يمكن الجزم بأن توظيف المصطلحات في المجال السياسي لا يتم خبط عشواء، ولا يتم عن طريق التوظيف العفوي، بل تحكمه ضوابط التوجيه المقصود وإسقاط معانيها ودلالاتها بما يتوافق مع الغايات السياسية منها، فبدل تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية يتم اللجوء أحيانا من قبل الفاعلين السياسيين إلى اعتماد بعض المعاني، أو الأمثال والإيحاءات، كإسقاطات عمودية وأفقية على التوالي، للدلالة على الحالة أو الحالات التي يود الفاعل السياسي التنبيه لها، أو الإشارة إليها بنوع من التلميح دون قصدها مباشرة. وقد تميز الخطاب السياسي بالمغرب في بداية العقد الثاني من هذه الألفية، خصوصا بعد حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد بمجلس النواب في الانتخابات البرلمانية لسنة 2011، ومنحه بذلك رئاسة الحكومة بقيادة السيد عبد الإله ابن كيران، بتبني خطاب جديد يحمل في عمقه اعتماد مصطلحات وأمثال مستمدة من أسماء الحيوانات، وإسقاطها على المشهد السياسي، أو نعت الخصوم السياسيين، أو توصيف بعض الظواهر السياسية أو الاقتصادية التي يشوبها نوع من الاختلال أو الفساد، بما يتناسب ويتلاءم مع طبيعة الحيوانات المعنية منها. ومن بين أهم الأسماء التي ركز عليها السيد ابن كيران، رئيس الحكومة المغربية، خلال الولاية الحكومية التي يمتد زمنها السياسي من يناير 2012 إلى حدود منتصف سنة 2016: (التماسيح/ العفاريت/النسور/الذئاب...). فما هي دلالات ومعاني هذه الأسماء؟، وإلى أي حد تتلاءم مع القضايا التي يحاول السيد رئيس الحكومة إسقاطها عليها؟. أولا التماسيح: يدل من الرجال على المارد الخبيث، ويشمل هذا النعت الموصوف رجال الاقتصاد الذين يسيطرون على الاقتصاد المغربي، وتبسط شركاتهم قبضتها على كافة مناحي الحياة الصناعية والتجارية بالمغرب، باعتبارهم فاعلين اقتصاديين بامتياز، تمكنهم مكانتهم والاقتصادية واستثماراتهم الضخمة من التدخل في رسم الخريطة السياسية أو التأثير أحيانا على بلورة بعد الاختيارات الحكومية ذات العلاقة بهذا المجال، أو استغلال مكانتهم الاقتصادية والضغط لأجل إلغاء بعض التوجهات الاقتصادية التي تعمل الحكومة على تبنيها، لكونها لا تتطابق مع مصالحهم، وأن تفعيلها سيضر بمصالح شركاتهم ومقاولاتهم، أو باستثمارات شركائهم الداخليين أو الخارجيين. تحيل التماسيح في عقيدتها الفكرية إلى السيطرة والهيمنة، والعمل على مواجهة أي خطر قد يهدد كيانها، سواء من قبل الأفراد أو المؤسسات في المجالات التي تحكم علاقاتها بالمناحي الاقتصادية والصناعية والتجارية، من خلال السعي إلى توظيف كافة الأساليب المشروعة منها وغير المشروعية، مع التركيز على الأسلوب الأخير حفاظا على مصالحها، ولو كانت على حساب توجهات الدولة ومصالحها العامة. لأجل ذلك يعمد ابن كيران إلى توظيف هذا النعت (التماسيح) حينما يود مناقشة قضايا ذات الارتباط بمجال الاقتصاد والتجارة، بالنظر إلى الدور الهام الذي يلعبه الفاعلون الاقتصاديون في التصدي لبعض التوجهات الحكومية ومحاولة تحوريها عن سياقاتها، محاولا بذلك الضغط على المعنيين المباشرين به، وصدهم عن الوقوف في وجه توجهات حكومته دون الإشارة إليهم، سواء كأشخاص معنويين أو ذاتيين مالكين لهذه الشركات والمقاولات الكبرى، عملا بالقول المأثور "اللبيب بالإشارة يفهم". ثانيا: العفاريت: يحيل مصطلح العفاريت على النافذ في الأمر على دهاء، ويقصد السيد ابن كيران من وراء توظيفه هذا المصطلح الأشخاص النافذين في صناعة قرار الدولة في كافة المجالات، خصوصا منها المجالات الأمنية