منذ أوائل السنة الجارية 2016 إنطلقت الإحتفاليات فى إسبانيا على أوسع نطاق بصاحب " دون كيخوته دي لا مانشا" ميغيل دي سيرفانطيس، تخليداً للذكرى 400 لرحيل هذا الرّوائي العبقري الذي طبع العالمَ الأدبي والرّوائي فى إسبانيا على وجه الخصوص بطابعه الخاص الذي لا ينازعه فيه أيّ مبدع آخر من طينته في هذا القبيل. (سيرفانتيس من مواليد 29 سبتمبر1547 بمدينة ألكالا دي إناريس( قلعة النهر) والمتوفىّ بتاريخ 22 أبريل بمدريد 1616) . إحتفاليات وتظاهرات إفتتحت هذه الإحتفاليات الكبرى - التي ستستمرّ على إمتداد السنة الجارية 2016- بتنظيم معرض فوتوغرافي كبير للفنان الإسباني " خوسّيه مانويل نافيا" تحت عنوان ( ميغيل دي سيرفانطيس..أو الرغبة فى الحياة) فى المقرّ الرئيسي " لمعهد سيرفانتيس الثقافي" بالعاصمة الإسبانية مدريد. زوّار هذا المعرض- الذين يتقاطرون عليه بدون إنقطاع - يمكنهم أن يقفوا فيه على جميع الأماكن، والمواضع، أو الجهات،والمناطق التي زارها سيرفانتيس أو عاش فيها أو صادفته فيها مختلف أنواع الظروف، والمناسبات، والملابسات التاريخية التي لها صلة بحياته،مثل ليبانتو(خليج باتراس)، أو الجزائر، أونابولي،أو ألكالا دي إناريس، (قلعة النهر)، أومدريد، أوطليطلة، أو فى سهول وسهوب أرض" لا مانشا" حيث ينحدر هذا الإسم من الكلمة العربية ( المنشأ) ، تقدّم هذه الصور للزوّار مختلف المعايشات التي عاشها ميغيل دي سيرفانتيس فى هذه الأمكنة ،والتأثير البليغ الذي خلفه هذا الكاتب العبقري فيها من حيث خلق الأجواء والفضاءات التي لها صلة بروايته ، فضلاً عن شخصيات هذه الرّواية وطقوسها أو بعض الأحداث التي نجدها فيها. وسيظلّ هذا المعرض مفتوحاً فى وجه العموم حتى شهر مارس القادم من السنة الجارية 2016. ومن المنتظر أن يتمّ نقله إلى مدن إسبانية أخرى مثل "ألماغرو" ومالقة،وكوينكا، وطليطلة، فضلاً عن إعداد صيغة مصغّرة مكرّرة من هذا المعرض سيتمّ تقديمها فى مختلف المعاهد الثقافية الإسبانية فى العالم التي تحمل إسم صاحب دون كيشوت" سيرفانتيس" ، ويوجد هذا المعرض فى الوقت الراهن فى مدينة " ساو باولو" البرازيلية، ومنها سينقل إلى مدن وعواصم أخرى من العالم الناطق باللغة الإسبانية. هذا كما تنظم نفس مؤسّسة " معهد سيرفانتيس الثقافي" بنفس المناسبة معرضاً آخر فى منزل " ميغيل دي سيرفانتيس" بمدينة ألكالا دي إناريس أو (قلعة النهر) مسقط رأس الكاتب.ويعمل هذا المعرض على تقديم شخصياته الأدبية والتعريف بها ،وقد تمّ إختيار مظاهر ومعايشات متشابهة بين أحداث ووقائع وشخصيات هذه الرواية الكبرى والحياة الخاصة الواقعية للكاتب. هذا كما سيتمّ بهذه المناسبة تنظيم سلسلة من المحاضرات حول هذا الكاتب الذي لم يحظ كاتب إسباني سواه بعناية فائقة،وإهتمام بالغ من طرف الدارسين الإسبان وغير الإسبان، وقد إنطلقت هذه المحاضرات بالفعل منذ أواسط شهر يناير الفارط من العام الجاري وستمتدّ إلى العاشر من شهر فبراير الجاري فى متحف " دار سيرفانطيس" بمدينة فيالدوليد أو( بلد الوليد) ذلك أنّ مغيل دي