تعود المتتبع لخطب الملك محمد السادس، التي يوجهها جلالته إلى شعبه في مناسبات عديدة كعيد العرش والمسيرة الخضراء أو عند افتتاح الدورات التشريعية، أن تكون حبلى بالرسائل والرهانات. فقد أثار خطابه الأخير أمام البرلمان في 9 أكتوبر 2015، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة – والأخيرة –، عددا من الملفات العالقة أو تلك التي تفرض – بمقتضى الدستور – حلولا قبل نهاية الولاية التشريعية الحالية (المصادقة على عدد من مشاريع القوانين التنظيمية) بالإضافة إلى انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. وهي كلها ملفات تأخرت عن الخروج إلى حيز التطبيق – منذ صدور الظهير الشريف رقم 1.11.91 بتاريخ 29 يوليوز 2011 المتعلق بتنفيذ نص الدستور- رغم حساسيتها وأهميتها البالغة. ولقد دعا الخطاب الملكي – المشار إليه أعلاه – جميع الفرقاء السياسيين الذين يمثلون أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة داخل مجلسي البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين) إلى نبذ الصراعات والمزايدات السياسية وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الخاصة الضيقة وتضافر الجهود لتفعيل مقتضيات القانون الأسمى في هذا الصدد. وهي الدعوة التي تعكس الرهان الحالي وأهمية الظرفية السياسية التي يمر منها المغرب. في هذا المقال، سنكتفي بتسليط الضوء على إحدى رهانات السنة التشريعية الخامسة وهو "رهان المحكمة الدستورية". أولا – إحداث وتأليف المحكمة الدستورية: إحداث المحكمة: لقد أحدت المشرع الدستوري المحكمة الدستورية بمقتضى الفصل 129 من الدستور. وبذلك فقد ثم تعويض المجلس الدستوري، الذي أحدثه دستور 9 أكتوبر 1992 (الفصل 72)، بالمحكمة السالفة الذكر. كما تمكنت الحكومة التي يرأسها عبد الإله بن كيران من نيل مصادقة البرلمان على القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية وصدور الظهير الشريف رقم 1.14.139 بتنفيذه (13 غشت 2014). وباعتماده المحكمة الدستورية يكون المشرع المغربي قد حدا حدو العديد من التجارب الأجنبية في هذا الشأن كما هو الحال مثلا في النمسا وبلجيكا وإيطاليا أو أيضا الأردن وتركيا، مبتعدا بذلك عن النموذج الفرنسي الذي لازال وفيا للمجلس الدستوري. ارتقاء المؤسسة الدستورية التي ثبت في دستورية – أو عدم دستورية – القوانين التي يصادق عليها البرلمان من مستوى "مجلس" إلى مستوى "محكمة" يعكس دلالتين اثنتين: أولهما، المشرع الدستوري يبرز رغبته في تعزيز "دولة القانون" (Etat de droit) داخل مؤسسات الدولة وذلك باعتماده المحكمة الدستورية التي تعتبر – رغم استقلالها – جزءا من منظومة العدالة. وثانيهما، المشرع الدستوري قد وسع من اختصاصات المؤسسة السالفة الذكر نتيجة هذا الارتقاء. تأليف المحكمة: تظم المحكمة الدستورية – طبقا لمقتضيات الفصل 130 من الدستور – اثني عشر عضوا، يعينون لمدة تسع سنوات – غير قابلة للتجديد – من بين الشخصيات المتوفرة على تكوين عال في مجال القانون، وعلى كفاءة قضائية أو فقهية أو إدارية. كما يشترط في أعضاء المحكمة الدستورية أن يكونوا قد مارسوا مهنتهم لمدة تفوق خمس عشرة سنة ومشهود لهم بالتجرد والنزاهة. يعين الملك نصف أعضاء المحكمة الدستورية بظهير – من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى –، فيما ينتخب البرلمان النصف الآخر بالاقتراع السري، من بين المترشحين الذين يقدمهم مكتب كل مجلس، وبأغلبية ثلثي النواب والمستشارين (ثلاثة أعضاء ينتخبهم مجلس النواب وثلاثة أعضاء ينتخبهم مجلس المستشارين). وإذا تعذر – لاحقا – تجديد انتخاب الأعضاء من طرف إحدى مجلسي البرلمان – أو كلاهما – فإنه يمكن للمحكمة الدستورية أن تمارس اختصاصاتها وفق نصاب لا يعتد فيه الأعضاء الذين لم يتم بعد انتخابهم. ويجدد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات (1/3 من كل فئة). وبعد استكمال تشكيلة المحكمة، بصفة كاملة (اثني عشر عضوا) أو بصفة جزئية (ستة أعضاء على الأقل استنادا إلى مقتضيات الفقرة الخامسة من المادة 17 من قانون 066.13 في حالة التجديد)، يعين الملك رئيس المحكمة الدستورية بظهير من بين الأعضاء الذين تتألف منهم، أي سواء من الأعضاء المعينين بظهير أو من الأعضاء المنتخبين من لدن البرلمان – في حين كان رئيس المجلس الدستوري يعينه الملك حصرا من بين الأعضاء المعينين بظهير. جدير بالملاحظة أن المشرع الدستوري افترض فقط عدم تجديد انتخاب البرلمان، أو أحد مجلسيه، أعضاء المحكمة الدستورية؛ في حين لم يفترض عدم تجديد تعيين الملك للنصف الآخر. ومرد ذلك هو أن المشرع الدستوري قد احتمل الافتراض الأول لما يعرفه البرلمان من مشاحنات وحساسيات ومزايدات قد تعوق انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية في حين لا تطرح هذه الإشكاليات عند تعيين الملك لأعضاء هذه الأخيرة. أما فيما يتعلق بأول تعيين لأعضاء المحكمة الدستورية – كما يستوجبه الظرف الراهن – فقد أوجب المشرع الدستوري تعيين وانتخاب جميع أعضاء المحكمة الدستورية (اثنا عشر عضوا). وفيما يخص التجديد، فإن هذه الأخيرة يمكنها أن تمارس اختصاصاتها وتصدر قراراتها ولو بحضور الأعضاء الستة المعينين من لدن الملك فقط – حالة ما إذا استعصى على أحد مجلسي البرلمان أو كلاهما تجديد انتخاب أعضاء المحكمة. ثانيا – اختصاصات المحكمة الدستورية: كما هو الشأن للمجلس الدستوري، تمارس المحكمة الدستورية – طبقا لأحكام الفصل 132 من الدستور – الاختصاصات المسندة إليها بفصول الدستور، وبأحكام القوانين التنظيمية، وتبت بالإضافة إلى ذلك في صحة انتخاب أعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء. وتحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقها. وتبت المحكمة في هذه الحالات داخل أجل شهر من تاريخ الإحالة. غير أن هذا الأجل يخفض في حالة الاستعجال إلى ثمانية أيام، بطلب من الحكومة. وتؤدي الإحالة إلى المحكمة الدستورية في هذه الحالات، إلى وقف سريان أجل إصدار الأمر بالتنفيذ. كما تبت المحكمة – السالفة الذكر – في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان. وقد حدد المشرع الدستوري أجل ذلك في سنة، ابتداء من تاريخ انقضاء أجل تقديم الطعون إليها، في حين كان هذا الأجل غير محدد داخل المجلس الدستوري. غير أن للمحكمة تجاوز هذا الأجل بموجب قرار معلل، إذا استوجب ذلك عدد الطعون المرفوعة إليها، أو استلزم ذلك الطعن المقدم إليها. وفي حالة ما إذا صرحت المحكمة الدستورية، إثر إحالة الملك، أو رئيس مجلس المستشارين، أو سدس أعضاء المجلس الأول، أو ربع أعضاء المجلس الثاني، الأمر إليها، أن التزاما دوليا يتضمن بندا يخالف الدستور، فإن المصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستور. بيد أن الاختصاص الجديد الملفت للنظر - والشديد الأهمية – هو ما جاءت به مقتضيات الفصل 133 من الدستور الذي ينص على أنه تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور. وهو الاختصاص الذي لم يكن يتوفر عليه المجلس الدستوري في التجريبيتين الدستوريتين السابقتين. ويبدو جليا، من خلال ما سبق، بأن المحكمة الدستورية تمارس رقابة قبلية وبعدية في نفاذ القانون، أي رقابة قبل صدور ظهير تنفيذ القانون (Contrôle à priori) ورقابة بعد صدور ظهير تنفيذ القانون (Contrôle à postériori) في حالة ما إذا أثيرت عدم دستورية النص القانوني في إحدى القضايا التي ثبت فيها المحاكم العادية نتيجة مساسه بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور. وهو ما يرفع من درجة الرقابة الدستورية على القوانين ويخلق عدالة حقيقية في تطبيقها. ثالثا– أصحاب الحق في الدفع بعدم دستورية القانون: أصحاب الحق في الدفع بعدم دستورية القانون نوعان: النوع الأول، هم أصحاب الحق العام الذي يأتي قبل صدور ظهير تنفيذ القانون. والنوع الثاني هم أصحاب الحق الخاص الذي يتمخض بعد صدور تنفيذ القانون. أصحاب الحق العام: استنادا إلى مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 132 من الدستور يمكن للملك، وكذا لكل من رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب – بدل الربع في دستور 1996 (ف.81) –، أو أربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين –بدل جميع الأعضاء في الدستور السابق –، أن يحيلوا القوانين، قبل إصدار الأمر بتنفيذها، إلى المحكمة الدستورية، لتبت في مطابقتها للدستور. واستنادا إلى الفصل 134 من الدستور فإنه لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 132 من الدستور – المشار إليه أعلاه –، ولا تطبيقه. أصحاب الحق الخاص: لقد أصبح، من الآن فصاعدا، لكل متقاضي أمام المحاكم العادية الحق في الدفع بعدم دستورية النص القانوني الذي سيعتمده القاضي في حكمه أمام المحكمة الدستورية إذا كان هذا النص يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور – كما أشرنا إلى ذلك سابقا. بيد أن هذا الحق الدستوري الجديد يطرح بعض الاشكاليات والتحديات على المستوى العملي أو فيما يخص التطبيق؛ خاصة أن الكثير من القوانين الجاري بها العمل قد صدرت دون رقابة دستورية أو أنها تستلزم تحيينا مع المقتضيات الجديدة لدستور المملكة. ما يؤكد الفرضية الأخيرة هو أن المادة 28 من القانون التنظيمي رقم 066.13 – السالف الذكر – المتعلق بالمحكمة الدستورية قد أرجأت التطرق إلى شروط وإجراءات ممارسة المحكمة الدستورية لاختصاصاتها في مجال النظر في كل دفع بعدم دستورية القانون – أو إحدى مقتضياته –، واكتفت بالتنصيص على أن هذا الأمر سيحدده قانون تنظيمي لاحق. فالحكم بأن النص القانوني غير دستوري يستلزم إصدار تشريع آخر مطابق للدستور. وإذا سلمنا بأن هذا الأمر بديهي، من جانب، ويساعد المشرع في تحيين القوانين، من جانب آخر، فإن الأمر يغدو صعبا عندما يحال على القضاء الدستوري مجموعة كبيرة من الدفوع التي يقضي فيها بعدم دستورية القانون، حيث أن حكم القضاء الدستوري يوجب نسخ المقتضى المخالف للدستور، وهو حكم غير قابل للطعن وملزم لجميع السلطات العامة وجميع الجهات الادارية والقضائية (ف.134)، الشيء الذي قد يخلق فراغا قانونيا وجب على المشرع تداركه باستصدار قانون آخر مطابق للدستور في شكل مقترح قانون (البرلمان) أو مشروع قانون (الحكومة). والسؤال المطروح هنا هو مدى قدرة المشرع المغربي في تشريع قوانين مطابقة للدستور في حالة ما إذا حكمت المحكمة الدستورية بصحة الدفوع، خاصة أن وثيرة التحيين ومساطر التشريع بطيئة ؟ *باحث ودكتور في العلوم السياسية