والسياسية، باعتبارهم المحصنين لأمنها القومي والمعنيين المباشرين بالمحافظة عليه. وهو ما يحيل للإشارة على أولائك الفاعلين الخفيين وغير المرئيين المتحكمين في زمام الأمور، والمسؤولين الحقيقيين عن بلورة اختيارات وتوجهات الدولة وتدبير شؤونها، من خلال ضبطهم ميكانيزمات صناعة القرار، بما يتوفرون عليه من مؤهلات وقدرات فكرية خارقة، وإمكانيات متاحة لتنزيل كافة توجهاتهم، باعتبارهم الخدام الحقيقيين للدولة والساهرين على أمنها العام، الذين لا تحكمهم ألوان سياسية ولا إيديولوجيات حزبية ولا توجهات عقائدية، بقدر وفائهم للدولة وخدمتها ولا شيء آخر غير ذلك. يعمل السيد ابن كيران على الإشارة إلى المعنيين بالأمر عبر لقاءات إعلامية وتجمعات حزبية، وفي مناسبات رسمية، بمداخلات في مؤسسات وهيآت دستورية، لأجل الضغط عليهم وثنييهم عن التراجع عن المضايقات التي يزعم أنها تطال تدبيره الحكومي مباشرة بعد توليه مسؤولية الإشراف على رئاسة الحكومة؛ وتشوش على العمل الحكومي قصد إضعاف أدائه والتقليل من منجزاته وحصر مردوديته. وإن كانت هذه المضايقات، إن صح وجودها، قد تحيلنا إلى مسألة أساسية مفادها أن تدخلات من يصفهم "السيد عبد الإله ابن كيران" ب"العفاريت" لم تكن سوى إشارات لتنبيهه بأن ما يقترحه أو يقوم به من إجراءات وتدابير لا يسير في الاتجاه الصحيح، حتى يلتقط الإشارات (فلاش) ويعمل بموجبها على تغيير منهجية التدبير التي رسمها بشكل منفرد، دون تبني مقاربة التشاركية والإشراك، غير أن النباهة السياسية "للسيد عبد الإله ابن كيران"، ووعيه الفتاق، وحدسه النافذ لم يلتقط سوى إشارة واحدة مفادها أن من يصفهم السيد عبد الإله ابن كيران بالعفاريت والتماسيح يتدخلون في تدبير الشأن الحكومي، ويعملون على محاولة توجيهه أو إفشال التجربة الحكومية. ثالثا: النسور: توحي في مضمونها العميق إلى الأب الوصي على أبنائه، وهو تشبيه يصف به السيد ابن كيران نفسه، باعتباره ذلك النسر الذي يسهر على توفير احتياجات العيش لأفراخه (المواطنين)، والساهر والضامن في ذات البين لمستقبل عيشهم، وأن رحيله عن رئاسة الحكومة هو بمثابة نهاية لحياة الأفراخ التي لن تجد من يوفر لها لقمة العيش. فهل يتطابق هذا التوصيف الذي يطبقه ابن كيران على نفسه مع الواقع؟ أهي رسالة مشفرة بشكل صريح للمعنيين بالأمر (المواطنين) بأنه نموذج واقعي للإنسان المثالي والعادل الطامح للإصلاح الحقيقي؟، أم هو تهديد من السيد رئيس الحكومة بأن عزله أو نهاية ولايته من على رئاسة الحكومة هو بمثابة إيذان بقدوم أشخاص لا هم لهم في الإصلاح؟. يمثل هذا التوصيف في إحدى دلالته إلى بنية الصراع السياسي بمستوييه الخفي والبيّن الدائر في بين أقطاب رحى العمل السياسي بالمغرب (اليسار/ اليمين/ الليبراليين)، وطبيعة الأساليب والآليات الموظفة من الفاعلين السياسيين لأجل تغليب كفة تيار على آخر، أو نسف إيديولوجية فكرية مقابل إحياء أخرى، ولو على حساب معتقدات ضيقة تخدم التكتل السياسي بدل خدمة المصالح العامة للمواطنين. توضح هذه المنهجية المتبناة مستوى تأثير خطاب "النسر" على كسب رضا المواطنين وتفاعلهم معه، وإن كان يحمل بين ثناياه أماني قد لا تترجم على أرض الواقع، بفعل المنهجية المتبناة من السلطة التنفيذية التي ترتكز على القطع مع امتيازات السياسة الاجتماعية، بل إنها ستزحف على حقوق الفئات الهشة مقابل تحصين الفاعلين الاقتصاديين (التماسيح) لمصالحهم، عبر أساليب الضغط التي في حوزتهم. الذئاب: توحي من الرجال إلى المبتدع للغش والممتهن له، وبمعنى آخر فهو يدل على ذلك