لم تنل سلوكات السياسيين من حدة الانتقادات في السنين الأخيرة مثلما نالت مسألة تقاعد الوزراء والبرلمانيين. وبغض النظر عن طبيعة السخرية التي رافقت هذه الانتقادات وطابعها التراجيدي-كوميدي الذي ميزها في كثير من الأحيان، فإن هذه الانتقادات المتواترة والكثيفة تترجم، في نظري، أمرين أساسيين: 1. التباعد المطرد بين هموم واهتمامات المواطنين من جهة، وسلوك السياسيين المشاركين في التجمع الحكومي من جهة أخرى، مع ما يتبع ذلك من تباعد في التقييم وفي الخطاب؛ 2. اهتمام النقد الاجتماعي السياسي لغالبية المواطنين والمواطنات بقمة جبل الثلج أو الأشجار الأولى التي تغطي الغابة، بدلا ًمن الانغماس في قاع جبل الثلج والتوغل في الأدغال للكشف عن الطبيعة الخفية لجبل الثلج والغابة. وبالطبع لا يمكن أن نجادل في صحية هذا النقاش الشعبي حول مسألة قد تبدو ثانوية ألا وهي مسألة تقاعد المتعاقدين السياسيين، غير أن المناسبة تتطلب منا مناقشة مدى شرعية أو لا شرعية تقاعدهم، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح السؤال حول هوية من ننتدب لهم سلطتنا، نحن المواطنون والمواطنات. أعتقد مسبقا أننا سنتفق جميعاً بأن الوزراء والبرلمانيين مكلفون بمهمة سياسية-تدبيرية وليسوا بموظفي دولة يمارسون مهنة ضمن مؤسسات الدولة. إن مهامهم السياسية-التدبيرية مهمة مؤقتة هي نتاج تعاقد انتخابي-سياسي بين مواطنين (ناخبون ومنتخبون) يسري على المنتخبين المحليين كما يسري على البرلمانيين؛ أما الوزراء فيتم تكليفهم، ضمن قاعدة ديمقراطية مغربية معقدة شيئا ما، من طرف الحزب أو الأحزاب التي حظيت بأكبر عدد من الأصوات و/أو المقاعد البرلمانية. وطبقاً لمبدإ التكليف فهوية الوزير أو البرلماني هي هوية سياسية وليست هوية مهنية، وكل ما يقبض هؤلاء من علاوات ما هي إلا مقابلاً مادياً لأتعاب تستحق التعويض (نقل ومبيت ومواصلات وتحملات ملفات المواطنين) بالنسبة للبرلماني، ومبلغ جزافي يتطلبه العمل اليومي والبرتوكول و "راحة البال" بالنسبة للوزير. نحن هنا لسنا أمام مسألة أجور، فالبرلمانيون والوزراء ليسوا حتما أجراء. أين المشكل إذن؟ ولماذا أثيرت كل ردود الفعل التي قرأناها مؤخراً تجاه تقاعد البرلمانيين والوزراء؟ أولاً، لا ينبغي أن ننسى أن إثارة تقاعد البرلمانيين والوزراء تتم في الوقت الذي يقع فيه اختلاف بل وحتى اصطدام بين الشركاء السياسيين والنقابيين. ففي الوقت الذي يتم فيه الآن، وبجرأة زائدة، النظر في تقاعد العمال والموظفين (لنسمي الأسماء بمسمياتها: العمال والموظفون) على أساس مطالبة هؤلاء بتحمل تبعات سياسات فاشلة ومفشلة في مجال تدبير صناديق التقاعد، حيث يطلب منهم أداء أخطاء المسؤولين على هذا الملف. في هذا الوقت بالذات يتساءل كل مواطن وكل مواطنة حول الحيف الذي يتعرضون له: عمال وموظفون (مدنيون وعسكريون) أفنوا "زهرة" شبابهم في خدمة الوطن، يرون في المقترحات الجديدة المتعلقة بتدبير ملف تقاعدهم بمثابة تراجع في مكتسباتهم وحقهم المشروع في حياة كريمة بعد التقاعد، مقابل سخاء "كبير" في تقاعد متعاقدين سياسيين ولو لفترة وجيزة (قد تستغرق أقل من سنة بالنسبة للوزراء) ومدة أقلها خمس سنوات بالنسبة للنواب البرلمانيين وست سنوات بالنسبة للمستشارين. جل المواطنين والمواطنات يجهلون بأن للبرلمانيين نظاماً للتقاعد مدمج في الصندوق الوطني للتقاعد مثلهم مثل الموظفين، مع فارق أن هؤلاء يمكن أن يستفيدوا من معاشات التقاعد، معفية من الضرائب، بعد خمس سنوات فقط (مدة الانتداب البرلماني)، بينما الموظف عليه انتظار 21 سنة ليستفيد من معاش التقاعد النسبي، معاش خاضع للضرائب. البرلماني، مثله مثل الموظف، يساهم في صندوق التقاعد بمبلغ شهري قيمته 2900 درهم يؤديها من "أجرته" و2900 تؤديها مؤسسته (أي البرلمان)، مع التمتع بحقه في "تقاعد" مدى الحياة يحتسب على أساس 1000 درهم عن كل سنة يقضيها في البرلمان، بمعنى أن من يقضي مدة انتداب 5 سنوات، سيحصل بعد الخروج من البرلمان على معاش قدره 5000 درهم شهرياً مدى الحياة. وبعملية حسابية بسيطة فإن ما يساهم به البرلماني شهرياً يعطيه بعد 5 سنوات رأسمالاً صافياً قيمته 174.000 درهم، وهو رأسمال إذا استهلكناه بمعدل 5000 درهم (أي قيمة المعاش الشهري لبرلماني الخمس سنوات) فإنه سيغطي فقط أقل من ثلاث سنوات (بمعنى أن هذا الرأسمال سيتم استهلاكه في أقل من 3 سنوات)، غير أن القانون يعطي للبرلماني حق التمتع بتقاعده طيلة الحياة، بمعنى أن كل شهر يتقاضاه البرلماني بعد الشهر الرابع والثلاثين سيتحمله بقية منخرطي الصندوق الوطني للتقاعد، أي الموظفون. السؤال المطروح الآن: هل يتعلق الأمر بمعاش مستحق (شرعي) أم بغنيمة (ريع سياسي)؟ المواطنون والمواطنات المتتبعون والمنتقدون "لتقاعد" البرلمانيين يعتبرون ما يتحصل عليه هؤلاء من معاش بمثابة ريع سياسي ويطالبون بإلغاء معاشات البرلمانيين. شخصياً أعتقد أن وجهة نظرهم قابلة للدفاع للأسباب التالية: أولا: البرلمانيون (ومعهم "المستشارون") يفترض أنهم لا يمتهنون "السياسة" بما أن السياسة ليست مهنة. فالسياسي هو أصلاً إما موظف أو محام أو طبيب أو تاجر أو مقاول أو حرفي... وهؤلاء أصلاً من المفروض أن يكون لهم نظام للتقاعد يستفيدون منه. إضافة إلى ذلك فالبرلماني أو الوزير الذي ينهي مدة انتدابه من المفروض أنه يعود إلى ممارسة حرفته الأصلية ويساهم في الإنتاج كما في تمويل صندوق التقاعد المنخرط فيه أصلاً. تبقى هناك حالات شاذة إذ يمكن أن يصل إلى البرلمان (وربما حتى إلى الحكومة) عاطل عن العمل. في هذه الحالة الأخيرة، عندما تنتهي مدة انتداب البرلماني (أو الوزير) الذي كان عاطلاً قبل ذلك، عليه أن يبحث له عن عمل في سوق الشغل. ثانياً، البرلمانيون (ومعهم "المستشارون") يفترض أنهم ليسوا موظفين، وبالتالي فإن حشر انخراطهم في الصندوق الوطني للتقاعد خطأ تقني. ولإنصافهم فإن الحكمة كانت تفترض التفكير في انخراطهم في نظام تقاعد تكميلي في إطار تعاضدي أو تشكلهم كفريق تأمين، بحيث يمكن لهم أن يكتتبوا في إحدى الصيغ التي تقترحها الأبناك المغربية (ضمان التقاعد عن طريق التوفير)؛ ثالثاً، ليس من المنطق في شيء أن توفر رأسمالاً يكفي لأقل من ثلاث سنوات، وتطلب من الموظفين (الأجراء) أن يتحملوا أداء معاشك طيلة الحياة (قد تصل إلى 60 سنة من التقاعد بالنسبة للعناصر الشابة). إن العمل بهذا المنطق سيدفع ولا شك أي موظف له أجرة "محترمة" بأن يساهم بمبلغ 2900 درهم شهري في الصندوق الوطني للتقاعد ليحصل بعد 10 سنوات عمل على معاش قيمته 10.000 درهم شهرياً مدى الحياة (1000 درهم × في 10 سنوات× مدى الحياة). أليس هذا ريعاً؟ من سيوفر رأسمال التقاعد؟ الأمر مستحيل من وجهة نظر الاقتصاد الشرعي. رابعاً، على السادة والسيدات البرلمانيين والبرلمانيات، الوزراء والوزيرات، أن يفهموا بأن ردة الفعل العنيفة للمواطنين والمواطنات مردها أيضاً إلى ضعف حكامتهم وضعف مردوديتهم. لست هنا بصدد تقييم حصيلة العمل البرلماني أو العمل الحكومي، ولكنني أناقش ردود فعل المواطنين والمواطنات وهي محمودة: في كثير من الأحيان البرلمان لا يشرفنا (خطاباً ولغة). في كثير من الأحيان يبدو البرلمان مهجوراً. في كثير من الأحيان يبدو البرلمان كما لو كان مكاناً معداً للقيلولة أو للتخاطب عبر الهواتف النقالة أو للضحك المتبادل أو... وعندما يسمع المواطن بأن رئيس الغرفة الأولى أو الثانية يفكر في نظام تحفيز مادي لحضور الجلسات، أليس من حق المواطن أن يتساءل لماذا يوجد البرلماني أصلاً، ولماذا نخصص له تعويضات شهرية قارة؟ أليس من حق المواطن أن يطعن في شرعية استفادة البرلمانيين من معاشات التقاعد وهم بسلوك بعضهم أو كثيرهم يقومون بالإلغاء الأحادي الجانب للتعاقد الانتخابي-السياسي الذي بفضله من المفروض أن يتواجدوا هناك ويحققوا نتائج ملموسة لبرنامج أعد مسبقاً ونال ثقة الناخبين؟ هذه الحسابات تبدو في الواقع مجحفة إذا ما نظرنا إلى الرسالة "النبيلة" للبرلمانيين وللوزراء ومدى مسؤولياتهم الجسيمة التي يتحملونها. نحن المواطنون والمواطنات نتفهم ذلك. غير أن ما لا نتفهمه هو كيف "يعاقب" هذا الجندي الذي يدافع عنا جميعاً (عنك وعني وعن حاضرنا ومستقبلنا) بمعاش هزيل لا يتعدى في كثير من الأحيان 1000 درهم في الشهر بعد خدمة الوطن أربعين عاماً، ويجازى البرلماني ب 5000 درهم شهرياً مدى الحياة بعد " خدمات" 5 سنوات فقط ، والوزير ب 39.000 درهم شهرياً مدى الحياة بعد خدمات قد تكون غير منتجة (نموذج خدمات الشوكولاطة والكراطة والبرنامج الاستعجالي...) وقد تقل عن شهرين (في حالة تغيير مفاجئ، كلي أو جزئي للحكومة). أليس هذا ريع؟ أعتقد شخصياً (وقد يتفق معي الكثير من المواطنين والمواطنات) أن مسألة الإثارة التراجيدية-الكوميدية لتقاعد البرلمانيين والوزراء تنم عن نضج عظيم للمواطنين مقابل قصور رؤية لدى الكثير من البرلمانيين وأعضاء الحكومة. قد يقول قائل: لدينا البرلمان الذي نستحقه ولدينا الحكومة التي نستحقها! لا، نحن نستحق برلماناً أحسن وحكومة أحسن وسياسيين أحسن: سياسيون يصغون لنبضات المواطنين والمواطنات ويعدّون سياساتهم العمومية وفق هذا الإنصات. وحتى يتم الإنصات لا عيب أن نتعلم بغض النظر عن عمرنا سواء كنا شباباً أو شيوخاً. السياسة آداب عامة قبل كل شيء: بإمكاننا أن نتعلم خطاباً عمومياً مدنياً يدافع أو ينتقد لكنه لا يجرح الحس المشترك ويعطي القدوة. بإمكاننا أن نتعلم الاستعمال الذكي للهواتف الغبية ونحافظ على مصداقيتنا كبرلمانيين أو كوزراء. بإمكاننا أن نتعلم أصول القيادة الرشيدة ونحقق الأهداف الإستراتيجية للدولة. بإمكاننا أن نتعلم بأن دور السياسي هو خدمة المواطن وأن مهمة التشريع (كما التنفيذ) تنطلق من المواطن وتنتهي في المواطن. المواطنون والمواطنات ينتظرون من البرلمان ومن الحكومة عدم الكيل بمكيالين، فعندما نكون أمام أزمة، على الجميع أن يتحمل الأزمة، وعندما نكون أمام رخاء علينا أن نستفيد كلنا من الرخاء. بمعنى آخر، فإن حكومة رشيدة لا تعلق أبداً ازماتها على الموظفين والعمال، بل تبدأ التقشف من داخلها. والتقشف الآن يمر عبر القضاء على كل أشكال الريع (بما في ذلك تقاعد الوزراء والبرلمانيين) والقطيعة مع سيارات الخدمة (لأنها مهلكة وليست منتجة) والرقي برأسمالنا البشري (بإنصاف وتأهيل العمال والموظفين) وضمان استمرارية التضامن بين الأجيال (عبر ضمان معاش متحرك لائق للعمال والموظفين). ننتظر من السياسيين مزيداً من "الإبداع السياسي" الذي ينصف الجميع. وعندما يتعلق الأمر بمسألة تقاعد العمال والموظفين، فالمطلوب ليس الضغط عليهم عبر تمديد سن التقاعد وتقليص المعاشات، وإنما عبر الاجتهاد في ضمان تنمية الرأسمال التضامني فيما بين الأجيال والتفكير في ترقية المعاشات حسب تطور مستوى المعيشة. إن السياسي الناجح والمبدع ليس من يجتهد في إخضاع مصير العمال والموظفين للإكراهات المالية، وإنما من ينمي الموارد المالية ليساير حاجيات وطموحات العمال والموظفين وعموم المواطنين. وفي انتظار أن يتحقق هذا النوع من السياسي، لا بأس أن نصغي بعضنا لبعض ونقتنع بأن المواطنات والمواطنين يعتبرون تقاعد المتعاقدين السياسيين (البرلمانيون والوزراء) شكل من أشكال الريع السياسي ونتذكر بأن السياسة مهمة وليست مهنة. وبدلاً من أن يلغي التقاعد التعاقد (السياسي)، على التعاقد أن يلغي التقاعد.