1. زلات غير مسؤولة.. تثير تصريحات السيد رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران، العفوية وغير الموزونة، زوابع وردود فعل، غالبا ما تتحول إلى قضايا رأي عام، تتبناها فئات وهيئات اجتماعية، وسياسية، وتحولها إلى معارك لا تبقي ولا تذر. وقد تتطور، فتخسر منها الحكومة، وسمعة السيد بنكيران، الذي يظهر أنه لا يهتم كثيرا بسمعته، ولا بمستقبله، فضلا عن مستقبل حزبه وإخوانه، الذين ينصرونه ظالما ومظلوما،...الشيء الكثير. ففي الدول التي تحترم نفسها ومواطنيها، يحرص حكامها على تجنب تقديم تصريحات شفوية عابرة، للصحافة أو لغيرها، حتى يدققوا في الأقوال والأحكام. فتجدهم، رغم الثقافة الواسعة، والقدرة الخارقة على الارتجال، والبراعة في المناظرة، والإقناع؛ يتوسلون بالورقة المكتوبة، بعد أن تمر بين يدي مستشاريهم، في تقديم تصريحاتهم السياسية للإعلام، وخلال المناسبات الحكومية أو الدولية. وإذا وقع أن زلَّ لسانهم، في ندوة صحافية، أو في تصريح عابر، بما يمس ذوي الحقوق، أو ينتقص من ذكاء الشعب، أو يسيء إلى طائفة منه؛ قدموا استقالتهم،.. أو اعتذارهم، كأضعف الإيمان. 2. الشيخ والمريد.. أما عندنا؛ فالثقافة التي رسخها المخزن المغربي في مناهج تعليمنا المهترئة، ووسائل تربيتنا البائدة، وتوارثناها أبا عن جد؛ هي ثقافة السمع والطاعة في المنشط والمكره. وهي، بالمناسبة، إحدى المُحدِّدات الانضباطية لحركة بنكيران وإخوانه، كما تشير إلى ذلك الورقة المذهبية للحركة إياها. فليس مستغربا أن يسخر السيد بنكيران من "سواسة"، في حضرة الكثير منهم، ثم تسمع قهقهاتهم تتوالى داخل القاعة، ربما أكثر من سواهم (بما لهذه القهقهة من خلفية سميائية عكسية حينما ترد في سياق المدح أو الذم). فليس ذلك إلا بسبب هذه التربية المطيعية (نسبة للطاعة وليس للشيخ مطيع)، التي تُحَوِّل الشيخ إلى أيقونة لا ينطق عن الهوى، حتى في حالات البَسْطِ، وسَقَطِ الكلام. (السقوط فيما ظلت الحركة تنقمه على جماعة ياسين ثمانينيات القرن الماضي !!). بل الغريب حينما ينتقل بعض هؤلاء المحسوبين على "سواسة"، إلى مدافعين شرسين، أكثر من غيرهم، على سقطة بنكيران، ويبحثون لها عن ألف مبرر ومبرر، ويبرئون نوايا السيد بنكيران من قصدٍ يسخر من "سواسة"، في حين أن السيد بنكيران لم يحرك ساكنا، ولم يكترث لكل هذا الغليان المشتعل، وكأنه لا يعنيه في شيء؛ بل لم يتجشم أن يقدم مجرد اعتذار عابر، وهو ممثل الشعب المغربي، كل الشعب، الذي أساء إلى جزء أصيل وعظيم منه. 3. السباحة ضد التيار.. فهل نكثرت لرد فعل السيد المعتصم السوسي، الذي اكتفى بقهقهات مثيرة في حق شيخه المبجل؟، أم نكثرت لنشاط كتائب الحزب السوسيين غير العادي، الذين حولوا الفضاء الأزرق إلى ساحة للمرافعة عن الشيخ بنكيران في السخرية من معيشهم، ومعيش آبائهم وأجدادهم، رغم غناهم...؟ !!، في حين لم نكد نسمع لهم صوتا، أو نحس لهم ركزا، في ملف المعاشات الذي أشعل الفيسبوك، ومواقع التواصل الاجتماعي، ولم يخمد أواره بعد؛ حيث توقفت أقلام العديد منهم، عند ويل للمصلين. وكأن هذا الملف لا يعني عشرات البرلمانيين والمستشارين، الحاليين من الحزب الإسلامي، وأمثالهم ممن تقاعد منهم على هذا الريع المُريع. فأين غابت أصواتهم المرتفعة عن تتتبع هذا الريع في صفوفهم؟!. ولِمَ لمْ يقودوا حملاتهم الصاعقة ضد هذا الفساد الذي يتربع عليه مناضلوهم البرلمانيين والمستشارين؟. وهم، للأسف، مَن بَنَى حملته الانتخابية على محاربة الفساد والاستبداد !!. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) {الصف:2-3}، بل إن شعار "الحركة" يحاكمهم إلى أفعالهم:( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) {هود:88}. ونفس الكلام نوجهه لكافة مناضلي أحزاب اليمين واليسار، الذين اكتفوا برمي قذائفهم تجاه خصومهم، وغفلوا عن هذا الفساد الذي يتربع في صفوفهم.( ولنا عودة إلى هذا الموضوع بإذن الله). 