ملحوظة : هذا المقال محاولة للاسهام في تحفيز النقاش السياسي بصدد انعقاد المجلس الوطني ونحن نرقب تطورات المشهد السياسي والاجتماعي والاحتجاجي المتشكلة منذ لحظة الدخول السياسي الجديد والمثير، تطورات يعبئها كثير من الفاعلين في الحقل العمومي بمعاني ورموز لها دلالة لا تخطئها العين المدققة لاتجاهات المرحلة، ينتابنا شعور بعدم الاطمئنان التام على مجمل المسار وعلى ايقاع السير وبطئه، وبالاساس يداخلنا الارتياب والتشكك حول المقاصد التي تحرك قوى المحافظة السلطوية وتعبيراتها الاعلامية والسياسية والبيروقراطية،، مقاصد تتجمع في خلاصة أساسية وهي : أن هنالك من يحن لزمن السلطوية وتهميش الاحزاب وتأجيل الانتقال ونسف مسار الاصلاح وتعقيد مسالكه، وتبخيس السياسة والفاعلين فيها وأدواتها المدنية ومؤسساتها التمثيلية ونخبها التي أكسبت نبلا للعمل العام على امتداد المرحلة منذ الربيع الديمقراطي ، إنها قوى ماضوية محافظة سلطوية بالطبيعة،،يشدها الحنين إلى زمن مضى وانقضى باندلاع حراك شعبي منتفض ضد قوى الاستبداد ومركبات الفساد العمومي، زمن التحكم وهندسة الحقل السياسي والعمومي من أعلى ، هي -إذن-دلالات ومؤشرات تمضي بالمجمل في سياق النيل من شعبية حكومة التناوب الثانية بقيادة ذ.عبد الاله بنكيران، ومحاولة تصويرها وكأنها فقدت ما بقي لها من امتداد شعبي وانغراس مجتمعي وقدرة على الاحساس بنبض الناس، وهي متراجعة في سبورة القرارات الشعبية وبكونها تتخذ اجراءات وتنهج سياسات تخدم الفئات المرفهة، يتم تسويق هذه الاحكام الجاهزة –ويحاول البعض توطينها كحقائق عصية على النقد- في سياق سياسي تكرس معه الصعود السياسي لحزب العدالة والتنمية بالانتصار الانتخابي المستحق لحظة الاستشارة الانتخابية للرابع من شتنبر 2015، غير أن الهدف من كل ذلك الطرق الاعلامي في السنة الاخيرة من ولاية هذه الحكومة، هو بالاساس محاولة النيل من كفائتها التدبيرية وقدرتها الاصلاحية على استكمال مسيرتها الدستورية ومسارها السياسي والنهوض بمهام الاصلاح الديمقراطي واستكمال البناء المؤسساتي، في انحياز تام وجلي للطبقات المسحوقة من ضعفاء الناس، والانتصار العملي للمستضعفين من الخلق، ويتجلى ذلك في عديد من الاجراءات والقرارات والسياسات ذات الصلة بالقضية الاجتماعية والمضمون التضامني . هشاشة الانتقال وخطر عودة السلطوية : ذلك هو التناقض بالرغم ذلك فإننا نؤكد أنه من هشاشة التجربة الإصلاحية الجارية في المغرب –لم تستو كنموذج يمكن أن تكون له جاذبية الالهام لغيره-، وبالنظر لطبيعتها التأسيسية وسياقها الذي تتأطر داخله والموسوم بالانتقالية والعبور لمرحلة التأسيس للديمقراطية، فإنه يتهيأ للكثير من المتابعين لتطوراتها أن التحديات التي تعترضها والتي تطفو على سطح الاحداث وتبرز بين الفينة والأخرى يتم تصويرها في الوعي العام للناس على أنها مخاطر تهدد مرحلة الانتقال الديمقراطي برمتها وقد تأتي عليها بارتداد للخلف، وترسم كابوس سيناريو الانتكاس –لا قدر الله-في نهايتها، وستكون حينها تلك مقامرة ومغامرة ونكوص . وعلى الرغم من أن هذه التحديات غير مسلم ببلوغها هذا المستوى من الخطورة، فإن مناقشة ذلك وتسليط الضوء عليها بشكل منفرد ومعزول عن مجمل السياق الحاكم، لن تكون ذات فائدة ولا كبير نفع. فالاقتناع بهذا الرأي أو ذاك غير خاضع -في أغلبه- لقياس علمي موضوعي لمجريات الأحداث، بل هو في الأغلب الأعم يكون مستجيبا لأهداف سياسية مكشوفة تتلبس بقوى متخفية عند البعض وتتحدد بانعكاس الوضع النفسي والاجتماعي عند أكثر الناس . ومع ذلك لنفترض، نسجا على منهج البرهان بالخلف، أن بعض التحديات-التحالفات، بعض الحركات الاحتجاجية- تمثل بالفعل خطرا حقيقيا على مسار الاصلاح برمته، ونتقدم خطوة في هذا الاتجاه لنتساءل عن أشد هذه التحديات خطورة على التجربة برمتها ؟ بمجرد الحديث عن هذه التحديات يتبادر للذهن خطر عودة المنظومة السلطوية السابقة للتأثير التحكمي في الواقع السياسي والاجتماعي، والانقضاض على التجربة من خلال محاولة نسفها بالتشكيك في المكتسبات المتحصلة من المرحلة الحالية، وهي ظاهرة قد تكون طبيعية تعيشها كل النهضات والحركات الاصلاحية . فليس من السهل بمكان أن يفرط أصحاب الامتيازات والمستفيدون من موائد شبكات المصالح ومراكز النفوذ السابقة والمتضررون من الوضع الاصلاحي الجديد، ليس من السهل أن ينفطم هؤلاء وأولئك عن مصّ دماء الناس والكادحين من أبناء هذا الشعب، والادمان على استلاب إرادتهم وأرزاقهم . في البداية انصب جهد هذا الفريق على اقتراف أفعال قطاع الطرق، بالصد والممانعة أمام كل تغيير محتمل سواء في السياسات أو القرارات او الاختيارات او التعيينات في إدارة الدولة العمومية وحتى وجدنا مقاومة ناعمة من قبل قيادات بعض الأجهزة والمؤسسات لهذا الجو الجديد الذي بثته التجربة، فشاهدنا عملية عصيان خفي ومنظم من قبل مراكز ادارية ورفض ممنهج للانصياع للإرادة السياسية الجديدة بخشونة مرة وبنعومة مرات . بل إن أوّل من استفاد من ثمار حركة الاصلاح الجارية-التي اعقبت الحراك الاصلاحي المنطلق مع رياح الربيع، هم لفيف نخبوي عصبوي مشكل من طاقم إداري واسع وموجه من المسؤولين والمدراء ورؤساء عدد من المؤسسات العمومية في تواطؤ واضح بين نافذين متحكمين في بنيات عميقة في الادارة العليا وبعض من الراسخين في بنيان الدولة والماسكين خيوط التوجيه والسلطة داخلها، وعدم التسليم للنخب التدبيرية المنتخبة. تبين فيما بعد، أن ذلك لم يكن عفويا ولا تلاحقه فقط شبهة سوء استغلال السلطة، بل كان استعدادا لمرحلة راهنة من تسلم قوى الاصلاح زمام التدبير التنفيذي للسلطة، تأليفا لقلوب بعض التابعين وتمكينا لبعض السلطويين والتحكميين من مواقع حساسة في تدبير مؤسسات عمومية وادارات تابعة للدولة، واستعدادا لمعركة إفشال الحكومة المنتخبة ديمقراطيا-على مراحل وبتمهل- إذا ما حاولت القيام بأية تغييرات حقيقية في الواقع، تتغيا التحويل الاصلاحي للدولة ووضع مؤسساتها على سكة الانتقال الفعلي المستجيب لتطلعات الناس . إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه الى جهة التعدي غير الاخلاقي على الاختصاصات الدستورية لرئيس الحكومة ومحاولة تفخيخ الحكومة وبرمجة تمرد شامل تشل القدرة التدبيرية والمؤسساتية لرئيسها ومكوناتها . واستباقا لما كان يتوقعه البعض من عجز الحكومة عن الخروج من هذه المكيدة، سارع الكثيرون إلى إعلان فشل الحكومة وعجزها، طارحين مبادرة القفز إلى الامام ومسارعة الخطى لنسج السيناريوهات الكريهة والاعداد لها من خلال التعويل على نفاذ صبر قيادة الاصلاح ورئيس الحكومة والاستثمار في بث مزيد من التيئيس والارباك . وعوض أن يلتزم ذلك البعض واجب التحفظ السياسي وممارسة الصمت