اختارت جماعة العدل والإحسان أن تخلد الذكرى الثالثة لوفاة مؤسسها عبد السلام ياسين بالتساؤل عن دور النخب والشعوب في التحولات الإقليمية الراهنة، والتي تتسارع وتيرتها في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص، وجمعت للإجابة عن هذا التساؤل عددا من الأكاديميين القادمين من المنطقة المغاربية، حيث اتفق جل الباحثين المغاربة، وحتى القادمين من دول مجاورة، على أهمية التربية في بناء وعي الشعوب، مؤكدين أن الدول التي شهدت ما سمي "الربيع العربي" قد أظهرت، بالملموس، أن المنطقة تعاني أزمة نخب. عودة الدولة العميقة قال محمد الحمداوي، عضو مجلس إرشاد "الجماعة"، إن ما يسمى ب"الربيع العربي" قد أطاح ببعض رموز أنظمة الاستبداد، لكنه لم يستطع اقتلاع "الدولة العميقة"، مضيفا أن انطلاق أولى شرارات الثورات، من تونس، كان عاملا حاسما في تكسير حاجز الخوف، خصوصا وأن تونس كانت تعرف بكونها من أعتى الدول البوليسية في المنطقة. وأضاف القيادي في "الجماعة" أن الجماهير، عندما نزلت للشارع تنشد الحرية والكرامة، لم تكن لديها قيادة، وهو أمر طبيعي، لكن الطبقة السياسية لم تستطع بناء برنامج سياسي يرافق هذا الحراك الشعبي، ويكون مبنيا على التوافق، قبل أن يشدد على أن الدولة العميقة شكلت "حجر عثرة لنجاح الحراك الشعبي". وعبر المتحدث نفسه عن قناعته بأن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات، في العديد من الدول، لا تزال قائمة، من فقر وتهميش وسوء توزيع للثورات، وحتى انعدام للحريات، مشددا في الوقت ذاته على أن قيام أي هبّات أو حراكات اجتماعية قادمة يجب أن ينبذ العنف "لأن العنف لا أفق له ولا يمكن أن تكون هناك ثورات ثقافية مع وجود عقلية الإقصاء". واستغرب الحمداوي كيف أن القوى الغربية لم تجد حرجا في أن تصف الحركات في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية بأنها حركات للحرية، ولكن "الأمر لم يحدث بالنسبة لحركات الشعبية في المنطقة العربية، حيث صمت الغرب عن قمع هذه الحركات بسبب أمن إسرائيل والنفط". واستعان الحمدواي بفكر الراحل عبد السلام ياسين كي يؤكد فكرة مفادها أن "جماعة لا يمكنها أن تقوم بتحمل أوزار الماضي وثقل الحاضر، وتخطط للمستقبل، وذلك مهما بلغ عدد هذه المجموعة وحضورها في المجتمع"، داعيا إلى "اعتماد خطاب سياسي عام ينبذ العنف ويحصن المشهد السياسي من الممارسات التي تقتل الحياة السياسية". نافعة وغير نافعة قسّم المختار العبدلاوي، الأستاذ بجامعة الحسن الثاني، النخبة الفكرية في المغرب إلى نخبة نافعة وأخرى غير نافعة، موضحا بأن النخبة التي تخرجت من مدرسة طارق ابن زياد، في منطقة آزرو أو ما عرف ب"مدرسة آزرو"، لم تكن تدافع عن الأمازيغية التي هي جزء أصيل من الهوية المغربية، وإنما كانت تدافع عن اللغة الفرنسية، وهذه النخبة هي التي تحكمت، منذ استقلال المغرب، في دواليب الاقتصاد والإدارة، وباتت هي التي تقدم تصورها للنموذج الثقافي للبلاد، علما أن هذه النخبة لم يكن لديها حضور جماهيري، "وهي نخبة لا جذور لها في المجتمع" يؤكد العبدلاوي. أما "النخبة غير النافعة"، وفق الأكاديمي نفسه، فهي التي كانت تتوفر سابقا على قاعدة جماهيرية، ولها أفكار مكتوبة، ومع