مع أنّه لم يكن من المرشّحين الذين صنّفهم المحلّلون الأوفر حظا للفوز بالانتخابات الرئاسية التي جرت، الأربعاء الماضي، في أفريقيا الوسطى، إلاّ أنّ المرشّح فوستن تواديرا قلب جميع المعادلات والتوقّعات، وذلك عبر تصدّره طليعة ترتيب المتنافسين ال 30 على نيل أعلى منصب في البلاد، بحسب النتائج الجزئية التي أعلنت عنها لجنة الانتخابات في البلاد. هو رمز من رموز نظام الرئيس السابق فرانسوا بوزيزيه (2003- 2013)، حيث تقلّد منصب رئيس لوزرائه، قبل أن تطيح بالأخير ميليشيا "سيليكا" (إئتلاف سياسي وعسكري مسلم)، في مارس 2013، بقيادة ميشيل دجوتوديا، وتندلع أزمة سياسية سرعان ما تحوّلت إلى نزاع طائفي دامي قبل أن تدخل البلاد في مرحلة انتقالية، انتهت بإجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة مجتمعة مع البرلمانية. وفي خضمّ هذا السياق المشحون، قدّم تواديرا نفسه، خلال حملته الانتخابية، مرشّحا يتطلّع إلى المصالحة بين المسلمين والمسيحيين، وطيّ صفحة صراع طائفي دموي. بنود كانت ستمنح سكان البلاد، وخصوصا المسلمين منهم، ضمانات إعادة إحلال السلام والعيش بأمان، غير أنّ المخاوف من أن لا يكون هذا المرشّح سوى امتدادا لنظام بوزيزيه، طغت على الجدل المتفجّر بهذا الخصوص. فبوزيزيه، الذي حكم أفريقيا الوسطى لمدة 10 سنوات، يواجه اتهامات بارتكاب "جرائم ضدّ الانسانية والتحريض على الإبادة الجماعية" ضد المسلمين خلال الأزمة التي شهدتها البلاد منذ مطلع عام 2013، ما استوجب إصدار مذكّرة إيقاف بحقّه من السلطات الانتقالية في بانغي. أما فيما يتعلّق بتواديرا (58 عاما)، فهو مرشّح مستقلّ، حاصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات، وقد عيّن عميدا لجامعة بانغي (العاصمة)، ولم يعرف عنه أيّ نشاط حزبي أو خبرة سياسية حين عيّنه بوزيزيه، في 22 يناير 2008، ليكون رئيسا لوزرائه. ورغم عدم امتلاكه للحنكة السياسية التي عادة ما تكتسب من العمل الحزبي، إلاّ أنّ تواديرا أثبت كفاءة نادرة في القيام بمهامه الجديدة. حمل شعار "العمل بجدّ وحماس لكن مع ملازمة الظلّ"، بحسب أنصاره، واستطاع أن يقضي على ظاهرة الرواتب المتأخّرة، ما يعتبر انجازا عظيما بالنسبة لبلد كانت رواتب الموظفين الحكوميين فيه تتأخّر لعشرات الأشهر. باتيرن نغيندا ممرّض يعمل في إحدى مستشفيات بانغي، قال متحدّثا عن تواديرا: "إنّه واحد من أفضل رؤساء الحكومة الذين عرفتهم البلاد"، معتبرا أنّ "الدفع المنتظم لرواتب الموظفين الحكوميين هو المعيار الرئيسي لتقييم محصّلة أيّ رئيس للوزراء في أفريقيا الوسطى". في 12 يناير 2013، أي في الوقت الذي كانت فيه البلاد غارقة في أتون الأزمة، استقال تواديرا من مهامه، قبل أن يقع تعيين رئيس وزراء جديد من المعارضة، في إطار المرحلة الأولى التي نصّ عليها اتفاق الخروج من الأزمة الموقّع في ليبرفيل عاصمة الغابون، بين السلطة والمتمرّدين. أما اليوم، وضمن مرحلة تخطو فيها أفريقيا الوسطى نحو إقامة مؤسسات دائمة من المنتظر أن تعمل على إحلال السلام بشكل دائم في البلاد، فقد اختار تواديرا أن يقدّم نفسه مرشحا مستقلا، ورئيسا "للمصالحة والوحدة"، بحسب برنامجه الانتخابي المرتكز على "السلام والأمن والتماسك الاجتماعي والحوكمة المالية الرشيدة". وبالنسبة ل "ستيف