لم يكن أحد من الجن أو الإنس يتوقع الصدمة التي أحدثها الخطاب الملكي الأخير، فباستثناء بعض المقربين من القصر، يمكن الجزم أن لا أحد كان على علم بمضمون الخطاب الملكي ومرتكزاته السبعة المعلن عنها، جاء الخطاب مقتضبا ومباشرا للغاية، فليس هناك وقت للعب في الأشواط الإضافية، وجاء اختيار الملك أن يسدد أهدافه في الدقائق الأولى من عمر المباراة السياسية التي كان الفريق الخصم فيها ولأول مرة هم الشباب المغربي وبالضبط شباب 20 فبراير. من المؤكد أن الخطاب استجاب للعديد من المطالب السياسية الجوهرية التي رفعها شباب 20 فبراير كالتنصيص الدستوري على أن القضاء سلطة مستقلة، وأن السلطة التنفيذية بيد الوزير الأول، ودسترة الأمازيغية والجهوية الموسعة، الأمر الذي جعل من الخطاب الملكي لحظة تاريخية متجاوز للخطاب السياسي المزدوج للأحزاب السياسية سواء الحكومية منها والمعارضة ، بل متجاوز لكل الخطابات الإصلاحية الخجولة والمحافظة. في 9 مارس 2011 أبان المغرب على أنه دولة لا تخاف من تغيير جلدها القديم إذا كان هذا التغيير سيضمن لها الحياة والحيوية مدة أطول، لاشك أن لوبيات الممانعة ستسعى بكل الوسائل المشروعة والغير المشروعة إلى إجهاض هذه التجربة الفتية، فمن القول أن المغرب لازال في حاجة إلى ملكية قوية تحكم وتسود لتبرير استمرار الحكم الفردي والمنطق العمودي في التعاطي مع الديمقراطية ومقتضياتها، إلى جعل أي حديث عن تحديد صلاحيات الملك ردة وخيانة عظمى للوطن والأمة. خطاب الملك بعث الأمل في النفوس من جديد، وفتح أفق جديدا للنقاش والتداول حول المستقبل السياسي لمملكة عمرها 12 قرنا، وأكد على ضرورة الانتقال السلمي والحضاري نحو نموذج ديمقراطي لدولة عربية وإسلامية تصنف على أنها من دول العالم الثالث، لكن هذا المسار يلزمه العديد من الضمانات لطمأنة المغاربة على مستقبلهم الجماعي، فالتجارب السابقة من التاريخ السياسي لبلدنا حبلى بانتكاسات ومفارقات أجهضت الانخراط المبكر للمغرب في مثل هذه الإصلاحات المهمة التي أشار إليها الخطاب الملكي. كان المغرب على موعد مع لحظة تاريخية فارقة مع بروز فكرة التناوب التوافقي والمناداة باعتماد المنهجية الديمقراطية في إدارة السلطة، وعقد المغاربة جميعا آمالا عريضة على هذه التجربة، ولو كتب للمغرب إنجاز هذا الحدث التاريخي بشروطه المعقولة لكان الحال غير الحال، لكن للأسف تبخر الحلم وضاع الأمل بضياع الضمانات السياسية الكفيلة بتحقيق الحلم المغربي. انطلقت فكرة الإصلاح بالمغرب مباشرة بعد التخلص من الحماية الفرنسية، وشرع بلدنا في اعتماد أول دستور سنة 1962، ولو فعلها الملك الحسن الثاني آنذاك وانطلق مسلسل الإصلاحات الحقيقية التي يمكن للمغرب أن يتبنها آنذاك لكان وضع مختلفا.. في أوربا يطالعنا التاريخ أن الأمة البريطانية انطلقت في اعتماد قانون "شرعة" الحريات سنة 1101 ومعه تمكنت بريطانيا من الانخراط في تاريخ جديد منذ القرن 12 ميلادي، ويذكر أساتذة القانون الدستوري المغاربة كيف أن المغرب عرف أول نقاش إصلاحي دستوري سنة 1908، بمعنى قبل دخول نظام الحماية الفرنسية للمغرب، غير أن عوامل كثيرة منها الطابع التقليدي للدولة المغربية وارتكازها على الحكم الفردي إلى جانب وقوع بلادنا تحت الاحتلال الفرنسي أجهض مشروع دستور 1908 كمباردة إصلاحية قابلة للنقاش، وللأسف كان علينا أن ننتظر مرور أزيد من مائة سنة لفتح هذا الورش اليوم، وبالجرأة المطلوبة دون عقد نفسية والله أعلم. إننا أمام لحظة متميزة من تاريخنا، تستدعي التأمل مليا لأن الأمور بمآلاتها، ولا نريد من وطننا أن يخطأ موعده مع ربيع الديمقراطية العربية، لا يجب أن ننسى تجربة التناوب وما قيل عنها من كلام كثير، حتى سارت المفتاح السحري للانتقال إلى ضفة الديمقراطية، غير أن جيوب المقاومة آنذاك أرادوا لها أن تكون مجرد سحابة عابرة. إن أهم المشاكل التي تعترضنا اليوم ليس توسيع صلاحيات الوزير الأول وتعزيز اختصاصات البرلمان، ولا حتى أن نحتفظ بعبارة الملك أمير المؤمنين أو نزيلها، بل النقاش المهم كيف السبيل للفصل بين القداسة والسياسة، كيف نجعل القداسة لله والسياسة للبشر، إن التحدي اليوم هو كيف أن يصبح أمير المؤمنين واحد من الناس، لأن الله سبحانه وتعالى قال "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وليس "أولي الأمر عليكم"، أن يصبح الملك واحدا منا ونحن منه، هذا هو التعاقد الجديد بين الملك والشعب، من هنا الطريق للتخلص من فائض السلطة الذي يستفيد منه المحيط الملكي. بخروج الشباب يوم 20 فبراير، واستمرار خروجهم يوم 20 مارس سنحصن المستقبل من خفافيش الظلام والعقول المحافظة جدا، الآن تحررت الألسن ووضعت الصحف ونادي منادي التغيير على الحفاظ، لم تجف الأقلام بعد، اليوم فقط على العقول أن تبدع والأفواه أن تفتح، لا نريد أن تضع الفرصة وتمر علينا كأنها سحابة عادية في فصل الربيع العربي المحمل بآمال التغيير.. اليوم فقط سنتكلم عن كل شيء دون أن ننسى أي شيء، وسنقول ما لا يقال، ونكتب ما يريد البعض أن لا يكتب، اليوم نضع النقاط على الحروف كما نقول عادة، اليوم فقط أيها المغاربة لا خوف عليكم ولا هم يحزنون، لأن اليوم يومكم من أجل تحقيق الحلم المغربي بفصل القداسة عن السياسة. *عضو مؤسس لحركة بركااا للقضاء على الفساد والاستبداد