الأخلاقي كما نرى في كل الديمقراطيات الناضجة في العالم، يخرج بعض السلطويين على الشعب في المنابر الإعلامية بخطاب ارتجالي متصاب لا يليق برجال السياسة الحقيقيين للنيل من رئيسه وشن الهجوم غير الاخلاقي عليه بلا وازع ولا رادع . الحزب السلطوي ومهامه في تفكيك منطق الإصلاح : واجب أداء ثمن المجابهة أمام فشل كل هذه المحاولات لإرباك الوضع السياسي الاصلاحي في البلد، لم يبق أمام فريق الشد للوراء إلا اعادة التشكل في كيان سياسي بتحالف جديد، بدون أفق اديلوجي ولا برنامج سياسي واضح، وهو يستثمر في اثارة النقاش الهوياتي من جديد ويعمل على تحريك النزعات الإقصائية والاستبعادية -البام واعادة تشغيله للخطاب الاستئصالي -. هذا الفريق استفاد من التراخي الحكومي، أو إن شئت الرؤية المبنية على مقولة طي صفحة الماضي البئيس للجرائم السياسية المقترفة من قبل بعض الرموز السلطوية في السابق، لقد استفادوا من في تجاهل مطلب شعبي يتمثل في إعادة بناء منظومة سياسية وقانونية تستجيب لروح الحراك الاصلاحي الشبابي وتضمن عدم عودة نخب الماضي السلطوي، هذا االتجاهل من قبل الديمقراطيين جعل رموزه يتحصلون على تأشيرة مرور لقيادة المعارضة المؤسساتية في انتظار تطبيع وجودهم السياسي، من خلال ما قد يبتزه من شرعية سياسية وربما حتى أخلاقية-تلميع الصورة وتبييض الماضي التحكمي- . يتكون هذا الحزب النكوصي من ائتلاف ثلاث مجموعات رئيسية، استمرت على امتداد زمن قريب في تحالف وثيق وفي ظل تدبير سلطوي وتحكمي للشأن العام، وحّدها الاستبداد الناعم واقتراف الفساد العمومي، ويوحّدها اليوم الحنين لإعادة استنساخ تلك المنظومة من جديد و بإخراج بديل : -تتكون المجموعة الأولى من الآلة الاستقطابية لقوى الاعيان الانتخابية –التي تتحصل على خزان للزبناء ورصيد في بورصة اسهم المزاد الانتخابي- والممتدة أفقيا عبر القيادات الوسطى والمركزية والمحلية، وعموديا في مختلف الجهات والمواقع وأجهزة الدولة والمؤسسات والمرافق الادارية التي تم بثهم وتوطينهم فيها. وهي مجموعة تمثل العمق الاجتماعي الطيع للسلطوية بالمغرب السياسي، ويأمل أصحاب هذا الفريق أن تستمر في أداء نفس الدور خلال المرحلة القادمة بعد انتخابات 2016 . -أما المجموعة الثانية فتتشكل من شريحة رأس المال السياسي الفاسد، الذي استفاد من امتيازات المرحلة السابقة وبنت نفوذها الاعتباري وجاهها الامتيازي على مراكمة المنافع، حيث شكلت ظهيرا مؤيدا للهيمنة باستمرار مع بقية الفئات الناتفذة التي تضامنت مصالحهم بمصالح القاعدة الاجتماعية الواسعة للسلطوية على امتداد مراحل تحكمها ورسوخها . وهم غير مستعدين للتفريط في امتيازاتهم ويعتبرون انخراطهم في البام مناسبة لتحريك القوى المضادة للاصلاح من أجل الاستثمار في إعادة استنبات وضع جديد يستفيدون منه، ويمكن لهم العودة للتحكم ونهب الخيرات العمومية ومراكمة الثروات من جديد وبشكل اقوى بعد انهاك قوى الاصلاح . -وأما المجموعة الثالثة فتتكون من اليسار الانتهازي الاستئصالي، الذي دشن تجربة التخندق مع القوى السلطوية المتسللة لكيان بعض مؤسسات الدولة منذ مراحل الانتقال السياسي، حيث تم وضع إستراتيجيا جديدة تقوم على أولوية التحالف مع السلطة الاستبدادية لمقاومة المد الاصولي –حسب تقديرها كعدو مشترك- حتى وإن أدى ذلك إلى الحريق الكبير الذي أتى على حصاد أجيال من أبناء