قال صلى الله عليه وسلم : "... اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور" (الترمذي) هذه عبارة وردت ضمن حديث نبوي في سياق ما يستعاذ منه. أصلها من نقض العمامة بعد لفها، ومعناها النقصان بعد الزيادة، وقيل: فساد الأُمور بعد صلاحها. ومناسبة العنوان هي مناقشة الأسباب التي تجعل شعوبنا العربية تهتف باسم "الثائر العظيم" و"الثورة المباركة" ثم لا تلبث أن تثور مجددا على "ثوارها". هذا أمر لا يخفى حتى على أدنى المتتبعين لأحوال العرب منذ بدء "الاستقلالات الصورية"، فكل التاركين لكراسيهم اليوم إنما تبوؤوها باسم "الثورة" أو ورثوها باسم الحفاظ على "مبادئها". ألم تكن هذه "الثورات" تبشر بالحرية، وتنادي بالعدل، وتعد بالكرامة؟ ألم تقدم الشعوب ضحايا بالآلاف من أجل هذه الثورة أو تلك؟ ألم تمتلئ الشوارع بالحشود، وتخرج المسيرات بالملايين؟ ألم تضرب الدفوف، وتغنى الأناشيد فرحا ب"أبطال الثورة"؟. هذه صور عاشها آباؤنا في سنوات القرن الماضي، وتتكرر اليوم بنفس العرامة من السخط على واقع بئيس، وبنفس الحجم من التحمس لغد أفضل وعيش رغيد. نفس الروح تسري لكن بجرعة إضافية أمدتها بها تقنيات المعلوميات الحديثة، وألهبها زخم التحليلات والتعليقات المتضاربة هنا وهناك. تكررت أفراح "الثورة" نعم. ويخشى أن تتكرر مآسيها. هذا رهين بمدى استيعاب الشعوب لدروس العقود الأخيرة، ومدى إصرارها على القطع مع كل أشكال الالتفاف والتنازل والتلاعب بالمبادئ التي يقوم عليها كل تغيير. إن عرض الثورات السابقة تحت مجهر الدراسة والتحقيق ليس بالأمر الهين، وهو مسألة معقدة يتداخل فيها البعد النفسي الأخلاقي مع السياقات التاريخية والمصالح الاقتصادية والحسابات السياسية. وأية مقاربة لهذه الظاهرة تستبعد في تحليلها أحد هذه المستويات لن تضع الأصبع على مكمن الداء، ولن "تمحض النصح" لهذه الشعوب التي ما يفتأ أن يبين لها غش حاكميها حتى تفجأ ب"غش" المقاربات و"دَخَنِ" الدراسات، لتعود من جديد أسيرة الظلم والاستبداد. يحتاج المسلمون من أجل بداية صحيحة إلى نظر ثاقب، وبديهة حاضرة فيما جرى ويجري من أحداث طوال عقود، بل أجيال ، بل قرون. ما أذكانا حين نرفض "إصلاحا ترقيعيا" يعرضه نظام يحاول تأجيل ساعة الاحتضار. لكن ما أغبانا حين نرضى ب"تشخيص سطحي" و"تحليل تبسيطي" لأدوائنا وأمراضنا وجرثومة هواننا، لأننا نستعجل قطف الثمار عندما تستخفنا نشوة الانتصار. لا يعادل غباءَ محاولة التأجيل من جهة نظام محتضر إلا غباءُ استعجال النتائج من جهة من نُزِغَ من جُحر مرات ومرات. أن تستريح من التهابات المعدة ليعلوَك صداع الرأس، وأن تسكن من حدة الآلام أياما ثم تغشاك من جديد، هذا ألصق به ما شئت من الأسماء، وعلِّق به ما رضيت من الأوصاف إلا أن يكون شفاء.لكن أن تقطع دابر المرض، وتستأصل شأفة الداء، فهذا هو العلاج الذي تغادر معه كل الأسقام. المسألة تستدعي حقا التشخيص الدقيق والوقت الكافي والهدف الواضح، وحسبي في هذه الأسطر أن أشير – وباختصار شديد - إلى ثلاث نقاط : أولا : الثورة التي يكون أساسها العنف ومظهرها حمل السلاح في وجه البر والفاجر لا تأت بخير مهما بدا لعين الساذج من بهرج التغيير وبريق الإنجازات. ماذا تنتظر من ثورة أبطالها عسكريون ومسؤولون سابقون في أجهزة المخابرات و"أمن الدولة"، استهلوا فترة حكمهم بهدر الدماء وتصفية المخالفين، إلا أن يمسكوا زمام الرعايا بيد من حديد بما فيه من بأس شديد لا بما فيه من منافع للناس. البذلة المدنية والثغر الباسم يخفيان وراءهما وجه "المنقلب العسكري" العابس المتجهم الذي اعتاد "تنظيم شؤونه" بمقاربات أمنية ودم بارد. ثانيا : الولاء لل"ثورة" أم ل"بطل الثورة"؟ هذا سوء تفاهم فظيع. العالم كله سمع "أمير الجرذان" يقول بملء فيه أنه هو المجد وأنه القائد الأبدي. تَنَصَّل هذا عن رداء العافية بمجاهرته. ويتسربل آخرون بعباءة النفاق.والله يشهد إنهم لكاذبون. إن تقدير رجل أعز قومه، ونفع بلده، أمر مطلوب. والأمة التي تتنكر لرجالها ليست هناك. لكن "القائد الملهم" في ثوراتنا السابقة يحيل على التعلق القلبي الغريب بمثل هذه الألقاب، ف"يلهم" حكامنا أنهم قدر هذه الأمة وقضاؤها، وأن في تسلطهم على رقاب أبنائها عزها ورخاؤها !!! . ماذا ألهم "أب الناصريين" يوم أخزاه الله في هزيمته الشنعاء إلا أن يذرف أمام الشعب دموع التماسيح ويلوح بتنحيه ليرتفع الهتاف عندها باسمه وبالتوسل إليه ليظل "قائدا". يا للخيبة! يا للاستخفاف!. ثالثا : هذه النقطة مرتبطة بسابقتها، ذلك أن الدولة بعد "الثورة" تبنى على نفوذ محيط "الثائر"، فتسمع في بلد عن "عشيرة الرئيس" و"حزب الرئيس"، وفي بلد آخر عن "زوجة الرئيس" و"نجل الرئيس".و يصبح هذا "المحيط" فضاء للسلطوية والاستغناء المشبوه وما يتناسل عنهما من رذائل العلاقات داخل المجتمعات العربية. والحكايات في هذا الباب أشهر من نار على عَلَم. لعل هناك الكثير من الباحثين الذين تعرضوا لمثل هذه النقاط في كتب ألفوها أو دراسات أشرفوا عليها، نظريات، لكن المعول عليه في هذه الفترة بالذات أن تنتبه ثوراتنا الحالية "عمليا" و"ميدانيا" لمسار حركتها حتى لا تنزلق مرة أخرى في حُفَر التاريخ، فما يبرح رضيعنا أن يهنأ بالشراب الزلال أياما حتى يذيقه "المنقلبون" من علقمهم عقودا. نعوذ بالله.