تانغوا"، وهو أحد المعاونين السابقين لتواديرا أثناء تقلّد الأخير لمهامه كرئيس للوزراء، فإن "هذا البرنامج الطموح يشمل جميع القضايا التي تسبّبت في اندلاع الأزمة التي عرفتها البلاد" في العامين الأخيرين، مضيفا، في تصريح للأناضول، إنّ "تواديرا ملتزم، ضمن أولوياته، بالمصالحة بين السكان وضمان الوحدة الوطنية، في بلد يعاني من الإنقسام الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، وتحقيق تلك الوحدة ينبغي أن يمرّ وجوبا عبر تجسيد وتنفيذ المشاريع التي يقترحها". "بطبيعة الحال"، يتابع تانغوا، "فإنّ أحد أبرز التحدّيات المطروحة على تواديرا، في صورة انتخابه، ستكون مواجهة العصابات المسلّحة التي تجوب في البلاد، وليتمكّن من تجسيد ذلك، فإنه يقترح إعادة هيكله قوات الدفاع من خلال الانخراط، في أقرب الآجال، ضمن عملية نزع السلاح (والتسريح وإعادة الإدماج)، بهدف التوصّل إلى حلول بشأن المسلّحين، وهذا ما يمكّنه من محاربة أحد أسباب الأزمة في أفريقيا الوسطى". وفي سياق متّصل، أشار تانغوا إلى أنّ تواديرا يرمي أيضا إلى تبنّي سياسة ناجعة لإعادة تهيئة المجال بغرض التصدّي للتباينات المحلّية وإعادة إدماج جميع سكان البلاد، وذلك من خلال العمل على دفع النمو مع احترام كامل للخصوصية الدينية لكل طائفة ولكل ساكن في أفريقيا الوسطى، وعبر إقرار الحوار بين الطوائف". وتوضيحا للجزئية المتعلقة ب "الحوكمة المالية الرشيدة لحل الأزمة"، أضاف تانغوا أنّ هذا الهدف يمكن أن يتحقّق من خلال "تعبئة الموارد الداخلية، وتحسين مناخ الأعمال، بهدف الزيادة في مواطن الشغل، وخصوصا بالنسبة للشباب". برنامج يطفح وعودا برّاقة، سيّما في ما يتعلّق ببند المصالحة، غير أنّ ذلك لم يمنع المسلمين في أفريقيا الوسطى من الإعراب عن بعض تحفّظاتهم. "الكثير منا يرون في تواديرا وجه بوزيزيه"، هكذا قال زكريا إدريس، رئيس مجمّع كوادر مسلمي أفريقيا الوسطى في لقاء له مع الأناضول في بانغي، مشدّدا على أنّ "مسلمي البلاد يتطلّعون، بأيّ ثمن، إلى طيّ صفحة بوزيزيه، ولذلك فهم يخشون أن يكون تواديرا مجرّد امتداد للرئيس السابق، والذي يعرف جميعنا أنه كان مسؤولا عن العديد من الانتهاكات التي طالتنا". من جانبه، قال أحد قادة "سيليكا" للأناضول، مفضلا عدم نشر هويته، إنّ "تواديرا يظلّ أكثر رؤساء الوزراء وفاء لبوزيزيه، وذلك بغض النظر عن خبرته وفاعليته"، معربا في الآن نفسه عن "خيبة أمله في الإقتراع". وفي اتصال هاتفي مع الأناضول، قال عثمان أباكار، المتحدث باسم المسلمين في حي "الكيلومتر 5"، أكبر تجمّع للمسلمين في بانغي، إنّ "الانتخابات الأخيرة جرت في كنف الشفافية، ومهما كانت النتيجة، فهي تجسّد خيار شعب أفريقيا الوسطى، وسنقبلها لأننا جميعا نريد السلام". مدّ وجزر يرفع من منسوب الجدل المندلع بهذا الخصوص. المختص السياسي من أفريقيا الوسطى، ميشيل ندالاكو، عقّب عن الموضوع قائلا: "هناك تساؤل لا يزال عالقا، وهو إن كان المرشّح تواديرا يقترح تحرير القضاء من جميع الضغوطات السياسية من أجل تعزيز التماسك الإجتماعي، مع أنّ هذا المرشّح حظي بدعم حزب بوزيزيه، وخصوصا في بانغي وضواحيها، فهل سيكون بإمكانه، من دون مخاطر، أن يدع العدالة تأخذ مجراها في ظلّ وجود الاتهامات الموجّهة إلى الرئيس السابق؟".