الشعب المغربي في اتون المواجهة على السلطة ذات زمن، وقد كان نموذجها الملهم في ذلك المثال التونسي على عهد بنعلي. تمثل هذه المجموعات المتحالفة والمتضامنة، أكبر الخاسرين بانفتاح عهد سياسي جديد وذلك بالاستجابة الواعية لمطالب الناس في الإصلاح وبالعمل على تدشين إصلاح سياسي ودستوري مكن البلاد من ولوج عصر الملكية الثانية وبداية عهد دستوري جديد، مع الإيذان بتراجع النمط التنفيذي في تدبير القرار العمومي والتخلي عن استلهام النموذج التسلطي في تدبير السلطة والثروة والقيم والذي كان الإعداد له جاريا على قدم وساق في المرحلة السابقة على الحراك الشبابي الذي تزامن مع الربيع الديمقراطي، بل إن الكثير من مكوناتها كانوا مدانين سياسيا وقيميا بسبب ما اقترفوا في حق هذا الشعب-كديم ازيك وامور اخرى ،،،. سيناريوهات التصدي للاصلاح: الردة أو الصمود ولأنهم كانوا يتوقعون أن يساقوا إلى مزابل التاريخ وتفضح جرائمهم السياسية في الإعلام وأمام الشعب، ها نحن نرى بعضهم الان-بعد خفوت الحراك وموجة الاصلاحات المنطلقة في الفضاء العام- يتدثرون بلحاف العمل السياسي والمدني والحقوقي، لما يوفر لهم من حصانة اعتبارية وسياسية، وبما يوفر لهم من فرصة جديدة لاستعادة هيمنتهم على بعض من مراكز النفوذ، يعملون من خلالها على استعادة مبادرتهم داخل السلطة في المجتمع، ومحاولاتهم العاجزة على الاستغلال الانتهازي لبعض التحركات الاحتجاجية العادلة للتاثير على المزاج الشعبي، ومحاولة النيل من شعبية الحركة الاصلاحية القائدة للمرحلة واغتيالها سياسيا ومعنويا . يحاول هذا التشكيل السلطوي استغلال خفوت رياح المطالبة بتفكيك بنياته ومباشرة النقد الذاتي العلني والتخلص سياسيا من تركته، بمباشرة الاستفادة من مكامن اوهام التأثير داخل المؤسسات واسلوب التحكم في مفاصل المجتمع والنفوذ من خلال شبكة العلاقات الواسعة والمصالح المعقدة في الواقع ومن الدبلوماسية المحافظة مع بقايا السلطوية في عديد من الكيانات ومع أطراف غريبة عن المجتمع تتنازعها الولاءات لخدمة تيار الهيمنة الاستبدادية . تتراوح إستراتيجيات هذا الفريق بين سيناريوهين في المرحلة : الأوّل بالعمل على تفخيخ الحكومة من داخلها، وشن هجمات منظمة ومحكمة عليها بغاية بث التناقضات بين اطرافها والمسارعة لتوفير الارضية المناسبة لإسقاطها من خارج المؤسسات الدستورية والمواعيد الانتخابية وذلك قبل موعد الانتخابات القادمة، ويتوسلون لذلك بالتحريض في الشارع والتخطيط للانقلاب المدني على الشرعية الدستورية والمؤسساتية للحكومة، واستمالة بعض الأطراف السياسية الحليفة تقليديا -على قاعدة العدو المشترك ، وإعاقة المارد الديمقراطي القادم-والتهديد الذي يمثله حسبهم حزب العدالة والتنمية- تحت عناوين المواجهة الأيديولوجية وتحصين المكاسب الانتخابية وحماية المصالح الاقتصادية والمالية والسياسية . تكون نتيجة ذلك إنهاء مسار العمل التأسيسي لحكومة التناوب الثانية بقيادة الاستاذ عبد الاله بنكيران، وإطلاق طريق العودة للتوازنات السياسية القديمة القائمة على احتكارية السلطة من قبل القلة المتنفذة والتحالف السلطوي المعلوم و الابقاء على الولاء الزبوني للأطراف المصالحية المتحالفة معها . وهم يستعجلون هذا السيناريو لقطع الطريق أمام صدور ورسوخ ترسانة من الاجراءات والاليات الرامية الى حماية مسار الاصلاح من