لا شكّ أنّ ما أَوْقَعه، في 13 نُوفمبر الماضي، «الإجْرامُ الاسترهابيُّ» من ضحايا في العاصمة الفرنسيّة "پاريس" يُمثِّل فظاعةً كُبْرى مِمّا يَقْترفُه «المُفْسِدُون في الأرض» عُدْوانًا بغير حقّ ومِمّا لا يُسوِّغُه دينُ "الإسلام" إِلَّا في نظر من كان في قلبه مَرضٌ سواء أَعُدّ من المُسلمين أو من غيرهم. ولكنّ هذا الاستنكار لا يَستقيمُ إِلَّا إِذَا ٱقترنَ بٱستنكارٍ آخر يَرْفُض أن تُتّخذَ تلك الفَظاعة من قِبَل كُلِّ مَنْ له مصلحةٌ من السِّياسيِّين والإعلاميِّين في توسُّل «الإرْهاب بٱللَّاأَمْن» لتَبْرير حُرُوبهم ضدّ مُختلِف «المُستضعَفِين في الأرض» (و، بالأخصّ، منهم "العرب" و"المُسلِمين" لإصْرارهم على مُقاوَمةِ ما يُؤْتى من الباطل والعُدْوان بٱسم مُحارَبة «الإجْرام الاسترهابيّ»). ومن جرّاء تلك الأحداث الفاجعة، صار أَخيرًا سادةُ العالَم إلى إعلان الحقيقة الذي ظَلُّوا يُخْفُونها: «أَنّهُم في حَرْبٍ»، بل أنّهم كانوا (ولا يزالون) يَخُوضون حُروبًا قَذرةً (فلسطين، أفغانستان، العراق، الصُّومال، الشِّيشان، ليبيا، سُوريا، اليمن، مالي). وإذَا كان مقالُ «حُرُوبُكم، قَتْلانا» للكاتب الفرنسيّ "جُوليان سالانْگ" (Julien Salingue, «Vos guerres, nos morts», Mediapart, 14 novembre 2015) يُمثِّل أحسن تعبير يَفْضح حُرُوب المُتاجرين بمَآسي البَشر التي هي السبب في القَتْلَى "هُناك" و"هُنا"، فإنّ الفيلسوف الألمانيّ "يُورغن هابرماس" قد لَخّص حقيقةَ الأمر بقوله: «أديانُ التّوْحيد الكُبرى تَمتدّ أُصولُها بعيدًا جدًّا في الزّمن [الماضي]، في حين تُعَدّ الحركاتُ الجهاديّةُ شكلًا حديثًا تمامًا، شكلًا من ردّ الفعل على شُرُوطِ حياةٍ تَتميّزُ بالاجْتثاث. ولَفْتُ الانتباه، لغرضٍ وِقائيٍّ، إلى إِدْماج اجتماعيٍّ مُتعثِّر أو إلى تحديثٍ اجتماعيٍّ مُختلّ لا يُخْلي، بالطّبع، ذِمّةَ مُقْترِفي تلك المَصائب من كُلِّ مَسؤُوليّة شخصيّة.» (لُومُوند، 21 نوفمبر 2015). ولعلّ الفِلْم الأمريكيّ "مَأْوًى" (Shelter) يُجسِّد شيئًا من واقع «بُؤْس العالَم» بصفته المَأْوَى الفِعْليّ ل«ٱلإجْرام الاسترهابيّ». وهذا الفِلْم من بُطولة "أنتوني ماكّي" (Anthony Mackie) و"دجينفر كُونْلي" (Jennifer Connely)، ومن إخراج "پول بيتاني" (Paul Bettany)، وهو فِلْمٌ مُنْجَزٌ في عام 2014 وصادر في 13 نوفمبر2015 (لا ينبغي، بالخصوص، خَلْطُه بالفِلْم الآخر الصّادر في هذا العام بالعُنوان نفسه من إخراج "وريون بُولين" و"آدم كُوديل"، ولا بالفِلْم الآخر الصادر عام 2007 من إخراج "يُوناح ماركوفيتز"). يَتضمّنُ فِلْمُ "مَأْوًى" ذاك أَجوبةً عن الأسئلة التي تُلِحّ على كثيرين مِمّنْ يُريدون أن يَفهموا شيئًا يَتجاوزُ ما يُصرّ مُحْترفُو "التّضْليل" على تَرْسيخه حول