سيرفانتيس عاش فى هذه المدينة فى الفترة المتراوحة بين 1604 و1606وفيها حصل على الإمتياز الملكي لنشر الجزء الأول من روايته الشهيرة. هذا كما عاش ميغيل دي سيرفانطيس قبل ذلك فى مدينة طليطلة ،حيث تعرّف هناك عام 1584 على المرأة التي ستصبح زوجته وهي كاتالينا دي بالاثيوس التي لم يكن عمرها يتجاوز بعد 19 ربيعاً ،فى هذه المدينة الفريدة التي عرفت معايشات نموذجية بين الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام إبّان الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية ،عاش سيرفانتيس إلى جانب زوجته فى منزل أحد أقاربها،الذي كان يحمل إسم ( ألونسو كيخادا دي سالاثار ) وهو الإسمُ ، و- على ما يبدو أيضاً- الطبعُ كذلك اللذان إستوحي منهما الكاتب المادة الخام لتشكيل وصياغة شخصية بطله فى روايته الذائعة الصّيت دون كيشوت. كما أعدّت المكتبة الوطنية الإسبانية فى نفس السياق برنامجاً بيداغوجياً تعليمياً لتخليد ذكرى مرور 400 سنة على رحيل سيرفانطيس ، يضمّ - بالإضافة إلى المعرض الكبير التي تزمع تنظيمه حول هذا الكاتب الكبير تحت عنوان (سيرفانطيس .. من الحياة الواقعية إلى الأسطورة) أعدّت هذه المكتبة ( التي تعتبر من كبريات المكتبات الإسبانية) سلسلة من الأوراش الدراسية فى الأدب،والنقد، والإبداع، والتاريخ لصالح المعاهد، والمدارس، والأسر،والجمهور على العموم وذلك بهدف التعرّف، والتعريف بهذا الكاتب المبدع الذي تجاوزت شهرته حدودَ بلاده والبلدان الناطقة باللغة الإسبانية إلى العالمية . وبالجملة صادقت اللجنة الإسبانية المكلفة بالسّهر على إحتفاليات تخليد الذكرى 400 لرحيل سيرفانطيس على ما ينيف على 60 تظاهرة ثقافية ينتظر تنظيمها بهذه المناسبة خلال عام 2016 الجاري ، وذلك بهدف تسليط مزيد من الأضواء الكاشفة على شخصية هذا الكاتب الفذ وإسهامه فى عالم الآداب والثقافة فى العالم . ويتبلور البرنامج العام لتخليد الذكرى المئوية الرابعة لسيرفانطيس إلى خمسة إقتراحات رئيسية تشمل الفنون المسرحية، والمعارض،والمؤتمرات، والمنشورات، والموارد الرقمية،وعمليات الترميم وسواها من المشاريع الثقافية الأخرى.فضلاً عن التخطيط للأنشطة الثقافية؛ وخطة البحث. وخطة التعريف بهذه التظاهرة على الصعيدين الوطني والدّولي؛ وخطة تنمية السياحة الثقافية، وخطة التعريف ونشر التراث. وأخيراً، تسليط الضوء على حفلات الرّقص والتعريف بمغامرات سرفانطيس،وتنظيم سفريات، ورحلات ، وإعداد الباليه الكلاسيكي الذي يحمل إسم دون كيشوت للفرقة الوطنية الإسبانية للرّقص والباليه، جميع هذه الأنشطة سيتمّ تنظيمها من طرف معهد الفنون المسرحية والموسيقى،وسواها من المؤسّسات التعليمية، والجامعية، والثقافية الأخرى. بين سيرفانطيس وشكسبير يتصادف الإحتفال بسيرفانطيس خلال العام الجاري 2016 بإحتفال الأوساط العالمية كذلك بعبقريّ آخر فى الإبداع السردي والخلق الأدبي وهو وليم شيكسبيرالذي يصادف هذا العام كذلك هو الآخر الذكرى 400 لرحيله حيث سيتمّ الإحتفال فى كل من إسبانيا وإنجلترا بهذا الحدث