كثيرا ما نسمع عن دور العائلات في السياسة، وعن قدرتها على اختراق هذا المجال والتغلغل في كل ثناياه و جزئياته، و تسخير كل فاعليه خدمتا لمصالحها و حاجيات افرادها، و كثير منا عاش تجارب مريرة مع هذه العائلات النافذة التي تشكل سلاسل حديدية تطوق العديد من التنظيمات السياسية و المدنية، وتمنع أي محاولة لبروز فاعلين سياسيين و نخب خارج افرادها و مكوناتها. والنظرة المتفحصة والمتأنية لواقع الأحزاب السياسية المغربية و نخبها و قياداتها ستدفع و بلا شك الى ادراك هذه السيطرة و السطوة التي تتميز بها مجموعة من العائلات التي امتهنت السياسة منذ الاستقلال او قبله، بحيث يتناوب افراد او أبناء هذه العائلات و بشكل سلس على قيادة هذه التنظيمات جيل بعد جيل ، مستمدين شرعية وجودهم السياسي من انتماءهم لهذه العائلة او تلك. و تتميز هذه العائلات بقدرتها الكبيرة على الحفاظ على وحدتها و تكاتف افرادها و تدبير طموحاتهم بشكل يضمن وجودها المهيمن ، عبر تسويق نفسها و افرادها كنخب سياسية قادرة على قيادة المجتمع و تنظيماته السياسية و المدنية ، كما تبتعد هذه العائلات فيما بينها عن منطق الصراع المصالحي العشوائي الذي يغلب طرفا على اخر ، بل تنحو نحو التكامل و التضامن العائلاتي ، و تقوية الروابط التي تجمع فيما بينها ، عبر المصاهرة فيما بين افرادها و ابناءها ، او عبر تشبيك مصالحها الاقتصادية ضمانا لاستمرار سطوتها و هيمنتها . و يتزعم هذه العائلات عرابون يرعون مصالح افرادها و ابناءها ، و يوزعون الأدوار بينهم و يلبون طموحاتهم بشكل يخدم مصالح العائلة ، و عادة ما يكون هؤلاء العرابون مقربين من الدائرة الضيقة للحكم، او يشغلون مناصب حساسة في الدولة ، بحيث يسهل عليهم تدعيم مسار هذه العائلات و الحفاظ على تواجدها و قوتها . و لا يخضع افراد او أبناء هذه العائلات لنفس مناهج و مساطر التأطير السياسي التي يخضع لها باقي افراد المجتمع داخل الأحزاب السياسية بتدرجهم في مختلف تنظيماتها و درجات مسؤولياتها ، بل ينظمون مباشرة الى مراكز قيادة هذه الأحزاب او الإطارات المدنية بعد إتمام تحصيلهم العلمي و المعرفي الذي يكون عادة خارج المغرب ، معتمدين على تجدر عائلاتهم و تشعب علاقاتها داخل هذه التنظيمات، و يتم تقديمهم في تحمل المسؤوليات التمثيلية داخل الدولة باسم الحزب الذي ينتمون اليه على باقي المناضلين، بغض النظر على كفاءتهم او اقدميتهم داخل هذا الحزب . و تعتمد هذه العائلات خلال تدبيرها للممارسة السياسية داخل الأحزاب السياسية و التنظيمات المدنية على منطق الولاء و الطاعة و احتكار المعلومة، و على تضخيم منطق الشرعية التاريخية، و على اقصاء او ابعاد كل العناصر التي يمكن ان تشكل تهديدا على افرادها او ابناءها ، بحيث لا تسمح الا للخاضعين لإرادتها و توجهاتها بالاستمرار في هذا الحزب او ذاك ، لتتحول الأحزاب و الإطارات المدنية لمقاولات عائلية ينقسم أعضائها الى قسمين اساسين ، قسم المساهمين الذين يملكون اسهم في هذه المقاولة ( أبناء العائلة )، و قسم العاملين بهذه المقاولة الذين يتقاضون اجرا مقابل عملهم ( عموم المناضلين) ، و الذين لا يحق لهم باي حال من الأحوال المناقشة او التطاول على اختصاصات العائلة . و قد شهدنا مؤخرا نوعا من الثورة و التمرد على هذا الواقع العائلاتي داخل بعض الأحزاب المغربية و خاصة الأحزاب الوطنية التقليدية ، حيث انتفضت مجموعة من المكونات على هذه العائلات و على سطوتها ، و قامت بإبعادها و ابعاد افرادها عن قيادة هذه الأحزاب ،مستغلين حالة الضمور و الانحسار التي يعرفها عرابو هذه العائلات داخل الدائرة الضيق للحكم و بروز نخب جديدة من خارج دائرة العائلات السياسية استطاعت الحلول مكانها . و قد يبدو الامر في الوهلة الأولى انه نصر مؤزر للنخب و الطاقات المجتمعية على هذا المنطق العائلوقراطي الاستبدادي، لكن الامر لا يتعلق الا بثورة للتابعين و للمليشيات التي تربت في كنف هذا العائلات ،و التي سلطت على رقاب المناضلين و قمعت كل حركية مجتمعية حقيقية داخل هذه الأحزاب السياسية بتحريض و دعم من العائلات التي كانت تجثم على قيادة هذه الأحزاب. فما وقع للعائلات السياسية يشبه الى حد كبير تلك المأساة التي عاشتها روما القوية التي بنت حضارتها على منطق القوة و استعباد الشعوب المستضعفة و القضاء على كل انتاجاتها و معارفها و علومها في مقابل فرض سيطرتها و هيمنتها عليها، الى ان ثار عليها البرابرة الذين كانوا يعيشون على جنبات و حدود هذه الإمبراطورية العظيمة و قضوا على حكمها و دمروا معالمها و هدموا حضارتها و استعبدوا ابناءها، دون ان يأسسوا حضارة بديلة ، بل كان هدفهم القتل و التدمير و الانتقام لا غير . والكل يتابع اليوم ما يقوم به هؤلاء الذين يقودون الأحزاب السياسية المغربية و خاصة الأحزاب التقليدية و الوطنية ، من تدمير و تقويض لأركانها وهدم لبنياته و تنظيماتها ، و طرد لمنضاليها ، و تصفية لتركتها و موروثها السياسي، دون أي هدف يؤطر عملهم و ممارستهم . فما يشهده واقعنا السياسي اليوم هو نتاج طبيعي لسنوات و عقود من الاستبداد و الهيمنة العائلية على الحياة السياسية المغربية و على الياتها الحزبية و المدنية، تمكنت خلالها من تعطيل الدورة الطبيعية للمجتمع في انتاج النخب و الكفاءات الشعبية القادرة على تسير دواليب الشأن العام ، و فوتت على المغرب فرصة إرساء حياة سياسية سليمة و ديمقراطية ، تشكل فيها الأحزاب السياسية مؤسسات وطنية حقيقية لإنتاج النخب و تأطير الكفاءات و الطاقات الخلاقة التي يزخر بها المجتمع المغربي .