ما يُسمّى "الإرهاب" وما يُخْتزَل مصدرُه في «التّطرُّف الدِّينيّ» الذي يُجسِّدُه لديهم "الإسلامُ" ومُجتمعاتُه الغارقة في "التّخلُّف" و"التّزمُّت" فقط بفعل أسبابٍ ذاتيّةٍ لا صلة لها، في ظنِّهم، بنظام "الهَيْمنة" العالَميّ! وتَتعلّقُ قِصّةُ الفِلْم بِرَجُلٍ من أَصلٍ أفريقيّ أسود وَجَد نفسَه مُهاجرًا بلا أوراق يَعيش مُتشرِّدًا دون مَأْوًى في شوارع "نيويورك". وفي يوم من الأيام، ٱحْتجزته الشُّرْطةُ؛ ولمّا أَفْرَجتْ عنه، عاد إلى حيث كان يَتْرُك أَمْتعتَه بالشّارع، فأَلْفاها قد نُهِبتْ بما فيها حِذاؤُه الشّتْويّ الذي رَأَى جارَه "دْجيري" يَنْتعلُه بعد أنْ ٱلْتقطه غَنيمةً. ثُمّ إنّ "طاهر" هذا، في أثناء تَجْواله بالشّوارع، لَمَح ٱمرأةً فظَلّ يُلاحقُها ويَرْمُقها من بعيدٍ إلى أنْ أَظْلَم اللّيلُ فٱقترب منها على أحد الجُسور، ممّا جَعلَها تَدْخُل معه في خصامٍ طالبةً منه أن يَكُفّ عن مُلاحَقتها. ومن خلال مُحادَثةٍ قصيرةٍ بينهما، أَخبرها أنّه إنّما يُريد سُتْرتَه التي تَنْتَطقُ بها، ثُمّ لَمّا أَلْقَتْها في وَجهه أَسْدى إليها النُّصْح بأَلَّا تبقى طويلًا على الجِسْر مُلَمِّحًا إلى أنه مكانٌ ٱعتاد أمثالُها أن يُلْقُوا بأنفسهم من فَوْقه ليَنْتحروا. وما كاد "طاهر" يُنْهي كلماتِ نصيحته، حتّى ٱعْتلتِ المرأةُ شِباكَ الجِسْر فأَسرع إليها وطَرَحها على الأرض مُمْسِكًا بها وهي تُحاول أن تُفْلِتَ منه لكي تُكْمِلَ فَعْلتَها «لأنّها تُريد أن تُغادر [هذا العالَم]». كانتْ هذه الحادثة السّببَ في اللِّقاء بين "طاهر" و"حَنّا" (أو، أحسن، "هَنَاء" في مُقابل الاسم اليهوديّ Hannah) التي هي ٱمرأةٌ بيضاء قادتها الظُّروفُ إلى أن تَعيش مِثْلَه مُتشرِّدةً في الشّارع بلا مَأْوًى، لأنّها ٱنْتهتْ إلى إدْمان المُخدِّرات بعد أنْ فَقَدتْ زَوْجَها الجرّاح الذي قُتل في مُهمّةٍ بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 [...]؛ وتَطوَّرتِ الأُمورُ بين "طاهر" و"حنّا" إلى أنْ وَجَدا نَفْسيْهما مُتشرِّدَيْن مُتصاحِبَيْن ومُتحابَّيْن. ومن أجمل مَشاهد الفِلْم ذلك الحوار الذي دار بين بَطَلَيْه حينما كانتْ "حَنّا" مُنْتشيةً وتُداعب "طاهر" سائلةً إيّاه عمّا إذَا كان مُؤْمِنًا حقًّا، فإذَا به يُجيبُها بأنّه يُؤْمن دون أَدنى رَيْب؛ لكنّها سَخِرَتْ منه مُعترضةً بما في العالَم من بُؤْس، فردّ عليها بأنّ نبيّ اللّه رَأى الجنّة وأكثر أهلها من الفُقراء، غير أنّها لم تُصدِّق وأَمْعَنتْ في سُخْريّتها من طِيبَته إذْ يَرْجُو ما لن يَتحقّق إِلَّا بعد موته! وتَكرّر هذا المشهدُ وهُما في داخل منزلٍ تَسلَّلَا إليه في أثناء غياب أَهْله، حيث بادرتْ "حنّا" إلى سُؤالِ "طاهر" عن إيمانه، فسَأَلها بدوره عمّا تُؤْمن به؛ وكان جوابها أنّها تُؤْمن، مثلا، ب«الانفجار العظيم»؛ فإذَا به يَسألُها عمّن أَحْدَث هذا الانفجار؟ فتَقُول له: «تلك هي المُشكلة، لكنْ لا يُعْقَلُ حَلُّها بما هو أعقد منها!»، مُشيرةً بذلك إلى أنّ الإيمان باللّه ربًّا خالقًا ومُدِّبرًا للكون لا يَمنع من استمرار السُّؤال عن الأصل (وهذا ظنّ كثير من المَلاحدة لغفلتهم عن أنّ الإيمان باللّه يَستلْزم أنّ له «كُلّ صفات الكمال» بما يَجعلُه «واجبَ الوُجود» أو، بالأحرى، «الغنيّ بالوُجود» الذي لا يَفْتقر إلى «علّة مُوجِدة») [...]. ويُفْهَم من ذلك أنّ ظُروفَ التّشرُّد جَمعتْ بين مُؤْمن ومُلْحدة يَتحاوران ويَتعارفان! ومن أجمل مَشاهد الفِلْم، أيضا، ذاك الذي حاوَل فيه "طاهر" مَنْع "حنّا" – لمّا كانا يَبِيتان بنفس المنزل- من الاستمرار في إدْمان المُخدِّرات فأَخذ يُؤنِّبُها بعد أن أَلْقى صورةَ ٱبنها بين يَدَيْها وهو يُخاطبها: «عارٌ عليك! أيُّ أُمٍّ أنتِ؟! كيف تَتْرُكينَ ٱبْنك وحيدًا؟!» (سَبَق في الفِلْم أن ٱسْتلَم "طاهر" صورةَ ٱبْنِها من أبيها الذي أَتى يَبحثُ عنها في الشّارع فسأله أن يَدُلّه عليها [...])، مِمّا أَدّى إلى نُشُوب مُشادّةٍ بينهما تَرتّب عليها أنْ واجهتْهُ "حنّا" بالسُّؤال عمّن «هو في الواقع» بما أنّه صار يَعْرِف عنها كُلَّ شيءٍ ويَأْبَى أن يُعرِّفها بنفسه. وبعد شيء من التردُّد سَرَد "طاهر" قصّتَه مُخْبرًا إيّاها بأنه آتٍ من مكان أشدّ عُنفًا من كُلّ ما يُمكنُها أن تَتصوّرَهُ؛ فهو من "نيجيريا" حيث وَجد نفسَه، في ذات يومٍ، يُشاهد (مُخْتبئًا مع ٱبنه "إبراهيم" في دُولاب) زوجتَه تُغتصَبُ وتُقْتل؛ ثُمّ أَتتْ بعدُ رصاصةٌ أصابتِ ٱبْنَه فأَوْدتْ بحياته؛ وفي خلال المَأْتَم جاء من أَخْبره بأنّ «الإسلام زهرةٌ جميلةٌ، لكنّها تحتاج - في بعض الأحيان- إلى الأشواك!»؛ مِمّا دفعه إلى أن يَنْخرط فورًا في تنظيم «بُوكُو حرام» فيَصير إلى ٱقْتراف كُلّ الفَظاعات التي جَعلته مُجْرمًا يَستحقّ أن يُخلَّد في نار جهنّم. وكمْ كانتْ قصّتهُ صادمةً ل"حَنّا" التي لم تَمْلِكْ إِلَّا أن تَحْقِن نفسَها حُقْنةً شبه قاتلة [...]. وما لَبِث أنْ حَلّ الشّتاء بنيويورك فمَرِضَ "طاهر" مرضًا شديدًا أَدْخَله إلى المُستشفى، وبعد أنِ ٱطْمأَنّتْ عليه "حَنّا" وَجَدا نفْسَيْهما مُلْقَيَيْن في الشّارع مرّةً أُخرى، لكونهما بدُون أوراق ولا ضمانات تُمكِّنُهما من إيجادِ مَأْوًى قارّ ومن شراء الأدوية اللّازمة لعلاجه [...]