ذلك تم تهميشها، مؤكدا ضرورة انفتاح الدولة على جميع الأفكار، وفي المقابل يتعين على المجتمع أن يكون نقديا، بالإضافة إلى توفير دمقرطة الثقافة والاشتغال على المجال التربوي، عبر التعاون بين المكونات الجمعوية والثقافية، مع الانتباه للنقلة الرقمية، "هذه هي الطريقة التي يمكن من خلالها تجاوز الانحباس الحاصل على مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع"، يزيد المتدخل. وشدد الباحث المغربي على أن المغاربيين تأثروا بالثقافة السلفية وليس الوهابية، وإنما التيار السلفي الذي كرسه جمال الدين الأفغاني، الذي أكد على أن الوصول إلى الحقيقة يمكن أن يكون عبر مسار الوحي أو العقل، وهي فكرة تعتبر امتدادا لفكر ابن رشد، ليخلص العبدلاوي إلى كون المنطقة المغاربية لم تجد صعوبة في المزج بين الرؤية العقلية والحداثية، وبين الوحي كأساس لبناء المستقبل. على مقاس النظام قدم الأكاديمي التونسي فتحي الغزواني صورة عن وضع النخبة في تونس، مشددا على ضرورة التمييز بين النخب التي تعرضت للسجن والتضييق والنفي، خلال فترة حكم كل من الرئيسين لحبيب بورقيبة وزين العابدين بنعلي، ونخبة أخرى قامت السلطة بوضعها على مقاسها وهدفها هو خدمة مصالحها. وأكد المتحدث، القادم من وطن "ثورة الياسمين"، أن بلده عرفت تشكيل نخبة تابعة للنظام الحاكم، وهي المتمكنة من مواطن صنع القرار، أما النخب المعارضة فكانت إما منفية أو مسجونة، أو مضيقا عليها، وبعد الثورة فوجئت النخبة المعارضة بما حدث في تونس، "وتعاملها لم يكن في مستوى تطلعات الجماهير، وكان التجاوب مهتزا، وظهر هذا بجلاء عندما تسلمت سلطة الحكم". في المقابل شدد الغزواني على أن النخب التابعة لنظام بنعلي استفادت من فترة حكم الرئيس المخلوع، ولذلك تأقلمت سريعا مع الوضع الجديد، بل تنبت خطابا ثوريا أكثر من النخب التي كانت تعارض بنعلي؛ ويواصل الغزاوني وصفه لنخب النظام المطاح به بكونها هيأت لها رداء جديدا، واستعادت زمام المبادرة مرة أخرى، "الأمر الذي دفع النخب الفاسدة التي تقايض الحرية بالأمن، وهي من وسائل النظم الاستبدادية، ووصلنا إلى أن الحرية التي عشقها الشباب تزوجها الشيوخ" على حد تعبير المتحدث التونسي. تحريك العقل الباحثة الموريتانية زينب التاقي أكدت أن "المنطقة العربية تعيش أزمة نخب، لأن هذه الأخيرة بقيت حبيسة برجها العاجي، ومنعزلة عن المجتمع"، مشددة على أن الإصلاح في دول المنطقة مربتط بالشعوب، وأنه "من العيب الرهان على نخبة بعيدة عن الشعوب"، بيد أن الرهان على الشعوب يستلزم ،حسب المتحدثة ذاتها، "تحريك العقل المسلم الذي بقي حبيسا لموروث كتب تحت تهديد الاستبداد". ومن بين المعيقات التي يجب تجاوزها، حسب الأكاديمية الموريتانية، يتواجد الخروج من انحصار الوعي الحقوقي لدى شعوب المنطقة، والتي تعتبره المتحدثة عاملا مباشرا لاستمرار الاستبداد، قبل أن تدعو النخب الصادقة إلى بناء التصورات التي تجعل من المجتمعات تسمو عن النعرات والاختلافات القبلية. وعبرت زينب التاقي، ضمن مداخلتها بالموعد نفسه الملتئم بمدينة سلا، عن قناعتها بكون التربية هي أساس كل تغيير، لأنه بالتربية يمكن تجاوز فكر الإقصاء، وتعزيز ثقافة تقوية المشترك بين أفراد المجتمع الواحد.