بعد مرور ثلاثة عشرة سنة على دخول الجيل الأول من الإصلاحات همت الفضاء السمعي البصري المغربي، أصبحت الحاجة ملحة إلى جيل ثان من الإصلاحات كإطار لاستيعاب المستجدات والتحديات المطروحة على قطاع الاتصال والإعلام بالمغرب . وفي هذا الإطار نص الدستور المغربي الجديد على الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري ( الهاكا ) كهيأة دستورية تنضاف إلى المؤسسات الدستورية القائمة والمستحدَثة، وهذا يكتسي أهمية بالغة و قيمة مضافة، حيث منحها الدستور نفس المرتبة التي منحها لباقي المؤسسات الدستورية الأخرى. مؤسسة الهاكا ، كما هو مسطر في القانون المنظم لها و الصادر سنة 2002 ،تسهر على الاحترام التام لمبادئ التعددية، وحرية التعبير في قطاع الاتصال السمعي البصري، وفي احترام تام للقيم الحضارية الأساسية والقوانين الجاري بها العمل في المملكة. وإذا كان التنصيص على الهيأة العليا للاتصال السمعي -البصري يمنحها الصفة الدستورية ويرقى بها إلى مصاف المؤسسات والسلطات الدستورية وسيكون لقراراتها قيمة قانونية وقوة إلزامية ، فإنه لن يكتب لها النجاح ما لم تتوفر إرادة سياسية فعلية تساعد على تقوية دورها التقريري في القضايا التي تحال إليها ، وذلك من خلال ملاءمة القانونين المنظمة للقطاع الاتصال السمعي البصري مع المستجدات الدستورية وتعزيز مبدأ استقلالية الإعلام و احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية. لا ننكر أهمية هذه المؤسسة في تقنين ومراقبة الإعلام العمومي ببلادنا ، حيث أصدرت الهيأة قرارات مهمة بشأن كثير من الاختلالات الصادرة من طرف بعض الهيآت الإذاعية والتلفزية. لكن قضية رئيس “جمعية منتدَى الطفولَة” أظهرت محدودية اختصاصات الهيئة في حماية حقوق المواطن من استفزازات البرامج الإعلامية ، كما طرحت نقاشا مهما حول ديمقراطية وفعالية هذه المؤسسة الدستورية. فقد سبق أن تقدم رئيس هذه الجمعية إلى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، بشكاية بخصوص مادّة إشهاريّة في التلفزيون العمومي تهمّ مجموعة الضّحى العقاريّة ، يبرز فيهَا الممثل البشير السكيرج ناعتا المغربيات ب”العُقُوبَات”، والمروّجة لمنتوج “الضحَى”، غير أن الهيئة لم تستجب لشكايته وأجابته سلبا على اعتبار أن المادة 4 من الظهير المحدث للهيئة حددت الهيئات التي لها الحق في التقدم بشكايات إلى أنظار مجلس الهيئة وهي الأحزاب والنقابات والجمعيات ذات المنفعة العامة. و من هذا المنطلق ، سبق لي في إحدى المقالات أن أشرت إلى أن قانون 2002 المنظم للهيئة لم يعد منسجما مع دستور سنة 2011 الذي منح للمواطنين إمكانية التقدم إلى البرلمان بمقترحات قوانين وعرائض تهم السياسات العمومية والطعن في دستورية القوانين في إطار نزاع أمام المحاكم العادية، وكتبت أيضا أنه حان الوقت لملاءمة القانون المحدث للهيئة مع الدستور الجديد لمنح الإمكانية لأي مواطن باللجوء إليها ، خصوصا وأن هناك العديد من المواطنين تضرروا ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، من برامج إذاعية و تلفزية من جراء برامج مسيئة ومستفزة للأسر والأفراد ، دون أن يكون لهم الحق في الشكوى وطلب رد الاعتبار. و مما لا شك فيه ، أن الهاكا ووزارة الاتصال فطنتا إلى ضرورة تطوير القوانين المؤطرة للفضاء السمعي البصري وملاءمتها مع مقتضيات دستور 2011 و مواكبتها للتطورات التي شهدها مجال حقوق الإنسان بالمغرب . وفي هذا السياق ، أحيل على البرلمان مشروع قانون يقضي بتتميم قانون 2005 المتعلق بالاتصال السمعي البصري ، ويهدف إلى وضع مقتضيات توجب على متعهدي الاتصال السمعي البصري العمل على النهوض بثقافة المساواة بين الجنسين والمساهمة في محاربة التمييز بسبب الجنس ومحاربة الصور النمطية السلبية القائمة على النوع الاجتماعي ، إضافة إلى منع الإشهار الذي يتضمن إساءة للمرأة أو يروج لدونيتها أو للتمييز بسبب جنسها. و أيضا مشروع قانون يقضي بتتميم قانون 2002 المتعلق بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ، ويركز هذا المشروع الجديد بالأساس على تقوية استقلالية الإعلام العمومي وتطوير آلياته . وكنت أتمنى أن يتضمن التعديل الذي سيطرأ على قانون 2002 المتعلق بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ، حق المواطن في تقديم شكاية إلى الهيئة إسوة بالأحزاب و النقابات والجمعيات ذات النفع العام ، أو على الأقل إتاحة هذه الإمكانية إلى هيئات المجتمع المدني التي لا تتوفر على شرط المنفعة العامة. فضلا عن تحديد الأجل الذي تكون فيه الهيئة ملزمة لإصدار قرارها على إثر شكاية. فقد حان الوقت ، أن تنفتح الهاكا على المواطنين وأن تكون مؤسسة مرجعية في مجال الاتصال السمعي البصري من خلال جودة العمل والدراسات النوعية و إحداث بوابة إلكترونية خاصة بالهاكا ، تتميز عن البوابة الحالية من حيث الاحترافية ، كما هو الشأن في فرنسا ، و تعد واجهة مع المواطنين ، تتضمن مواضيع تتعلق بالتقنين والبحث و الدراسات والممارسات الإشهارية و المساواة والتنوع في وسائل الإعلام السمعية البصرية و دور المقننين و شركاء التقنين و العلاقات مع المؤسسات العمومية الأخرى والفاعلين المقنَنين والمجتمع المدني. وأيضا نافذة خاصة بالمواطنين لتقديم ملاحظاتهم واقتراحاتهم ، التي قد تفيد أصحاب القرار بالهيئة . ينبغي أن تخرج الهاكا من جلبابها التقليدي لتنفتح على المجتمع و أن تتميز عن بعض المنظمات غير الحكومية المهتمة لقطاع الإعلام والاتصال ، التي أصبحت تنافسها في إنجاز دراسات تهم قطاع الاتصال السمعي بالبصري . فمؤسسة الهاكا يجب أن تكون مرجعا في مجال تعزيز مبدأ استقلالية الإعلام واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية ، وكل ذلك في إطار احترام حقوق وحريات المواطنين من جهة و حماية المجتمع من جهة أخرى. *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية