خلف قضبان السجون ما خلفها من مآسي وكوارث لا يعلم بشدتها إلا السجين نفسه ، ووراء قضبانها ما وراءها من معاناة نفسية وجسدية لا يقدر على وصفها إلا من حكم عليه بالسجن قضاء وقدرا ، وإذا كان السجن هو المكان الطبيعي لفئة من الناس فشلت في ترويضها على احترام القانون واحترام حقوق الغير كل المقاربات الأمنية والتربوية والنفسية ومختلف السياسات " الإدماجية " ، فإن السجن أيضا قد يتحول في دولة لا تعرف لسلطة القضاء استقلالا ولا تعترف بشروط المحاكمة العادلة إلى مكان يشهد على ظلم يفوق كل التصورات ويتخطى كل الحدود . وإذا كنا نسمع عن أنباء انتحار سجين بهذا السجن أو ذاك نتيجة مرض نفسي ألم به أو بسبب ظروف أخرى وننظر لهذا الأمر بأريحية غالبة أو بشفقة عابرة فإن تطوع مجموعة من السجناء بعدة سجون في هذا البلد للموت إما عبر إحراقهم لأجسادهم أو شنقهم لأرواحهم أو ترديهم من أسوار عالية يقتضي منا وقفة جدية على الأسباب التي تدفع هؤلاء للإقدام على هكذا فعل حتى لا تتحول سجون المملكة من مراكز للعقاب والإصلاح إلى مقبرة الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود . مناسبة هذا الكلام نداء وقعه أزيد من سبعين معتقلا ضمن ما اصطلح على تسميته إعلاميا وأمنيا ب " معتقلي السلفية الجهادية " ، النداء الخارج من غياهب سجن سلا وصفه أصحابه ب " نداء الشهادة " ، وهو وصف يحمل عدة دلالات تحتمل عدة تأويلات أبرزها ما تجاوز نطاق التنظير والتحرير ودخل حيز واقع مشهود رصدته كاميرات هواتف محمولة سجلت في دقائق معدودات مشاهد توضح لمن ألقى السمع وهو شهيد أن هؤلاء المعتقلين فقدوا الأمل في كل شيء ، وأن اليأس من تصديق الوعود المسؤولة ومسايرة التسويفات والشعارات المرفوعة والمقدمة لهم كل يوم قد بدأ يدب إلى نفوسهم الواحد تلو الآخر ، وأن الثقة في محاورين أمنيين يجعلون من سياسة العصا والجزرة منهجا في التعامل مع هذا الملف الشائك فيعدون تارة بالحل النهائي ويتوعدون تارة أخر بأبشع أنواع العقاب ما عادت تلقى مكانا في أوساطهم أبدا ، وإذا كان منطق العقل يقول بأن المقدمين على إحراق أنفسهم أو الذين يحاولون الانتحار من أعلى سجن سلا في هذه الأيام يستحيل أن يكونوا منتمين ل " السلفية الجهادية " ما دامت أدبيات هذه " السلفية " تحرم جملة وتفصيلا كل الأشكال النضالية التي قد ينتج عنها إزهاق للروح ، وأنهم إذا كانوا منتمين للسلفية الجهادية فإن تهديداتهم ب " الانتحار الجماعي " تنم عن تحول جذري في أدبياتهم الفكرية ، فإن منطق الوقائع القديمة والجديدة يقول بأن الدولة بالإضافة إلى ما تعرفه السجون المغربية من سوء تدبير على كافة المستويات هي التي دفعت هؤلاء المعتقلين إلى تصعيد أشكالهم النضالية وذلك من خلال اعتمادها في حل هذا الملف الذي أزكمت روائحه كل الأنوف على مقاربة أمنية صرفة اتسمت بالتشدد والانفراد في كل شيء بدءا من تحرير " ملفات المعتقلين " وتغييب شروط المحاكمة العادلة وغير ذلك مما تمتلئ به تقارير