. ولقد كافحتْ "حَنّا" لإنْقاذ حياة "طاهر" حتّى إنّها لمْ تَتردّدْ عن تعاطي نوعٍ من الدّعارة مع حارس لَيْليٍّ بمَبْنًى عامّ صار لهما مَأْوًى إلى أن حَدَث ما أدّى إلى مَقْتَل الحارس في عِراكٍ مع "طاهر" الذي ما لَبِث أنْ مات تاركًا إيّاها بين خيار أن تستمرّ مُتشرِّدةً في الشّارع أو أن تَرْجع إلى بَيْتها لرعاية ٱبْنها إلى جانب أَبيها الذي تَكفّل به بعد غيابها والذي أَبَى أن يُساعدها حينما كانتْ في أمسّ الحاجة إليه (إنّه مُلخّصٌ سريعٌ لقصّةِ فِلْم "مَأْوًى"، وهُو مُلَخّصٌ يُرْجَى أَلَّا يَكُون مُخِلًّا بحُبْكةِ القصّة وأَلَّا يُفْسدَ مُتْعةَ من يُريد مُشاهدةَ الفِلْم الذي يَعْرِض مُشْكلةَ «الوَضْع البَشريّ»). ولَكَ أن تَتأمّلَ كيف أنّ «الإجْرام الاسترهابيّ» - الذي كان السّببَ في ٱنتهاء "طاهر" و"حنّا" إلى أن يَعيشَا مُتشرِّدَيْن والذي يُريد المُستفيدُون من نظام "الهَيْمنة" العالَميّ أن يَجعلُوه قَضيّةً مِحْوريّةً في السِّياسة الدّاخليّة والخارجيّة على سواء- هو نفسه السّبب في ما أَدّى إلى اللِّقاء بينهما على النّحو الذي دَخَلَا به في تَجْرِبةٍ وُجوديّةٍ أَثْمرَتْ أنّ كُلًّا منهما تَمكَّن من أن يَستعيدَ «مَأْواهُ الحقيقيّ» كإنسان قادر على "التّعايُش" و"التّعاوُن" مع الآخر. لكنَّ «بُؤسَ العالَم» المُحيط أَبى إِلَّا أن يُعيدَهُما إلى جحيمِ ٱفْتقاد "المَأْوَى" بما يُؤكِّد أنّ مَكْمَنَ مَصائب البَشريّة جمعاء قائمٌ في مجموع الشُّرُوط المُحدِّدة ل«نظام العالَم الحديث» بما هو نظامٌ كان، ولا يزال، يَشتغل كإعاة إنْتاج لأوضاع البُؤْس بالنِّسبة لأكثر الناس، وهي الأوضاع نفسها التي يَستغلُّها المُتغلِّبُون أَيّما ٱستغلال. وحبّذا لو ٱستُعمل هذا الفِلْمُ، وأمثالُه، ضمن برامجَ لتَوْعيةِ كُلّ الّذين يُحِبُّون أن يَتعاملُوا بصَلَفٍ وعُنْجُهيّةٍ مع واقع «الإجْرام الاسترهابيّ» ظانِّين أنّه يُمثِّل مُمارَسةً تَخُصّ وُحُوشًا لا دواء لها سوى التّقْتيل والتّنْكيل من دُون رَأْفةٍ وخارج القانون. والحالُ أنّ ذلك التّعامُل ناتجٌ من تجاهُل واقع «بُؤس العالَم» المُحيط بفئاتٍ كُبرى من كُلّ المُستويات الاجتماعيّة، فئات تُعاني مُختلف أنواع الهَشاشة بما يَجعلُها عُرْضةً لشتّى الاستعمالات. و«بُؤس العالَم» هذا هو الذي وصفه الاجتماعيّاتيّ الفرنسي "پيير بُورديو" منذ سنوات بصُحْبةِ ثُلّةٍ من الباحثين المُشتغِلين بالاجتماعيّات والإنْسيّات في مُجلَّدٍ بالعُنوان نفسه أَتى كشفًا لعُمق المُعاناة التي يُكابدُها كثيرون في المجتمع الفرنسيّ (وفي غيره من المُجتمعات) من دُون أن يَلْتفت إليهم أحدٌ (la misère du monde, 1993). وإنه لمن المُؤْسف أنّ «بُؤس العالَم» يَشْتدُّ في ظلّ عَوْلَمةٍ مُتوحِّشة قائمة على استتباع السِّياسة للاقتصاد الذي ما فَتِئ يزداد طابعُه اللَّاماديّ والاستهلاكيّ بالشّكْل الذي يُسخِّر الجماهير عبر مُجتمعات العالَم ضمن أنواع من «العُبوديّة المُستجدّة» بما يَكْفي لوَضْع حَيَوات النّاس بين أَيدي فئاتٍ من المُفْسدِين بلا ذمّة ولا مِلّة يَتكالبُون على خَيْرات العالَم