الكبير، لتسليط الأضواء على وجه الخصوص على التأثيرات العميقة التي أحدثتها أعمال هاذين العبقريين العالميين فى الآداب العالمية، لقد تمّ فى العديد من المناسبات قبل هذا التاريخ دراسة نصوصهما الإبداعية وتحليلها من طرف المتخصّصين فى كل من إسبانيا وإنجلترا ، كما أن تأثيرهما وصورتهما قد أصبحتا أمراً مألوفاً ومعروفاً فى الأدبين الإسباني والإنجليزي منذ سنين بعيدة خلت، ولقد تمّ بهذه المناسبة إختيار إثنى عشرة كاتباً معاصراً6 من من الناطقين باللغة الإنجليزية، و6 آخرين من الناطقين باللغة الإسبانية ، وسوف يكلف كلّ واحد من هؤلاء بكتابة نصّ دراسيّ نقديّ وتحليليّ ( لم ينشر من قبل) لتسليط الأضواء على الأعمال الأدبية لهاذين الكاتبين العملاقين ( سيرفانطيس وشكسبير)وذلك بهدف تتبع ورصد وإقتفاء، وإظهار تأثيرهما فى العالم ،حيث غالباً ما تعود الشخصيات الأدبية من الناطقين باللغة الإنجليزية إلى أعمال سرفانطيس، في حين يتمّ الرجوع إلى شكسبير من طرف الشخصيات الأدبية من الكتاب الناطقين بالإسبانية. ومن المنتظر أن يتمّ الإعلان ونشر هذه الدراسات النقدية التكريمية أواخر السنة الجارية 2016 فى كلّ من مدريد وبرشلونة ولندن بواسطة موقع إلكتروني ثنائي اللغة ( الإسبانية والإنجليزية) فضلاً عن إصدار كتاب مطبوع يضمّ هذه الأعمال فى طبعة باللغة الإسبانية، وأخرى فى اللغة الإنجليزية، كما سيتمّ تنظيم ندوات ولقاءات ومناظرات أدبية مع هؤلاء الدارسين المتخصّصين خلال مهرجانات أدبية ستنظم خصّيصاً لهذه الغاية فى كلٍّ من إسبانيا وإنجلترا. الجزائر تقترح.. وفيما يتعلق بالتأثيرالذي ربّما ترك ولا شكّ بصماته، وآثارَه فى سيرفانطيس خلال وجوده أسيراً لمدة خمس سنوات بالجزائر، فإنّ هذا البلد الشقيق قد قام بواجبه التاريخي والأدبي - على مستوىً رفيع- ولا يسعنا إلاّ أن نسانده،ونؤيّده فى هذا الصّنيع نظراً لصلة سيرفانطيس به أيام وجوده على الأراضي الجزائرية ،ولابدّ أنّ الكاتب الإسباني العالمي سمع،ونهل،وأخذ،وإحتكّ،وإستفاد،وأصغى إلى العديد من الأساطيرالمتوارثة، والقصص الغرائبيّة، والخرافات الأسطورية ،والحكايات الشعبيّة التي يزخر بها تراثنا الثريّ الزّاخرالمشترك الذي لا ريب، ولا جَرَمَ كان له آثار وظلال على رائعته "دون كيشوت". نناشد الإسبان الإستجابة لها ولنا فى هذا القبيل . إذ كانت وكالة الأنباء الإسبانية " إيفي" قد نشرت بتاريخ 28 أكتوبر2015 فى هذا السّياق بالفعل خبراً مفاده أنّ الوزير الاوّل الجزائري السّيد عبد المالك سلال، كان قد إقترح على إسبانيا تنظيم تظاهرة ثقافية كبرى فى الجزائر خلال شهر أبريل 2016 تخليداً للذكرى 400 لرحيل سيرفانطيس" ، وكان قد قال لسفير إسبانيا فى الجزائر "أليخاندرو بولانكو" :" ينبغي لنا أن ننظّم شيئاً مشتركاً بهذا الخصوص، خاصّة في مغارة سيرفانطيس". وهو الكهف الذي إختبأ فيه الكاتب الإسباني أثناء محاولته الفرار للمرّة الثانية عندما كان أسيراً فى الجزائر ، وتشير " إيفي" أيضاً :أنّ الوزير الأول الجزائري كان قد تحدّث حول نفس الموضوع كذلك مع مديرة " معهد سيرفانطيس الأسباني" بالجزائر،حيث عبّر لها عن رغبة بلاده فى تنظيم تظاهرة مشتركة فى البلدين المتوسطيْن حول سيرفانطيس" .