امكانيات الردة والنكوص مع تكريس المسار الانتقالي للتجربة الديمقراطية، وتشكل المشهد السياسي في البلد بشكل يرسو نهائيا لصالح قوى الاصلاح ويرسخ قواعده مما يصعب مهام الانقلاب عليه والارتداد على اعقابه . أما السيناريو الثاني الذي يحدث به أنصار هذا التيار أنفسهم فهو المتعلق بالانتخابات القادمة. فبالاعتماد على آلة تجميعية لاعيان الانتخابات خبيرة في تزوير وتحريف إرادة الناخبين وترسانة إعلامية رهيبة وشرسة نجحت إلى حد ما في تشويه صورة خطة الاصلاح وقواها الرئيسية وحشد بعض الدعم لها، وبتمويل من بارونات الفساد ودعم مراوغ بات واضحا من أطراف دولية وإقليمية معروفة ليست لها المصلحة في استكمال مسار الانتقال الديمقراطي في البلد من خلال وضع حد لتجربة الاصلاح والانتقال والدمقرطة، بكل هذه الأعمدة يأمل هذا الفريق إدراك فوز أو شبه فوز في الانتخابات القادمة. لمحو آثار التجربة، وغلق القوس الديمقراطي الذي انفتح مع الربيع الديمقراطي-هكذا يمنون النفس – وسيفشلون بإذن الله . إنه من الطبيعي أن تتشكل هذه القوى وتنتظم دفاعا عن مصالحها، بعيدا عن كل اعتبار أخلاقي وديمقراطي، لكن ما يلفت الانتباه أن بعض القوى السياسية المعارضة لم تنجح إلى الآن في إشباع رؤاها وبرامجها بمطالب الاصلاح والتغيير ولم توفّق في تبين خصوصية المرحلة الانتقالية التي تمر منها البلد حتى غدت نموذجا يلهم الكثيرين في سياق موسوم بالاضطراب والتفكك والصراع حول السلطة في كثير من البلدان العربية . فنرى بعضها يتناسى سنواته الطويلة من الصراع مع الاستبداد ويمد يده للتحالف مع امتداداته السلطوية بعد الحراك الديمقراطي. ورغم الضغط الشعبي- والشبابي خاصة -يصر هذا الفريق على الاستمرار في خطيئته الإستراتيجية الحاضنة للاستبداد منذ مدة وحتى اللحظة الراهنة. بل إن قراءة المرحلة وطبيعتها وأولوياتها وعمق التحولات المطلوبة ما زالت غائبة عن تقديرات هذا الفريق. يقوده الخوف من الآخر وعقدة الاستبداد والاستقواء والاستبعاد ولكن أيضا حساباته الانتهازية الضيقة، لذلك نراه يخوض معركة خاسرة لأنها مبنية على معطيات خاطئة وحسابات بئيسة وفاشلة ومجربة في عديد من التجارب التي لم تورث شعوبها سوى التنازع والصراع والدموع والالم . نتائج انتخابات 4 شتنبر 2015 وترتيب المسؤوليات لقد تسرعت بعض القوى السياسية والاطراف الحزبية في تغيير تموقعها ازاء قضية الاصلاح، وذلك بالمسارعة الى مد يد النجاة –بشكل غير واعي –للقوى التسلطية عندما كانت تتهاوى، كما استعجل في جني ثمار الاصلاح المؤسساتي والسياسي لمّا رضي بمحاولة تجديد المنظومة القديمة ورفض مسار النضال من أجل إقرار مشروع الاصلاح التدريجي القاصد للانتقال الناجز للديمقراطية، فمثل قوة معارضة رئيسية في مواجهة اصلاحات سياسية ومؤسساتية كبيرة بالاصطفاف في جهة قوى الردة، قبل ان تعري نواياهم القوات الشعبية في انتخابات 4 شتنبر 2015 –الاتحاد والاستقلال اساسا-. ونسجا على نفس المنوال في عدم التجانس مع روح هذه المرحلة الاصلاحية التبست أولويات المكون الانتهازي وعوض أن يكون ديدنهم إنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي والقطع مع الماضي أصبح خطرا على تجربة الانتقال نفسها وعائقا أمام تحقيق مطالبها-المطلوب اجراء النقد الذاتي العلني للخروج من المازق-. واليوم يستعد هذا التشكيل المصلحي لخوض معركة