تعيش وزارة التربية الوطنية هذه الأيام على وقع الاحتجاج، ويرابط أساتذة التعليم المدرسي الدكاترة أمام الوزارة معتصمين، إلى حين تسوية وضعيتهم وإحداث إطار "أستاذ باحث"، الذي يصر صقور الوزارة على عدم الاستجابة له. فالوضعية التي تعيشها الوزارة اليوم، وشد الحبل المتواصل مع الدكاترة كان نتيجة تراكم الأخطاء، ولعل أخطرها هو توظيف الدكاترة ضمن التعليم المدرسي، بينما مكانهم الحقيقي هو الجامعات ومراكز البحث. فمع أننا نصنف ضمن الدول الأقل عطاء في ميدان البحث العلمي، وجامعاتنا في مؤخرة التصنيفات العالمية، فإننا نشاهد هذا النزيف المتواصل للأطر وهذه "البهدلة" المستمرة لشهادة الدكتوراه. إن وضعية الدكاترة في التعليم المدرسي إهدار للطاقات والجهود، وشاهد آخر على التسيب والترقيع الذي يطبع عقليات مسؤولينا، والذي لا يجب الاستمرار في السكوت عنه. فالدكتور أبلى زهرة شبابه في البحث العلمي داخل المختبرات والمكتبات. وفي الأخير يجد نفسه – مرغما على كل حال- على أداء وظيفة يمكن أن يؤديها بكفاءة ونجاح شاب حاصل على شهادة الإجازة مع سنة من التكوين. وفي المقابل تضيع على الدولة جهود بحثية كبيرة وطاقات تنموية جبارة. فكل دكتور باحث في جعبته مجموعة من الأبحاث والمقالات التي لا تجد مجالا للاختبار والتطبيق داخل المؤسسة التعليمية الثانوية. فنقتل من حيث ندري أو لا ندري روح الإبداع والبحث العلمي. وفي المقابل تصر الوزارة على تكريس هذه الوضعية عبر الامتناع عن الترخيص للأستاذ الدكتور باجتياز مباريات الجامعات المغربية إلا بعد اجتياز ثماني سنوات على الأقل، أي بعد أن تكون جذوة البحث قد خمدت، والآمال قد تقهقرت ، ومسيرة البحث قد توقفت. فلنتصور هذا الإحساس بالغبن والظلم لدى إنسان أفنى زهرة شبابه في العلم والتحصيل وقضى أزيد من عشر سنوات في مقاعد الجامعة، ليجد نفسه في الأخير محفوفا بسلسلة من القرارات والمذكرات التي تجعله محجورا عليه في دهاليز الوزارة لثماني سنوات، يحاول تسلق سلالمها الصدئة. الدكتوراه هي أعلى شهادة تمنحها الجامعة المغربية، لكنها لا تستطيع إدماج حاملها في الإطار العادي الذي يجب أن يكون فيه. لنتصور الدكتور الذي كان يقارع الأفكار بالأفكار، ويقضي يومه بين المجلدات والأدوات المخبرية يقارع اليوم الشعارات أمام الوزارة، ويتفقد عظامه بين الحين والآخر أمام عصا البوليس الغليظة. هذا الدكتور كان أمل العائلة والحي والدوار والقبيلة، يدرس اليوم تلاميذه المراهقين، فيفترض فيه أن يصنع الأمل والثقة في المستقبل في هؤلاء جميعا. فكيف يصنع الأمل من تعتصر الآلام فؤاده؟ وكيف يحيي الثقة في المستقبل من افتقد الثقة في كل ما يحيط به؟ فعن أي مستقبل تتحدثون؟ وأي جيل صاعد تصنعون؟ فيكاد العاقل يجن وهو يتساءل: ألا تحتاج الدولة إلى أطرها وأبنائها البررة من الدكاترة؟ ألدينا فائض في الأطر إلى هذه الدرجة؟ ألا يجب إعطاء فرصة لهؤلاء الشباب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في جامعاتنا ومراكز التكوين لدينا؟ بأي منطق نساوي بين كل الشهادات التي تفوق شهادة الإجازة؟ أين سيوظف الدكتور الذي يدرس في الإعدادي أو الثانوي نتائج أبحاثه ودراساته؟ ألسنا في حاجة إلى هذه الثقافة العالمة عوض وأدها؟ بأي منطق نلهي الدكاترة في هذه المعارك الهامشية ونستنزف طاقاتهم في الساحات والمعتصمات وأمام أبواب الوزارات؟ فالأسئلة تتناسل، لتترسخ المقولة القديمة الجديدة "ما دمت في المغرب فلا تستغرب".... [email protected]