وصرّحت مديرة المعهد الثقافي الإسباني الآنف الذكر لنفس الوكالة الإخبارية الإسبانية فى هذا الخصوص أنّ مؤسّستها الثقافية بصدد دراسة مشروع حول السّنوات الخمس التي قضّاها سيرفانطيس فى الجزائر،والعلاقة القائمة بين عمله الأدبي الشهير ووجوده بشمال إفرقيا، كما أشارت أنه ليس هناك أيّ شكّ أنّ الجزائر كان لها تأثير فى خلق الشخصية الأدبية لسرفانطيس..ولكن إلى أيّ حدٍّ أوإلى أيّ مدىً كان هذا التأثير؟...تُرى ماذا تمّ فى هذا الشّأن، وهل ستستجيب إسبانيا للمقترحات الجزائرية فى هذا القبيل ؟ّ!. رحلات في عوالم الأحلام على إمتداد العام الجاري 2016 ستعيش الأوساط الأدبية فى مختلف أنحاء المعمور وبشكل خاص فى إسبانيا والعالم الناطق باللغة الأسبانية فعاليات تخليد الذكرى 400 لرحيل الكاتب الإسباني العالمي ميغيل دي سيرفانطيس صاحب الرّواية الذائعة الصّيت "دون كيخوته دي لا مانشا" ،نالت هذه الرّواية الرّائعة إعجاب عباقرة الأدب، وفرسان الإبداع العالمي مثل:"غوته" و"روسّو" و"فلوبير" و"لاروتشي" و"هين" وكوتيير" و"تين " و"كونديرا " و"رولفو" وغاسيا ماركيز" و"باشيكو" و"بورخيس" :وميغيل أنخيل أستورياس،والقائمة طويلة. كما كان لهذه الرّواية تأثير بليغ وواسع في الآداب العالمية على إختلافها،وكانت وما تزال محطّ عناية وإهتمام الدارسين والنقّاد منذ صدورها حتى الآن.ومن بين هؤلاء الباحث والقاصّ المكسيكي "هيرنان لاسابالا" الذي وضع عنها كتاباً هامّاً تحت عنوان: "الحكايات في دون كيخوته" عالج فيه جوانب الحبّ فى مختلف أشكاله، والحريّة فى معناها الواسع، والخيال المجنّح الطليق. يتّسم نصّ"لاسابالا" بالثّراء والتنوّع والعمق، وهو يتطلّب تعدّدية لا حصر لها من القراءات ، وقد سلك الباحث عند دراسته لرواية سيرفانتيس أسلوبا نقديا تحليليا يعتمد على المقارنة، وتتبّع مختلف القصص والروايات والطرائف والأخبار التي حيكت حول هذه الرواية . يشير الباحث المكسيكي : أنّ رواية "سيرفانتيس" تقوم في الأساس على ثلاثة محاور أو أبعاد أساسية هي: الحب ّ، الحريّة .الخيال. وهي العناصر التي طبعت حياة بطل الرّواية التائه المتجوّل الهائم على وجهه في قرى ومداشر وضيع قشتالة، في مكان لا يريد أن يتذكّره وهو " لامانشا " (المنشأ ). هناك العديد من النظريات التى تحاك حول أخبار رواية "دون كيخوته"، وحول مؤلّفها "ميغيل دى سيرفانطيس ساهافيدرا".من الإدّعاءات التى تروج في هذا السّبيل حول هذه الرّواية أنها لا يمكن أن تكون سوى عمل" مسيحى جديد" إذ كما هو معروف فإنّ رودريغو دي سيرفانطيس والد الرّوائي كان جرّاحاً وتلك هي المهنة التي يمتهنها المرتدّون حديثاً. أضف الى ذلك عنصراً آخر وهو أنّ مؤلّف "دون كيخوته" كان يعشق إمرأة كانت تسمّى" أنا رودريغو دي روخاس" التي تنحدر من أصل" فيرناندو دي روخاس"وهو يهودي مرتدّ كذلك، صاحب الرّواية الشهيرة فى الأدب الإسباني "لا ثيليستينا "ومن المدافعين عن هذه النظرية الناقد المستعرب والمؤرّخ الاسباني المعروف "أمريكو كاسترو"، وهكذا يلجأ المؤلف المكسيكي إلى إختيار أمريكو كاسترو كأوّل مصدر في كتابه للإشارة،والاستدلال على تداخل الروايات أو الحكايات في "دون كيخوته". وهناك من يقبل بهذا التداخل، كما أنّ هناك من يرفضه مثل المؤلف"سابالا" نفسه الذي يلجأ إلى البحث والتحرّي عن الصلة الداخلية بين مختلف الفصول وبين المجموع ككلّ . إشارات وتأثيرات يتتبّع المؤلّف في هذا القبيل" الفهرس التحليلي" للرّواية الذي وضعه "خورخي بارغوا"الذي جمع فيه قصصاً وروايات وحكايات قصّة سيرفانطيس، حيث يشير "بارغوا" في البداية أنّ "دون كيخوته" نشر لأوّل مرّة على مرحلتين أو دفعتين إثنتين الأولى (1605) في مدريد، وقد أعيد طبعه في العام الواحد خمس مرّات ، ثم جاءت ترجماته إلى اللغتين الفرنسية والانجليزية فضلاً عن 16 طبعة جديدة . ويشير "لاسابالا" أنّ النجاح مثل العسل يجلب الذباب، إذ في عام (1614) ظهر ما أطلق عليه ب:" دون كيخوته " المزوّر، الذي شكّل تكملةً أو إستمراراً لمغامرات "الفارس المتجوّل النبيل" ظهر في مدينة " طرّاغونة" وكان يحمل توقيع " ألفونسو فيرنانديث دي أفيانيدي" .وكان "سيرفانطيس " منهمكاً في كتابة الجزء الثاني الذي يكمّل روايته الحقيقية ويعجّل باستكمالها حيث ظهر هذا الجزء منشورا سنة (1615) أيّ بسنة واحدة قبل وفاته. ويعترف المؤلف "لاسابالا" بأهمية المعلومات التي قدّمها "بارغوا" في هذا القبيل حيث نراه يعتمد على تحليلاته الأدبية والتاريخية . كما أنّ المؤلف المكسيكي يلجأ في الوقت ذاته إلى تتبّع كافة الأخبار والنظريات المتعلّقة بالتأثيرات المتداخلة والمتشابكة في كتاب "دون كيخوته" ، ويقدّم في هذا الصدد وجهات نظر متعدّدة أخرى حول هذا الكتاب الذي يعتبره من أكثر الكتب قراءةً في العالم .ولإعطاء مثال على ذلك نجد المؤلف يسرد مصدراً آخر لرواية "سيرفانطيس" وهو كتاب " أسير الجزائر ". ويؤكّد من جهة أخرى التأثيرات العربية في رواية سيرفانتيس حيث تكثر وتطفو على سطح هذه الرّواية العديد من الأسماء ،والأخبار، والأماكن، والحكايات ،والعادات، والتقاليد،والأعراف العربية والأمازيغية، بل حتى مؤلفها سيرفانطيس يعيد ويكرّر فيها إسم عربي أو أمازيغي موريسكي وهو"سيدي أحمد إبن الأيّل" (حسب المستشرق خوسّيه أنطونيو كوندي والباحث عبد الرّحمن بدوي )، أو "سيدي أحمد بن برنجل " وهو إسم عائلة أندلسية من دينية "(حسب المرحوم الدكتور محمود علي مكّي) .وقد ورد هذا الإسم في روايته بحروفه اللاتينية كما يلي: (cid hamete benengeli). ونظراً لغموض بعض النّصوص، فإن "سابالا" يقول:إنه من الصّعب مثلاً قبول عدم الإكتراث الذي تعامل به "سورايدا" (تحريف عن الاسم العربي ثريّا) والدها بحجّة إنصرافها إلى أرض المسيحييّن أو النصارى ، فسورايدا تبدأ في سرقته ثم تغشّه وتسمح للآخرين بسرقته، وينتهي بها المطاف بالقرار المجحف، وتقبل بأن يصبح أبوها من الرهائن. إنّ المؤلف "لاسابالا" في تحليله وتأويله لهذا العمل يرجع بنا إلى "شكسبير " (1546-1616) ذلك أنّ تصرّف "مُورَا سُورايدا" يشبه بشكل واضح تصرّف " جيسيكا " مع أبيها "شايلوك " في مسرحية " تاجر البندقية " الفرق القائم في هذه الحالة هو أنّه إستبدل المغاربة أو العرب باليهود. أحلام في المغارة إنّ بطل قصّة "ميغيل دي سيرفانطيس "دون كيخوته" قد تكون نتاج حلم من الأحلام التي تتراءى للنّائم في الكرى.