف فائدة أو حجية. أو لم تعلمنا البلاغة العربية الكلاسيكية أن الكَلَم لا يغدو مفحما إلا إذا تحرَّى مُرسله التفاصيل الخبيئة في ثنايا المقام الداعي لإصداره. وأن وَقْع الكلام وأثرَه على المستمع لا يتحقق إلا بمطابقة المقال لمقتضى الحال.