ثقافة "فيها خير" تعبير جديد لصحافة التواطؤ السلبي مع انظمة الريع والقهر. غالبا ما تتم المحاججة بالحياد والموضوعية لتبرير الصمت، صمت يتحول الى الية نفسية لإبراء الذمة من عدم القدرة على تشريح واقع القهر وفضح تشعباته. لست من قراء السيد طارق بنهدا تعودا بل عرضا حينما تسمح الظروف ويسوق القدر مقالاته امام عيني. بل اعترف انني لم اقرأ له قبل مقاله "فيها خير" .. مشاهداتُ رحلةِ صحافي مغربي ل"أم الدنيا"، اي مقال اخر. فلا اعرف الرجل لا من بعيد ولا من قريب، ولا اعرف قناعاته ولا اراءه. مقاله هو النص الوحيد الذي استند اليه لشجب ممارسة صحفية مدلسة ومستخفة بالعقل الحر. لا يتعلق الامر البتة بشخص ولكن بممارسة ومنطق احسبهما غير سويين منهجيا واخلاقيا.. بداية الحكاية كانت اصلا على اساس خاطئ، مهمة الصحفي ان ينقل الخبر او ان يدلي برأي مع الاحتفاظ بالمسافة اللازمة بينه وبين الحدث. حينما "يكلف" الصحفي من طرف معني مباشر بالتدافع السياسي والاجتماعي بزيارة لمعاينة الواقع دون وسيط فانه يتحول، ولو لم يكن ذلك بإرادته، الى "موظف علاقات عامة". فلو تم ارفاق دعوة الزيارة بوعد لتحمل تكاليف الزيارة او جزئ منها، وهو ما لا علم لي به، فان ما يمكن انتاجه كتقارير صحفية لن تعدو ان تكون سوى تبرير لواقع خاطئ، وفي اسوأ الحالات تملقا وترويجا لنظام شمولي كديموقراطية "نامية" وسط قحط ديكتاتوريات الشرق الاوسط. أحس باستخفاف بالعقول حينما يبرر الصحفي قبوله الزيارة ل" اكتشاف ما يقع هناك، وتحري حقيقة ما يقوله الإعلام الغربي والعربي وحتى المصري عن ذلك الواقع " كأن المعاينة الميدانية الحرة هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة، فما بالك بمعاينة موجهة عن بعد تختار بعناية المسموح بزيارته والمسموح بمحادثتهم. لم أكن لاحس بالاستخفاف لو أن شخصا اخر من عموم الناس وفي إطار دردشة خاصة قدم نفس التبرير. معرفة ما يحدث وتحري حقيقته لا يتم بمتابعة الاعلام فقط، غربيا كان ام عربيا، بل ايضا بتفحص ودراسة تقارير منظمات وخبراء دوليون لا يشكك أحد في نزاهتهم، وان راودنا ألف سؤال وسؤال حول حيادتيهم. تراجع الممارسة الديموقراطية، حبس عشرات الالاف من المعارضين السياسيين، التعذيب الممنهج للمعتقلين، تمديد مدة الاعتقال الاحتياطي، تكميم افواه الصحافيين، تأميم المعارضة، جمع السلط التشريعية والتنفيذية في يد شخص واحد منذ 2013...واللائحة تطول، عشرات هي التجاوزات التي تعددها تقارير منظمة هيومان رايتس واتش (تقرير 2015)، امنستي إنترناشيونال (2015) بل حتى تقرير المجلس القومي لحقوق الانسان الشبه الرسمي (2015). علامات التواطؤ السلبي للمقال تكمن ايضا في تحوير الانظار عن الموضوع الرئيسي للزيارة (حال مصر تحت الحكم العسكري) الى هوامش وتفاصيل تعفي صاحبه من اتخاذ موقف واضح، فلا يجوز ان نأكل الغلة ونسب بعدها الملة! لا اعتقد ان احدا عاتب السيد بنهدا لأنه زار مصر ولن يعاتبه أحد ان نوى زيارتها في المستقبل، فمصر كما قال "في كل الأحوال وتحت ظل أي نظام ليست دولة محظورة ولا منطقة محتكرة يحرم دخولها، المصريون ظلوا طيلة كل تلك الفترات العصيبة يرحبون بكل العالم وبدون أي استثناء". العتاب لا يخص الزيارة نفسها بل يخص متعهد الزيارة، سياق برمجتها، تمويلها واستغلالها السياسي. الصحفي الحر، كما عهدناهم في الغرب والشرق، هو من يسطر اجندته بنفسه ويقتحم عالم صحافة التحري التي من شروطها فك الارتباطات المعنوية والمادية بأطراف "الموضوع" قبل وبعد الخوض فيه. الاصرار المريب لعقد مقارنة وتوازي بين زيارة مصر وطلب مقابلة السيسي من جهة وزيارة تركياواندونيسيا وطلب مقابلة رئيسيهما من جهة أخرى تروم تطبيع الوضع واعتبار النظام المصري حالة طبيعية. نظام مصر اقامته احذية الخفر وتحميه دباباته وبقايا امن الدولة، في حين ان الارادة الشعبية، اغلبيتها على الاقل، هي التي حملت حكومتي تركياواندونيسيا الى مراكز القرار. آخر انتخابات تشريعية في اندونيسيا سجلت نسبة مشاركة قاربت 76%، النسبة قاربت 89% في تركيا في حين لم تتجاوز نسبة المشاركة في اخر انتخابات مصر 15% من مجموع المسجلين. تبرير السياسات الداخلية للدول باعتبارات جيوسياسية مرض ابتليت به كل الديكتاتوريات القديمة والحديثة، من ستالين إلى القذافي مرورا بهتلر وبول بوت وعبد الناصر. لا يهمني كثيرا ان تكون "الحالة المصرية نموذج استثنائي في المنطقة ولاعتبار مصر كانت وما زالت دولة محورية وقطبا مركزيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبإمكانها استعادة ذلك الدور الريادي"، لا يهمني هذا الامر ان كان سيتم على حساب العيش المشترك والديموقراطية وكرامة الانسان، اي انسان بغض النظر عن معتقده وتوجهه الفلسفي واختياراته السياسية. "قل ما تريد أن تقول، نحن نتقبل الآراء المختلفة وليس لدينا مشكل في ذلك" هكذا قال مسؤول مصري للصحفي...تحسبك في زفة العمدة الذي لا يتوانى في تحريك بندقيته ودعوة الخفر لملئ صحنك بمزيد من اللحمة والفراخ. ينتابك حينها شعور بأن العمدة ما قصر وان لا مشكلة لديك البتة ان لا تقول كل ما تريد قوله...او ان تكتبه. وددت تصديق المسؤول المصري بعفوية لكن تلفزيون وصحافة وقضاء المحروسة ابوا الا ان يسقطوا قصور توسماتي الورقية. لكنني سأغير رأيي ان توصلت من السفارة المصرية بدعوة لزيارة معاينة.... شريطة ان تكون "ال انكلوزيف" ولمدة عشرة ايام كاملة لأني اريد ايضا "اكتشاف ما يقع هناك، وتحري حقيقة ما يقوله الإعلام الغربي والعربي وحتى المصري عن ذلك الواقع، ولا يهمني في كل هذا من يحكم مصر حاليا ولا قبلا".