كان الأقدمون يعتقدون أنّ الحلم إن هو إلاّ رحلة الأرواح خارج أسرها الجسد، و"دون كيخوته" عندما ينزل في مغارة "مونطيسينوس" فإنّما هو يقوم برحلة تمتدّ وتستمرّ في أحلامه، أين توجد الحقيقة، وأين يوجد الخيال في هذا الأمر.. ؟ إنّ موضوع الخلق أو الإبداع في الأحلام قد تعرّض له كثيرون منهم "خورخي لويس بورخيس" الذي يقول:" في الأحلام نبتدع بطريقة سريعة نخادع معها تفكيرنا،ونغالطها بما نحن بصدد إبتداعه". ويقول كذلك" لا شكّ أنّ الأحلام عملية جمالية ، بل إنها أقدم تعبير جمالي للإنسان"، فالظرف الإبداعي لدى "دون كيخوته" يتقوّى عنده بدخوله وإنغماسه في حلم طويل في مغارة مونطيسينوس. إن عنصر الحلم في عصر "سيرفانطيس " أمر معروف كمصدر أدبي وإبداعي، وهناك العديد من الأسماء الأدبية التي إستعملت الحلم كمادة لإبداعاتها ، وكمنهل لإنتاجاتها الأدبية مثل " لوبيّ دي فيغا "، و"فرانسيسكو كيبيدو"، و"ميدرانو"، و "خوان كولونا "،و"بيدرو دي طابلاريس"،و"خوان أنييس"،وخيرونيمو دي لوماس" و"بورخيس" نفسه، وقبلهم "المعرّي" ،و"إبن طفيل" ،و"إبن عبد ربّه"، و" دانتي" كل هؤلاء وسواهم جعلوا من الأحلام مواضيع لأعمالهم الأدبية ، والفنّان الإسباني الكبير "فرانسيسكو دي غويا"كان يقول:" إنّ حلم العقل ينجب صوراً غريبة الخلقة".! و"دون كيخوته" نفسه يروي أنّه عندما كان نازلاً داخل المغارة شعر بنوم عميق . وعنصر الزّمن من الأهمية بمكان في الحلم ، فساعة منه قد تساوي أيّاما ، وهو الذي يؤكّد لرفيقه "سانشو": " لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال مقارنة شئ بشئ" إنه بذلك كان يزرع بذور نظرية النسبية أربعة قرون قبل "أنشتاين ". فدون كيخوته في قصّة سيرفانطيس هو بطل وراوية في آن واحد. والكاتب في خضمّ خياله المجنّح يقف على أرض الواقع، أيّ أنه يبدأ بحادثة قد تكون حقيقية ليعطي لخياله نوعاً من المصداقية ، المغارة ومحيطها السّحري والزماني هي في ذات الوقت : المتاهة، الجحيم ، أو العالم الآخر ، كما يسمّيه "سانشو" هذه المغارة ليست أفقية، بل إنها عمودية ، وعند نزول "دون كيخوته" فيها يعيد للأذهان رحلات عشتار، وجلجامش، وإبن عبد ربه، ودانتي، وأبي العلاء المعرّي . إنّ دون كيخوته يجد في الأسفل أشياء تذكّره بما هو موجود في السّطح. إنّ البطل يدخل في قدر يقوده من الحمق إلي التعقل، أي من الحياة الي الموت. يقول أحد أبطال شكسبير في عصر قريب من عصر سيرفانطيس: " أن تنام ، أن تموت"،وهكذا يلتقي النوم مع الموت، ويفسّر ذاك بذاك،فدون كيخوته قد دخل في موت عابر، وخلو يناسب عصره ويتماشى مع زمانه ،وبالتالي يمكن