جديدة تزيده عزلة سياسية ، بيد ان المطلوب الان من كل الديمقراطيين هو الاستعداد لتشكيل حلف ديمقراطي لحماية الاصلاح والانتقال من خطر الردة السياسية وانجاح الانتقال السياسي والتمكين للتجربة الاصلاحية. إن ديمقراطية الانتقال غير الديمقراطية التامة، وإسقاط الاستبداد المنادى به في الحراك الديمقراطي زمن 20فبراير 2011، لا يقل أهمية وملحاحية في أبعاده الكبرى وآثاره على مستقبل البلد عن حدث الاستقلال والمسيرة والتحرير . لذلك فمثلما انتصبت محكمة التاريخ لتجريد المتعاونين –ذات زمن- مع الاستعمار الفرنسي من إمكانية ممارسة العمل السياسي في فجر الاستقلال، فإن نفس الامر هو واجب المرحلة، على كل الديمقراطيين النضال المشترك جنبا إلى جنب من اجل العمل على حرمان رموز الفساد والاستبداد وناشطي الحزب السلطوي وذيوله من فرصة العودة السياسية المهيمنة والانقضاض على الرصيد الاعتباري للبلد ومباشرة عرقلة مسار الاصلاح الديمقراطي والانتقال السياسي . لكن بسبب من تداخل فضاءات العمل العام، نرى هذه القلة تحاول إرباك الوضع العام أحيانا من داخل المؤسسات الدستورية أو من خلال التجييش في وسائل الإعلام واستعمال كل أساليب الضغط والاستعداد للتحالف مع قوى النكوص الردة . والاتهام الأبرز الذي يتم تسويقه يتمثل في التشكيك في قدرة الحكومة على قيادة عملية بناء الديمقراطية الناشئة واتهام نواياها الاصلاحية وقدراتها على التحريك التنموي والانمائي والتدبيري، لكنهم واهمون واهنون . وفي الحقيقة لم تقم النخبة السياسية ولا الأحزاب المعتبرة بكثير من الجهد لتهدئة هذه المخاوف وتبديد كل الشكوك. فالآن وعلى بعد أشهر معدودات على اجراء الانتخابات التشريعية 2016 والتي تمكن من تشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة لاستكمال اوراش الاصلاح المنفتحة، لم يعد مقبولا استمرار هذا الغموض والضباب الذي يلف الأفق السياسي للمرحلة القادمة.، وجب التوضيح السياسي اللازم للنوايا والمرامي من قبل الحلفاء وكل الديمقراطيين وذلك بتوضيح جدول اعمال مجابهة السلطوية والتحكم في جبهة عريضة ضم كل الديمقراطيين الاصلاحيين. تحتاج الحكومة-بشكل استعجالي- ومن ورائها الأحزاب المتحالفة إلى طرح رؤيتها السياسية على مائدة حوار سياسي وطني عريض إشراكا للرأي العام في برامج الاصلاح واجندته، وأن ترسم رزنامة المحطات المتوقعة فيما يتعلق بملفات ظلت عالقة لحد الان. ومطلوب من الائتلاف الحاكم –بقيادة العدالة والتنمية خاصة- ضبط سياساته في مقاومة الفساد وتطهير المؤسسات العمومية من الزوائد التحكمية المعيقة للتقدم الديمقراطي، والعمل على تطعيم الكيان العمومي للدولة بالاجراءات اللازمة للإسراع بالتخفيف من معاناة الناس والالتزام بمنطق العدالة الاجتماعية وضخ نفس جديد في جسم الاصلاح . ربما يفسر هذا البطء في وضع هذه الرؤية وطرحها في الساحة السياسية الوطنية بسلبيات العمل التشاركي ، حيث تتفاوت الرؤى وتتمايز المصالح، الأمر الذي يفترض قدرة عالية على تنسيق آليات الحوار الطويل والمضني. ولقد مثلت تجربة الانتخابات الترابية والجهوية إبداعا فريدا ينضاف لإبداعات عديدة - –رغم محدوديتها- فعكست الدعم الشعبي العريض المشروط الذي تلقته الحكومة -وخصوصا رئيسها الاستاذ عبد الاله بنكيران - من أنصارها المطالبين بتفعيل الإجراءات وسرعة الإنجاز ووضوح الرؤى.