ويَتوسَّلُون بالاقتصاد الحَرْبيّ. ومن هُنا تأتي تلك «الإهانة العُظْمى» التي وَصَفها المُستقبليّاتيُّ المغربيّ "المهدي المنجرة" («الإهانة: في عصر الإمبرياليّة العُظمى»، 2003)، وهو الذي طالَما نبّه على تحوُّلات "العوْلمة" في إطار «الاستيطان الجديد» الذي يَدْفَع المُستفيدين من نظام "الهَيْمنة" العالَميّ إلى خوض «حُرُوب حضاريّة»، بالخصوص ضدّ كل المُقاوِمين. وفقط في هذا السِّياق، يُفْهَم كيف أنّ «الإجْرام الاسترهابيّ» إنّما يُمثِّل سلاحَ الأقوياء كمّا أكّد "نَعُوم تشومسكي" الذي تَناوَل تاريخَه بالخُصوص في «عن الاسترهاب الغربيّ: من هِيرُوشيما إلى حَرْب الدَّارِهة» (Western Terrorism, From Hiroshima to Drone Warfare, 2013)، وهو ما يُؤكِّدُه أيضا المُفكّر الفرنسيّ "رُوجي غارُودي" في كتابه «الاسترهاب الغربيّ» (le terrorisme occidental, 2014). وهكذا، فبخلاف الصُّورة النَّمطيّة والتّبْسيطية السّائدة التي تُفسِّر «الإجْرام الاسترهابيّ» بصفته عُنْفًا مُقدَّسًا يُعبِّر عن جوهر «الدِّين/الإسلام»، يَنبغي أن يُؤكَّد أنّ «التوحُّش الدّاعشيّ» ليس بلَعْنةٍ نَزَلتْ من السّماء كما يَزْعُم الذين يُريدون أن يَتنصّلُوا من مسؤوليّتهم عن إيجاد التُّرْبة الخِصْبة لنُمُوّ تلك المخلوقات الشَّيْطانيّة، ولا هو بخُرَاجٍ تَفتّقتْ عنه بُطُونُ كُتب «الفقه الإسلاميّ» كما يُوهِمُ الذين ٱستبدلوا بتّطرُّفهم السّابق تطرُّفًا جديدًا يَجعلُهم يَتنافسون في الظُّهُور بمظهر «أهل الاعتدال» الحامِلين للمشروع الإصلاحيّ الذي يبدو أنه صُمِّمَ ليُحقِّق منفعتهم بالتّحديد؛ وإنّما الأمر يَتعلّقُ بنتاج بَشريّ صُنِع تحت أعين أجهزة «الدُّوَل المارِقة» في بُلْدانٍ نُقِلَتْ عَنْوَةً من ٱستقرار تحت الاستبداد إلى «دُول فاشلة» حيث يَزدادُ هَضْمُ «حُقوق الإنسان» وإهانةُ «الكرامة الآدميّة» على كل المُستويات. وإنّ العرب والمُسلِمين تَلقَّوْا من الإهانة والإذْلال ما يُفسِّر كونَهم صارُوا يَتصدّرُون الإنتاج العالَميّ على مُستوى «الإجْرام الاسترهابيّ». وعليه، فإنّ السُّؤال الوَحيد الهامّ: «مَنِ المُستفيد من "الإجْرام الاسترهابيّ"؟» لا يَقْبَلُ سوى إجابةٍ لافتةٍ لكُلّ ذِي لُبٍّ: قطعًا، ليس المُسلمون لأنّهم هُم الذين يَقَعُون كأُولى ضحاياه بين قتيل وجريح ومُضْطهَد إلى الحدّ الذي صارُوا يُمثِّلُون «المَنْبُوذين الجُدد» في العالَم المُعاصر من شدّة ما رُبطتْ بهم وبِدينهم حوادث «الإجْرام الاسترهابيّ». وفقطْ من كان ديدنُه أن يَبْتغيَها عِوَجًا سيَنْظُر إلى هذا التّوْصيف كمُحاوَلةٍ لتَبْرير ما لا يُمكن أن يُوصف، في الواقع، إِلَّا ك«إجْرام ٱسترهابيّ» ويُحدَّد بأنّه يَدْخُل في إطار «ما يَمْتنعُ تَبْريرُه» أو، بالأحرى، «ما يَمْتنعُ تَحمُّله» من النّاحيَتَيْن الأخلاقيّة والسِّياسيّة بما هو شَرٌّ يُعلَّل فقط بَشريًّا وظرفيًّا. ولذلك، فإنّ مَنْ يَنْتفضُ لاستنكار فَظاعات «الإجْرام الاسترهابيّ» لا يُمْكنُه - إنْ كان صادقًا ومُنْصفًا- أن يُمْعِنَ في الحُزن والأَسى على ضحاياه الخاصِّين وأن يَلْتزم الصّمتَ، بدعوى الحياد أو اللَّامُبالاة، تُجاه ضحايا كثيرين يَسْقُطون منذ سنوات في بُلدان أُشْعلتْ فيها الفِتنُ التي لا تُبْقي ولا تَذَر (عشرات الآلاف من المُستضعفِين) و، أيضا، تُجاه الإهانة المُنظَّمة التي تَنْصبُّ على "العرب" و"المُسلِمين" الذين ظلُّوا يُعانُون، بعد تحرُّرهم الشّكْليّ من السّيْطرة الاستيطانيّة، في ظلّ حُكْم أنظمة "الاستبداد" و"الفساد" المدعومة من حُكُومات الدُّول الغربيّة التي لم تَتردّدْ، أخيرًا، عن دعم سَيْرُورة "الفوضى الهَلّاكة" بعد إفشال مُحاوَلات "الانتقال الدِّمُقراطيّ" في كُلّ البُلْدان التي ٱنْتفضتْ شُعُوبها ضمن حَرَاك "الرّبيع العربيّ"! ومَنْ كان، حقًّا، يَحْرِص على مُحارَبة «الإجْرام الاسترهابيّ»، لنْ يَفعل ما يُعْطي ذرائعَ إضافيّةً لمُقْترِفيه بما في ذلك مُمارَسته أو ٱستغلاله، بل سيَعمل على تفكيك بِنْيات نظام "الهَيْمنة" العالَميّ المُنْتِج لشتّى المَظالم والمَصائب المُحدِّدة للبُؤْس والخَيْبة لدى مُعظم الناس حتّى في المُجتمعات المُتقدِّمة. ومن يُقدِّس كرامةَ الإنسان ويَستعْظمُ قتلَ النّفس بغير حقٍّ، لَنْ يُرْضيه أبدًا أن يُقيمَ مَوازينَ ضِيزَى تُفاضلُ بين ضحايا أُوَّل يُحتفلُ بموتهم ويُرْثَى لهم، وبين ضحايا ثَوانٍ لا يُعْنى بهَلاكهم إلّا ك«خسائر جانبيّة» لا مَفرّ منها. فالشرُّ يُسْتنكَر كلُّه بنفس القُوّة سواء أكان من أطرافٍ تَتعاطى «الإجْرام الاسترهابيّ» باسم الدِّين أَمْ من أطراف تُواصل السِّياسة بالاستثمار في الحرب القَذِرة ولا تَتورّع عن التّوسُّل ب«الإجْرام الاسترهابيّ» في إطار شرعيّةِ الدّوْلة أو الشّرْعيّة الأُمَميّة. فيا أَيُّها المُسْرِعون إلى الحَسْم في كَيْل الاتِّهامات وعدم التّورُّع عن الكَيْل بمِكْيالَيْن إرضاءً للأَهواء أو حِفْظًا للمَصالح: من كان مِنْكم بَريئًا حقًّا، فَلْيُلْقِ بأَوّلِ حَجَرٍ أو لِيَستمرّ في رَجْم هذه الجُثّة المُلْقاة على أَديم الأرض بلا مَأْوَى المُسمّاة تعميمًا ب"الإسلام" والدّالَّة تَعْيينًا على إنسان قَدرُه الآن أن يَكْدَح ليَجدَ مَأْوًى في خِضَمّ «بُؤْس ٱلعالَم» إلى أن يَلْقَى مَوْلاه قاتلًا بغير حقٍّ أو مَقتُولًا بلا ذَنْبٍ! وأمّا من كان يعرف مُحدِّدات «الإجْرام الاسترهابيّ» في الواقع "العَوْمَحلِّيّ"، فَلَنْ يَرى حلًّا من دُون التّأْسيس الموضوعيّ لشُرُوط "القِسْط" و"الإنْصاف" التي هي صِمَامُ "الأمن" و"السلام" المَنْشُودَيْن من قِبَل أكثر النّاس.