الشخص الذي ظاهره مسالم وباطنه مؤذ، يعمل على اصطناع تصرفات لا تعبر عن حقيقة فكره ولا عن الإيديولوجية الحقيقة التي تحكمه؛ أي إنه يخفي أكثر مما يبدي من قناعات، فهو لا يعكس بتصرفاته حقيقة مبادئه ولا يلتزم بتنفيذ التزاماته ولا يوفي بوعوده. وقد عمد السيد ابن كيران إلى استخدام هذا التوصيف مباشرة بعد إعلان النتائج النهائية لاستحقاقات الانتخابية الجماعية والجهوية ل 04 شتنبر 2015، إذ وجه اتهامات لخصومه السياسيين على مستوى آليات تدبير العملية السياسية، وبناء التحالفات بين الأحزاب السياسية لتشكيل المجالس الترابية بمستوياتها الجماعية والإقليمية والجهوية، بقوله: "إن حزب العدالة والتنمية لا يحسن خصال الذئاب". وهو ما يعني أن حزب العدالة والتنمية يحسن خصال الكلاب المتميزة بالوفاء والإخلاص لحلفائه السياسيين (على حد المعنى المستخلص من كلامه)، مقابل نعت خصومه بالاتصاف بصفات الخديعة والافتراس التي تنعت بها الذئاب، باعتبار مدلول الذئاب يوحي في عمقه إلى الغش، يبدي لصاحبه الوئام بينما يخفي له العداوة. إن ما اعتمده السيد ابن كيران من مصطلحات تعود لمعجم الحيوان لم يكن انتقاؤها عشوائيا ولا عفويا، وإنما كان يقصد بدقة المعنى المراد بها، وتوظيفها للدلالة على الحالة المراد الإشارة إليها من دون ذكرها بصفة مباشرة؛ ما يعني أن ابن كيران عمل على إقحام المشهد السياسي المغربي بمعجم حيواني كان غائبا إلى حدود تصدر حزبه للاستحقاقات التشريعية لسنة 2011 ومنحه رئاسة الحكومة، على عكس ما تعرفه بعض المشاهد السياسية الغربية، التي يعمد فيها بعض الفاعلين السياسيين إلى النهل من معجم الحيوان لتحليل بعض الظواهر والقضايا السياسية السائدة. إن معجم الحيوان يمثل في عمقه توصيفات تحيل على ظواهر سياسية، منها تلك المرتبطة بسمات الخصوم السياسيين الحزبيين (الذئاب)، أو بتلك المتعلقة بالإشارة إلى تجذر الفاعلين الاقتصاديين وقدرتهم على التصدى لقرارات الحكومة المرتبطة بهذا المجال (التماسيح)، لينتقل إلى الإيحاء إلى الفاعلين الخفيين والنافذين في صناعة القرار (العفاريت)، ثم توقف عند بعض المميزات الحسنة التي يتميز بها حزب العدالة والتنمية "حسب ظنه" (النسر)، والتي تجعل منه حزبا سياسيا قادرا على الوفاء بتعهداته والتزاماته في الشق المرتبط بعلاقته بحلفائه الحزبيين. يجد الهدف الأساسي من توظيف ابن كيران لهذا المعجم ضمن المشهد السياسي المغربي في تمرير رسائل صريحة وأخرى ضمنية للمعنيين الأساسيين بالأمر، بأن زمن الاحتكارية وتقييد المبادرة الحكومية وتحوير توجهاتها أو التصدي لها قد ولى، غير أن البيّن في الأمر أن تلك التوصيفات، وإن كانت تمثل إشارات تمارس من قبل رئيس السلطة التنفيذية، فإنها توظف أيضا باعتباره رئيسا لحزب سياسي، مما يجعل التداخل في ممارسة الاختصاصات في غير محله، على اعتبار أن لكل صفة خطابها ومنهجها، فالمسؤولية الحكومية تقتضي في صاحبها التحلي بصفات رجل الدولة، بينما تفرض المسؤولية الحزبية من صاحبها التحلي بسمات رجل السياسية. هي إذا جدلية تأثرت بها الساحة السياسية المغربية وخيمت تداعياتها على النسق السياسي، مما يوحي بأن استمرار حزب العدالة والتنمية كحزب سياسي متزعما للحكومة خلال فترة الانتداب الحكومي المقبل 2021/2016، إنما هو رهين بمستوى الخطاب السياسي الذي سيوظفه خلال بداية السنة الجارية، ينضاف إليه طبيعة العلاقة التي ستربطه مع من كان يصفهم بالتماسيح والعفاريت، وإسقاطاتها على التجاذبات البينية داخل الحقل السياسي المغربي. *باحث بجامعة محمد الخامس في الرباط