النسخة الثالثة لحكومة بنكيران أقبح و أشنع من سابقاتها وتبزها قاطبة في رداءة الأداء السياسي المكبوح، موبقاتها أضحت تتناسل باضطراد محموم لا فكاك منه، تعري بما لا يدع الشك زيف لعبة الواجهة الحكومية التي اضطلعت ببريقها الخاذع وتجشمت مسؤولياتها المفروغة من قرار التحكم فيها تحكما حقيقيا و فعليا !. لكن الجديد في هذه النسخة الهجينة من حيث تشكيلها الإيديولوجي المتعارض و من حيث اشتغال كل مكون من مكوناتها على حدا مع مركز السلطة الحقيقي، الموازي و العميق هو أن كل أوراق التوت تساقطت هذه المرة عن جسد الفريق الحكومي لبنكيران وفضحت سوءته الكبيرة والمزمنة و التي لا تعدو أن تكون عقمه وشلليته التامة إزاء القرارات النافذة التي تصاغ من قبل الصناع الحقيقيين الموكولين من طرف القصر والتي تنزل على كراكيز حكومته المنتخبة (أقولها بتحفظ) ليقوموا بتنفيذها بعدئذ بأمانة المؤمن بقدر المخزن'و جبرية قضائه ،" فلا معقب لحكمه و لا راد لقضائه " !. لم يعد بإمكان الآلة التنظيمية التي ما انفك أهل العدالة و التنمية يتبجحون بسطوة اذرعها و اعتداد قيادتهم بالتزام و وفاء القواعد و التحامها التاريخي معها أن تستمر في إقناعها بوجوب الإيمان و التسليم بالفتاوي الحكومية والرضوخ لأحكامها بتلك السهولة واليسر الذي قوبلت به في البدايات الحكومية لأنه بكل بساطة لقد طفح الإناء الحكومي بما فيه من انصياع كامل لسياسات المخزن الممالئة لمصالحه ومصالح دائنيه الرأسماليين والتي رشحت بالمزيد من الفقر والغبن شرائح عريضة من الشعب المغربي بما فيه جمهور التابعين و تابع التابعين من أهل العدالة و التنمية !. فسؤال الحال اذن و بمنطق عدم التسرع اللجوج بإدانة هذه الحكومة الصورية لكونها مأمورة من قبل المالكين الفعليين لزمام الأمر و النهي بهذا البلد السعيد هو إذا بات الأمر كذلك في حكم أن فاقد الشئ لا يعطيه فلماذا أصر إذن بنكيران و معه حزبه التليد بقبول هذا العرض المخزني الملغوم لحكومة مقصوصة الجناحين بلا حول و لا قوة ؟؟ . لعل أن الجواب على هذا السؤال الأزلي أزلية لعبة السلطة التي ظل يديرها المخزن المغربي و عبره القصر كامن في تفسيرين لا ثالث لهما ، منهما و من خلالهما يمكن ان نستشف التصاق بنكيران بكرسي الحكومة رغم كل المثبطات التي تكالبت عليه في عهد الحكومة الثانية و نفهم أيضا لماذا لا يزال يعض عليها بالنواجذ!. أولهما مردود إلى طبيعة الخيارات السياسية المصيرية التي رهنت و لا تزال ترهن الأحزاب المناوئة تاريخيا للمخزن و الخارجة عن سلطة يده، إذ أن الطبقة السياسية المغربية التي تخندقت في صفوف المعارضة على اختلاف مشاربها الإيديولوجية وتنوع تجاربها السياسية والتنظيمية وعلى مدار كل عقود الاستقلال الشكلي أنجرت وراء سراب تقاسم السلطة مع مالكها التقليدي تحت ذرائع امتدت من محطة بناء الدولة الوطنية ومرورا بجدلية الوحدة الوطنية والمسلسل الديمقراطي ثم وصولا إلى مقولة دولة الحق و القانون التي لا نزال نراوح شعاراتها إلى الآن !. إلا أن جل محاولاتها وأمانيها ظلت ترتطم أمام جدار السلطة المطلقة للقصر و تتهاوى كالهشيم المدروس تحت مناورات آلته المخزنية المتحكمة، وبالتالي تعصف بشكل بئيس ومأساوي بتلك المقولة السياسية الكاذبة بتكذيب الوقائع التاريخية لها بإمكانية التغيير البطيء والمتدرج من داخل المنظومة السياسية المخزنية نفسها من دون اللجوء إلى رهانات التغيير السلمي من المجتمع و إلى المجتمع من خلال الارتباط العضوي بواقعه المعيشي اليومي . فالارتماء التاريخي لملاعبة المخزن من داخل هياكل ممخزنة بإحكام أو محاولة تلطيف سلطويته المطلقة بجره إلى الإقرار و تبني الممارسات الديمقراطية ابتداء من المبدأ الكوني لفصل السلط والحيادية التحكيمية للمؤسسة الملكية أو التناوب على السلطة من خلال الشرعية الانتخابية وغيرها من مقدسات الدولة الديمقراطية ليس فقط أن مثل هذه المراهنة باءت بالفشل الذريع أمام تصلب القصر وعدم تزحزحه قيد أنملة عن ثوابته المطلقة بل إن كل مغامرة سياسية قام بها زعماء سياسيون ذوو ثقل تاريخي في الحركة الوطنية و جزء من أحزاب اليسار التقليدي و الآن بصدد استهلاكها القيادي الإسلامي بنكيران تلاها اندحار تنظيماتهم السياسية و انتحارها في مستنقعات السياسة الشكلية ، لذلك إذا كان بنكيران بدوره يحلم واهما ان بمستطاعه إجبار المخزن على قبول جزء من مشروعه الإسلاموي للحفاظ على رأسماله الجماهيري و بالتالي مقايضة النظام من موقع الندية فإنه لا محالة مقدم على إفلاس تاريخي بحجم الكارثة بتمريغ ما تبقى له من هالة واحترام داخل بيته الحزبي في وحل السياسات اللاشعبية التي تمليها عليه حكومة الظل المتنفذة، حينها سينفض عنه الأتباع تباعا كما كان عهد الأولين من قواعد الاتحاد الاشتراكي التي تآكلت مع حكومة التناوب الأولى على عهد عبد الرحمان اليوسفي! . أما الوازع الثاني الذي يفسر التشبث الشديد لبنكيران بأهداب حكومته المتآكلة هو ما أؤوله بالوعي المسبق والبرغماتي بالمآل الحتمي والمنطقي للجثث السياسية من زعماء محنطين بلا زعامة حقيقية و إطارات حزبية مهجورة ، خاوية الأعراش. فإزاء الوتيرة الجهنمية لمسلسل طأطأة الرأس أمام وابل سياسات التقشف المنزلة من الاستراتوسفير الأعلى لهرم السلطة ، المملاة بندا إثر بند من طرف مهندسي السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدوائر المالية الدائنة لا محالة أنه سيقصم ظهر هذه الحكومة الإسلاموية وسيعقبه بعدئذ انفراط متصاعد للخيط التنظيمي للحزب باستفحال نزيفه الجماهيري يوما بعد يوم ، قرارا بعد قرار ، ثم ستليه ظهور حركات الردة للكثير من القواعد و كفرها بجدوى الاستمرار و الانخراط ضمن هياكل حزب أخذ يفقد براءة خطابه وصار يلطخ شعاراته منذ انسلاله إلى دهاليز السلطة من دون أن يجسد من داخل دينامية الحكم ولو النزر اليسير من برنامجه السياسي ، هذا إن كان لديه برنامج بالمفهوم المتداول في العلوم السياسية ، و هكذا عند كل نهاية معلومة لقصص التدجين و الاحتواء للمخزن المغربي مع كل حكومة معارضة جديدة فإنه لا و لن يبقى في جعبة بنكيران سوى الذوبان الكلي في لعبة تقمص صورة الوزير الأول الأصم ، الأبكم ، الأعمى ثم الإذعان التام للتوجيهات الفوقية الحكيمة مع الاستمرار بالتمتع من امتيازات و فضائل و مكرمات النظام الريعي و تأثيث الحاشية المخزنية بخادم جديد من خدام الأعتاب الشريفة مثله في ذلك مثل من سبقه من منقرضات سياسية كخصومه و أعدى أعدائه من زائغي أهل اليسار التقليدي !. في الأخير لن أبالغ القول بأن الجزم بهزالة هذه الحكومة ليس خافيا على أحد ، غير أن ما دركته جماعة الحكم على عهد بنكيران أنها أوصلت السياسة المغربية إلى حافة العبث بأخلاقياتها و مقتضياتها الاحترافية و انحدرت بها لمستويات دنيا لم يشهد لها مثيل في حوليات التاريخ السياسي الحديث بالمغرب و هو ما ينذر بآفاق مكفهرة للاشتغال السياسي في المستقبل المنظور لا تبعث على كثير من الأمل في عالم يسوده القلق من كثرة التقلبات و القلاقل !.