قراءته، وفهمه، وإستساغته،وقبوله كمخلوق من مخلوقات العالم الآخر،وهو في الجزء الثاني من الرواية يجعله سيرفانطيس يحضر جلسة من جلسات السّحر، والتنجيم ،فهو إذن مهيّأ ومتأهّب للدخول في عالم الأموات - مملكة الكثيرين- كما يسمّيه الأقدمون ،والخروج منه ،والمسافة تبدو بعيدة وسحيقة في الوهلة الأولى بين عالم اليقظة والحلم، أو بين عالم الأحياء والأموات، وهي في الواقع مسافة قريبة جدّاً،يصفها شاعرنا العربيّ القديم في أعمق، وأبلغ،وأدقّ وصف مجسّداً بذلك الشعورَ التراجيدي والدرامي المتناوش المتفجّر الضّارب فى القدم ، فيقول: حَسْبُ الخليلين نأيُ الأرضِ بينهما / هذا عليها وذاكَ تحتها بالي. إنّ نظرة "دون كيخوته" الزّائغة والضبابية في المغارة لها تفسيرعلمي لا محالة بعيداً عن خيال الإبداع وقوّته وزخمه، فالمغارة بنتوءاتها الجيولوجية الضاربة فى القدم توحي بتركيب الأجسام وتشكيلها ببقايا الحيوانات الفوسيلية ،والنباتات الفطرية المبللة العالقة بها منذ آلاف السنين والتي لابدّ أنها قد تحلّلت فأنتجت مواداً كربونية عندما يستنشقها دون كيخوته يشعر بنوع من التسمّم يبدو أثره الأوّل في الشعور بالإسترخاء، والرّغبة في النوم، فتتبدّد وتتبعثر الصّورأمامه، فيعتريه بعض الدّوار أو التخدير، وهذه الحالة يذكرها ويكرّرها دون كيخوته من أوّل القصّة إلى آخرها ،وهو نفس الشعور الذي يصفه مكتشفو المغارات ، فالبخار الكاربوني جعل " الفارس المتجوّل النبيل ببلاد المانشا "يفتح مغاليق العقل ويرخي لخياله العنان . ولابدّ أنّ دون كيخوته خلال رحلته إلتقى ورأى في نومه العديد من الشّخصيات التي يذكرها في سياق مغامراته، وشطحاته التي أذهلت وأخذت بمجامع وقلوب الملايين من القرّاء في العالم. إنّ سيرفانطيس إذا لم يكن قد ثبت أنه قد زار ورأى مغارة مونطيسينوس، فلابدّ أنه عرف مغارات أخرى شهيرة توجد على مقربة من مدينة " الجزائر " عندما كان أسيراً بها والتي تجعل من يدخلها يشعر بنفس التأثيرات المذكورة. ويرى الكاتب المكسيكي " أليخاندرو أكوستا" معلّقا على هذا الموضوع : أنّ سيرفانطيس في الواقع عندما كتب روايته الشهيرة، فإنّما هو ربّما كان يصف ويسترجع معايشات شخصية، فهو يتحدّث عن الأحداث كأنّه عاشها بالفعل، ولابدّ أنه ظهرت له رؤى ومشاهدات إنطبعت ورسخت في ذهنه وخياله فبسطها في قصّته. ويشير الباحث أنّ "دون كيخوته" تتوفّر فيه كلّ الشروط بأن يكون رائياً أو مشاهداً أو مبتكرَ أوهامٍ وأضغاث أحلام بقامته، وهامته، ووجهه المستطيل، وعينيه الغائرتين ،وحساسيته المفرطة، وطبعه الهائم، وميله للتعظيم والأنفة والخيلاء،إنّ حمقه اللحظي يتفجّر ويتشظّى في حالةٍ من الحمق الدائم ،ويتساءل الباحث:هل كان سيرفانطيس في حاجة إلى تنويم "دون كيخوته" ليريه شطحاته،وخيالاته، وأوهامه،وهواجسه في حين أنه قبل ذلك في جنح الليل أمكنه مشاهدة طواحين الرّياح العملاقة والعجيبة..؟!.** *-عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا - ( كولومبيا). **- تحريراً فى " حيّ المزمّة " أجدير – الحُسيمة.