لو أُتيحَ لي إعطاءُ هذا المقالِ عنوانا ثانيا لكانَ: "في راهنيّة الحرب الباردة". فصحيح أن الحربَ الباردةَ تنتمي زمنيّا إلى حقبة معينة من القرن الذي مضى، وصحيح أن تلك الحقبة مضت وذاك القرن مضى، لكن في الحقيقة تأثيراتها وتبعاتها لم تمضِ بعد، ولمّا تزال تؤثر في العلاقات الدولية بشكل أو بآخر. يستفيد الدارسون للقانون العام – لاسيما تخصص العلاقات الدولية والقانون الدولي، و العلوم السياسية- من معرفة علمية لخبايا العلاقات الدولية المعاصرة، بل قد لا يكون من المجازفة القول بأن بإمكانهم رؤية خيوط وتمفصلات ليس متاحا للجميع رؤيتها وتحليل معطياتها، وهذه الملاحظة تنطبق دون شك على كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض مراكش، ولعل الفضل في كتابة هذا المقال يرجع أساسا لأستاذ العلاقات الدولية والقانون العام بنفس الكلية: "د. ادريس لكريني". لقد شهدت الساحة الدولية اليوم، وإلى غاية كتابة هذه السطور (أكتوبر 2015) عددا كبيرا من الأزمات الدولية، تمتد جذورها إلى سنوات الحرب الباردة، فكيف ذلك ؟ غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، خرج من رحم تحالف الرابحين قطبان كما هو معروف، قطب شرقي بزعامة الإتحاد السوفياتي، وقطب غربي بزعامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، رغم أن المصطلح الذي يبدو أقرب إلى الأحداث هو "معسكر" وليس قطب، لأن هناك قواسم مشتركة مع الميدان العسكري لعل من بينها: أولا نظام التراتبية (USA Vs URSS)، ثانيا حالة الاستعداد الدائم (الذي يتحول أحيانا إلى حالة تأهب عادية أو قصوى أو استنفار..)، ثالثا: امتلاك قواعد عسكرية استراتيجية و تطوير الأسلحة. نحن إذن أمام معسكرين، ليسا في حالة حرب لكن في نفس الوقت ليسا في حالة سلم، ولذلك كانت تسميةُ هذه الحالة بالحرب الباردة تسميةً ذكيةً، فهي فعلا حربٌ تختلف عن الحرب المعروفة فقط في الشكل وتمتاز ببعض المظاهر نذكر على سبيل المثال لا الحصر: أولا: الحروب بالوكالة وهي حرب فعلية بين زعيمي المعسكرين لكن ليس بشكل مباشر بينهما وليس في أرضهما، إنما في دولة تدور في فلك أحدهما، وقد استمر هذا النوع من الحروب منذ حرب كوريا والفيتنام.. إلى حرب العراق وأفغانستان بل و سوريا اليوم التي يبدو أنها أصبحت أرض معركة بين تحالف الشرق الذي يضم روسيا وإيران والصين، وتحالف الغرب الذي يضم الولاياتالمتحدة وأوربا الغربية (OTAN)والخليج، ويحاول كل معسكر أن يحسم المعركة لصالحه ويضم سوريا إليه، خصوصا لكونها دولة إستراتيجية. ثانيا: التجسس والعمل على تطوير تقنياته، وقد نشط نظام التجسس بشكل كبير إبان بداية الحرب الباردة وتطور إلى أن خصصت له كل من روسيا وأمريكا قطاع ومؤسسة خاصة تروم تنظيمه والاشتغال فيه بشكل أكثر احترافية، ومن ظن أنه انتهى مع النظام العالمي الجديد فإنه واهم، والدليل على ذلك هو الفضائح التي تم اكتشافها مؤخرا حول تجسس الولاياتالمتحدة على دول أوربية على رأسها ألمانيا والشخص الذي سرب الخبر احتضنته روسيا ليعيش كلاجئ في أراضيها، كيف لا وقد فضح أحد أكثر الأجهزة حساسية لعدوها التاريخي. ثالثا: نقل الصراع إلى مجلس الأمن، وهنا نجد شكلا آخر من أشكال الحروب إن صح التعبير، وتتمة لما تم تحصيله على الأرض، بيد أن ما يميز هذا النمط بالذات ليس هو القوة بل القانون، وهنا تحضر قولة "ميكيافيلي" -الأمير- المشهورة: "عليك أيها الأمير أن تكون أسدا كي تواجه الأسود وثعلبا كي تنجو من الفخاخ وتواجه الثعالب" أي أن تجمع من جهة القوة (الأسد) والتي تتمثل في الجيش وترسانة الأسلحة المتطورة و فن الحرب.. ومن جهة ثانية المكر (الثعلب) الذي يتمم ما فعلته القوة في أرض المعركة بم في ذلك من دبلوماسية وخدع وتحايل وسلاح الإعلام وإخراج ملفات معينة..، وربما يدخل في هذا المعنى حق الفيتو الذي يعطي امتيازا غير عادل للدول القوية كي تزداد قوة، وهو ما يسيء إلى نزاهة مجلس الأمن وحياديته بل و يضرب مبدأ المساواة في السيادة la souveraineté ، لكن في الحقيقة لا يستوي الضعفاء والأقوياء. وخلاصة القول إذن، هي أننا لو تأملنا العلاقات الدولية اليوم، لوجدنا أن الحرب الباردة أثرت فيها بشكل جلي وأن المظاهر الثلاثة التي ذكرناها آنفا هي دون شك وليدة القرن الماضي لكنها لا تزال سارية المفعول إلى هذه اللحظة.