إذا كان الدستور المغربي لسنة 2011 منح الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري- المعروفة اختصارا ب "الهاكا"- الصفة الدستورية ورفعها إلى مصاف المؤسسات والسلطات الدستورية مما سيجعل قراراتها تحظى بالقيمة القانونية والقوة الإلزامية، فإنه لن يكتب لها النجاح ما لم تتوفر إرادة سياسية فعلية تساعد على تقوية دورها التقريري في القضايا التي تحال إليها من خلال تعزيز مبدأ استقلالية وحرية الإعلام واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية، وقيادة حكيمة على رأس الهيئة ومستوعبة لمهنة الإعلام من حيث الخبرة ومستجدات العصر والتغيرات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع. وعلاقة بالموضوع، نشير إلى حدث مهم في مجال تطور الإعلام ببلادنا، حيث صادق مجلس النواب، بالإجماع خلال جلسة عامة عقدها مؤخرا، على مشروع قانون رقم 11.15 يتعلق بإعادة تنظيم الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا). وسيمكن هذا القانون الهيئة من أدوات جديدة، بهدف إرساء مشهد سمعي بصري متنوع وتعددي، يكرس قيم الكرامة الإنسانية ومحاربة كافة أشكال التمييز وترسيخ الهوية الوطنية في تعددية مكوناتها، مع احترام التنوع اللغوي والثقافي والاجتماعي والمجالي للمجتمع المغربي، والسهر على تجنب الاحتكار في ملكية وسائل الاتصال السمعي البصري. ويتضمن المشروع مقتضيات أساسية تتعلق بإمكانية تلقي المجلس الأعلى لشكايات، من مجلسي البرلمان أو الحكومة أو المنظمات السياسية أو النقابية أو جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالشأن العام، تهم خرق أجهزة الاتصال السمعي البصري للقوانين أو للأنظمة المطبقة على قطاع الاتصال السمعي البصري، فضلا عن تلقي شكايات من قبل الأفراد في هذا الصدد. وبالرجوع إلى مقتضيات القانون المنظم للهيأة، نجدها تتكون من المجلس الأعلى للاتصال السمعي-البصري (الجهاز المقرر للهيئة أو ما يسميه البعض مجلس الحكماء)، والمديرية العامة للاتصال السمعي-البصري (الجهاز الإداري والتقني المهيء لأعمال المجلس والجهاز التنفيذي لقراراته)، ومصالح أخرى. وقد أثبتت تجربة "الهاكا"، منذ إحداثها والشروع في مهامها، كفاءة الأطر الإدارية والتقنية بهذه الهيئة في مجال مراقبة الفاعلين في القطاع السمعي البصري ومدى احترامهم لما جاء في دفاتر تحملاتهم والقوانين والأنظمة المطبقة على القطاع، وأيضا في ما يتعلق بحماية التعددية السياسية والثقافية على مستوى الاستفادة من خدمات الإعلام العمومي أو الحضور والتمثيل في الفضاء الإعلامي، وضمان حرية الإعلام واستكمال مشروع تحرير القطاع. كما أثبتت الممارسة أيضا تفوق الجهاز الإداري والتقني بمؤسسة "الهاكا" من حيث المهنية والخبرة على المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري بهذه المؤسسة، الذي ينعت بمجلس الحكماء، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى موافقة هذا المجلس الأعلى على كثير من التقارير والقرارات دون الإلمام بحيثياتها، وذلك، في اعتقادنا، بسبب عدم إلمام حكماء الهيئة بكل الجوانب المتعلقة بالموضوع المطروح عليهم لمحدودية خبراتهم في مجال قطاع الاتصال السمعي البصري، وبالخصوص الجوانب التقنية لهذا القطاع. ولهذا لا نريد أن يكون المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، باعتباره الجهاز المقرر للهيئة، فقط مجلسا شكليا، يجتمع مرة في الأسبوع، للمصادقة على القرارات والتقارير المعدة له سلفا على ما هي عليه، بل ينبغي أن تكون له مكانة علمية ومهنية رفيعة، تجعل له القدرة على التوجيه والإبداع والاجتهاد وتصحيح أخطاء الجهاز الإداري والتقني بالهيئة إن وجدت، وهذا يتطلب الكفاءة المهنية في أعضاء المجلس. إن تجربة الهاكا حققت مكتسبات مهمة في مجال دمقرطة الإعلام العمومي، وأثبتت القدرات المهنية لكل مكوناتها الإدارية والتقنية. وهذا رصيد قد يفتخر به المغرب الذي التزم بالمشي قدما في طريق إرساء مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون. كما أن القانون المرتقب والمتعلق بإعادة تنظيم الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري سيمكنها من أدوات وآليات جديدة بهدف إرساء مشهد سمعي بصري متنوع وتعددي في مستوى تطلعات المغاربة. لكن ينبغي مستقبلا اختيار أعضاء المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، من بين الخبراء متنوعي الاختصاصات والمتوفرين على مسار مهني وأكاديمي في مجال الإعلام والاتصال والعلوم الاجتماعية والسياسية وكذا الخبرات التقنية، بالإضافة إلى تنوعهم الثقافي والفكري والإيديولوجي، حتى يكون على رأس الهاكا، في المستقبل القريب، مجلس فعلي للحكماء، على خلاف التعيينات السابقة التي اعتمدت على إرضاء بعض الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان وبعض المعتقلين السياسيين السابقين الذين نكن لهم الاحترام.