4. صورة السوسي عند الآخر.. نعم، قد نلتمس لزلة بنكيران بعض العذر، إذا استحضرنا صورة السوسي في أذهان أهل البيضاء، والرباط، وسطات، والمحمدية، وسواها من المدن التي حلَّ بها السوسي، وظل يجد ويكد، ويواصل الليل بالنهار، حتى كون لنفسه وأهله ثروة من ماله الخاص والحلال. فكان "الْعْرَبْ" يعتبرون هذا النجاح، المؤسَّس على حسن التدبير، وإتقان فن التجارة، والتسوق، و" الماركتنج "، ناتجا عن بخل وليس عن مهارة، وحنكة،... فالسيد بنكيران ليس إلا واحدا من ضحايا هذا الوَهْم، ولم ينطق إلا بما تٌبِّث في ذهنه، وأذهان الكثير من الناس، من أن غنى السوسي حاصل من بخله (أو أو بعبارة أظرف:"اقتصاده"(!)؛ من قبيل تسمية الرشوة بالقهوة !!) ، وليس من مهارته في إتقان فن التجارة، أو من صبره وكده واجتهاده. ولكن، أن يحول هذا الوهم السمج، إلى مادة ل"قفشاته" وتنكيتاته يؤثث بها مجالسه، ولقاءاته، وهو رئيس الحكومة المغربية، والممثل، دستوريا، لكافة الشعب المغربي. فمِمَّا لا يستقيم أن يصدر نظيره من أمثاله.. 5. البخل صفة لا ترتبط بطائفة.. ثم إن هذا البخل الذي يوسم به السوسي، ليس صفة لصيقة بهذا العرق، ولا حتى عامة بين أفراده. فقد عرف البخل منذ خلق الله الإنسان، وتحدث عنه الأنبياء، والفلاسفة، والأدباء، والشعراء، والمفكرون، وعرفه الغرب والشرق سواء. فقد ذكرته الثوراة، والإنجيل، والقرآن، وكتب عنه الجاحظ وهو يشرِّح حالة جماعة من الأعراب، وليس من "سواسة"، وكتب عنه الأديب الغربي فيكثور هيكو، وهو يقدم نماذج من بخلاء الغرب المسيحي. فالبخل صفة ترتبط بأفراد، وتعرفها كل القوميات، والأعراق، والشعوب،...فليس خاصية تميز السوسي دون بقية العالمين. ففي "سواسة" بخلاء، وفي "العرب" بخلاء، وفي الأوروبيين بخلاء، وفي الأمريكيين بخلاء، وفي الصينيين بخلاء،...بل وفي العلماء والصالحين بخلاء !. 6. البخل الحقيقي... فإذا كان البخل العادي والمقبول، لا يرتبط بعرق دون عرق، ولا بقومية دون قومية، بل بأفراد من الناس رغم اختلاف أجناسهم؛ فإن أدهى البخل وأخطره هو بخل الحكومات والدول على شعوبها. فإذا كان السوسي في عرف السيد بنكيران يبخل (أو "يقتصد" !!) بماله ليعيش، فإن السيد بنكيران يبخل بمال الشعب على الشعب. فهل هناك أبخل من هذا؟ وهل هناك أبخل ممن يقول: أتدرون ما معنى مليار درهم، والله حينما تنقصني من الحساب أشعر بدوار يصيبني؟. و مليار درهم، ولا شك، في ميزان مالية دولة كالمغرب، لا يساوي سوى "جوج فرنك".. فهل هناك أبخل ممن يدور رأسه بفقده "جوج فرنك"؟؟ !!. في الوقت الذي تصرف فيه ملايير الدراهم على المهرجانات، والمواسم، والأفراح،... ثم، ماذا نسمي تصريحات رئيس الحكومة، حينما يقول:" ما عندي ما نزيد للشغيلة، وما تسناوش مني شي زيادة،.."، أليس هذا هو عين البخل، ونفسه، وذاته؟؟ !!. 7. بين الخطإ والخطيئة.. ولكن في المقابل، هل هكذا خطأ يصدر من رئيس الحكومة المغربية، ثاني مسؤول، دستوريا، في الهرم السياسي المغربي، في سياق يمكن أن يؤول ألف تأويل، يستدعي كل هذا الهجوم اللاذع، والسباب الفاظع، والاستدعاء الحاقد، والذي وصل إلى حد أن تحرق صورته في الشارع العام، وكأنه قد أصدر مرسوما يقضي بطرد الأمازيغ من البلاد، أو بحذفهم من الوجود، والأدهى من ذلك كله أن يتزعم هذه الإثارات بعض المحسوبين على التيار الأمازيغي، من أصحاب خطيئة التطبيع، ممن وَلَّوْا وجوههم شطر الصهاينة، في استفزاز غير مسبوق لملايين الأمازيغ المغاربة الأحرار الذين يحبون الإسلام، ويحبون ثاني القبلتين، ويكرهون إسرائيل، وأذنابها، ويهبون، كلما نادى داعي النصرة، يحتلون الصفوف الأمامية في المسيرات المساندة للشعب الفلسطيني المحاصر.. !!. فالأمازيغ الشرفاء الأحرار، الذين نسعد بالانتماء إليهم، ردوا على السيد بنكيران في حينه، وعَرَّفوه بمن يكون السوسي، وطالبوه بالاعتذار، ولم يُحَمِّلوا الأمر أكثر مما يحتمل، ولم يركبوا على الحدث لأغراض سياسوية، أو نقابوية، أو أيديولوجوية، ولم يستغلوا الخطأ إياه، ليرتكبوا خطيئة، ولم يحرقوا صورته، ولم يستعْدُوا خصوم الأمة ضده؛ وإنما انتصروا لكرامتهم التي ظلت تُمَرَّغ في التراب لعقود من الإهانة والسخرية والإقصاء، و"الحكرة". وبعثوا برسالة إلى السيد بنكيران مفادها: كفى يا رئيس حكومة المغاربة، فنحن مغاربة، ولسنا دونهم؛ فاجعل لنفسك منا ومنهم نفس المسافة ، واحذر من حصائد الألسن المهلكة، ولا تنطق بالوهم، فالوهم لن يكون- أبدا- حقيقة !! دمتم على وطن.. !!