لاشك أن تآلف عوامل كثيرة هو ماساهم في نجاح الثورتين التونسية والمصرية، وهي نفس العوامل التي أدى عدم بعضها إلى إجهاض ثورات أخرى واستمرار الظلم والاستبداد حديثا وقديما. العامل الأول الأساسي بالتأكيد هو الاحتقان الذي كانت تعيشه المجتمعات التي احتضنت هذه الثورات وأججتها، بعد معاناتها من سنوات من القمع والاستبداد وخنق الحريات وافتقاد العدالة والكرامة، فبفضل سنوات طويلة من المعاناة أصبحت هذه الشعوب وكأنها براكين تغلي قابلة للانفجار مع أي هزة، فهل هذا يكفي؟ بالتأكيد لا، فلابد من تعمق الوعي بهذا الوضع لدى فئة واسعة من الشعب ليثور طالبا للحرية والكرامة والعدل. هنا يأتي دور العامل الثاني وهو تحرر المعلومة وتمكن المواطنين من النفاذ إلى حسابات حكامهم المهووسين بجمع الأموال وتخزينها ثم تهريبها، واطلاعهم على أشكال التعذيب الممنهج في أقبية الأمن المركزي بمصر، وألوان الاحتكار الاقتصادي الذي كانت تمارسه العائلات الحاكمة في كلا البلدين. وبفضل الانترنت صارت الرقابة على المعلومات مستحيلة، واكتسب نشطاء فيسبوك والمدونات القدرة على المناورة والتعبئة وحشد الرأي العام، كما لعبت الشبكة دورا هاما في تنسيق جهودهم وإكسابها الزخم اللازم، خصوصا مع تداعي الحدود الجغرافية وتقارب المسافات بفضل الفضاء الافتراضي الكوني، كما صار من المستحيل على أي فاعل محلي أو دولي غض بصره أو صم أذنه عن أفعال القمع و الجرائم التي ترتكبها الأجهزة البوليسية، أفعال قد تتحول إلى فضيحة مهما كانت محدودة إذا صادفت عين هاتف أو عدسة كاميرا، ما يجعل سكوت أي طرف محلي أو دولي تواطؤا في نظر الرأي العام. لكن عاملا لا يقل أهمية عما سبقه لم يحظ بالتقدير اللازم، إنه اختيار اللاعنف كوسيلة للتغيير، حينما فشلت الوسائل القانونية المعتادة عن التعبير عن إرادة الشعب وتنزيلها، حينما فشلت صناديق الاقتراع عن تجسيد التمثيل الحقيقي لممثلي الشعب، وصمت السلط آذانها عن سماع صوت الشعب، وعجز القضاء عن تنفيذ أحكامه العادلة بفعل ممانعة الأجهزة التنفيذية المستبدة. حينذاك لم يبق أمام تلك الشعوب المقهورة إلا طريقان: طريق المقاومة المسلحة حتى إسقاط تلك الحكومات، وطريق اللاعنف. وقد وفق الشعبان المصري والتونسي في اختيار الطريق الثاني، وكذلك الشعب الليبي رغم أنه لم يصبر طويلا حسب الانطباعات الأولى فانحرفت سكته. وبكلمات بسيطة يلخص اللاعنفيون سبب اختيارهم لطريق اللاعنف وتفضيله على خيار العنف فيما مضمونه أن الحلول العنيفة تعني بكل بساطة النزول إلى ملعب الخصم ومواجهته على أرضه ووسط جمهوره و بقواعد اللعب التي يحتكم بها، ألا وهي "لعبة استخدام القوه"، وفي هذه اللعبة، سيكون فريقك في حكم مكبل الأيدي و الأرجل، حيث يتفوق الخصم تفوقا ساحقا بسبب قدرته على الحرب العلنية وامتلاكه للجيوش النظامية ومخزونات هائلة من الأسلحة والجنود، وسيكون لدى النظام المستبد فرصة قوية لشرعنة القمع في حالة مواجهة كفاح مسلح بدعوى الحفاظ على الأمن و حماية أرواح المواطنين وحماية وحدة البلاد ومحاربة الإرهاب، وهذا ما سيفوته في حال مواجهة لاعنفية مثل العصيان المدني، بالإضافة إلى حجم الخسائر المهولة في الأرواح والممتلكات التي تحدث وسط صفوف المقاومين و الشعب في حالات المقاومة المسلحة. وجميعنا يعلم كيف أن المجتمع الدولي يميل إلى دعم الأنظمة الحاكمة في حالات التمرد العسكري أيا كان نوع و طريقة حكم هذه الأنظمة ومهما كانت مبررات التمرد مشروعة، على العكس من حالات الكفاح اللاعنيف التي يميل فيها المجتمع الدولي للتنديد بالنظام الحاكم الذي يستخدم القوه و العنف أمام نشطاء مسالمين . ليس لدينا الوقت هنا لنتحدث عن رموز اللاعنف الذين سجلوا أسمائهم في التاريخ بفضل تحريرهم شعوبهم بأقل الخسائر الممكنة ورسموا مسيرتهم نحو الانعتاق والتطور، ولا للحديث عن الفوائد العظيمة لهذا المنهج الذي أثبتت السنون والتجارب نجاحه وأفضليته، لكن ما يهمنا هو أن يحرص الشباب في ثورات الأيام الحاضرة على عدم الانزلاق إلى أي مظهر من مظاهر العنف، إذ أن الخصم ينتظر أبسط هفوة ليحرف مسيرتنا ويجرنا إلى طريق مظلم حالك، تسقط فيه أرواح الأبرياء تباعا، وتطول فيه سنون الاستعباد عقودا. فالحذر الحذر أيها الشباب: لا ترم حجرا، ولا تحرق ورقا أو شجرا، ولا تحطم زجاجا أو خشبا، واغز قلب خصمك بالحب وطيب الكلام، وزلزل أركان الظلم بأوضح الشعارات ورزين الكلام، وارفع مطالبك عاليا واصمد بكل احترام، وواصل مسيرة التغيير وأنت تغني للسلام. http://www.benjebli.com [email protected]