المنظمات والهيآت الحقوقية المحلية والدولية وكذا عدم التمييز بين من تلطخت يداه بالدم ومن كان يحمل في فكره تطرفا ثم قام بمراجعة فكرية شاملة أو جزئية ، ومرورا بالتكتم الشديد على ما اعتبر حوارا مع شيوخ " السلفية الجهادية " وما عرفه هذا الحوار من إقصاء بين وجلي لكافة مكونات المجتمع المدني من علماء وفقهاء ومفكرين ومثقفين وسياسيين وحقوقيين وما كان يقتضيه من تهيئة أرضية مشتركة حتى يدلي كل واحد على حدة بدلائه للخروج بآراء ومواقف متفق عليها تجنب المغرب مالا يحمد عقباه وهو ما لم يقع رغم النداءات المرفوعة منذ 16 ماي 2003 ، ونهاية بتجريم كل من يشكك في الروايات الرسمية المتعلقة بتفكيك الخلايا الإرهابية النائمة هنا وهناك وإضفاء طابع من القداسة والتنزيه عن تلك الروايات . ما لم تفهمه الدولة ومسؤولوها ومنظروها الأمنيون هو أن " الإرهابيون " أو " المتطرفون " أو " السلفيون الجهاديون " هم أولا وقبل كل شيء بشر ينتمون لهذا الوطن ويحتاجون إلى الرحمة أكثر من غيرهم لأنهم وقبل أن يكونوا جناة وجدوا أنفسهم ضحايا لمظاهر " إرهابية " من نوع خاص ، منها ما يرتبط بالسياسة ومنها ما هو اقتصادي واجتماعي ومنها ما هو فكري وثقافي ، والدولة جنت على هذه الفئة من المجتمع حين قصرت فيما مضى في جانب التوعية الدينية ، وأخطأت حين لم تواجه التطرف الديني مواجهة شرعية معتدلة ، وأخطأت باعتمادها على سياسة تضييق الخناق على الحركات الإسلامية التي تنبذ العنف وتتبرأ منه ، ومازالت تخطئ حين تصر على اعتماد واعتبار المقاربة الأمنية كمقاربة وحيدة ونافعة وناجعة لحل ملف يشغل الرأي العام المحلي والدولي ويسيء إلى سمعة المغرب ويضر كثيرا بمصالحه وبقضاياه المصيرية . إن المطلوب اليوم من الدولة المغربية إن هي أرادت طي صفحة الماضي المؤلم وعدم نسخه على صفحات من الحاضر هو إيجاد آليات جذرية ووسائل حقيقية لطي ملفات عديدة عبّر جزء من الشعب المغربي عن رغبته في إيجاد حلول آنية لها خلال وقفات ومسيرات 20 فبراير و 20 مارس ومن أبرز تلك الملفات ملف المعتقلين على خلفية الإرهاب ، وأولى هذه الآليات والوسائل المساعدة على طي هذا الملف هو إعادة محاكمة من لم يتمتع بشروط المحاكمة العادلة ، وتبرئة من لم تتلطخ يده بالدم المغربي ، والدعوة إلى حوار وطني تحت مرأى ومسمع الكل تشارك فيه كل التلاوين السياسية والتيارات الدينية والأطياف الفكرية وباقي المكونات لبلورة قناعات مشتركة يتفق عليها الجميع للخروج بوطن لا ضرر فيه ولا ضرار ، فليس الخطأ أن نعترف بالخطأ ، ولكن الخطأ أكبر الخطأ هو الاستمرار في الخطأ ، وهذه الاستمرارية في الأخطاء هي التي أججت نيران الثورات التي نشهدها اليوم في العالم العربي ، وهي من أنجبت لنا حركة 20 فبراير وهي التي تجعل من الوطن غفورا رحيما أمام البعض من أبنائه وقاسيا إلى أبعد الحدود على البعض الآخر من أبنائه . .. والله أعلم ... فقد أكون على خطأ ، وقد أكون على صواب يحتمل الخطأ . http://www.goulha.com