حين سمعتُ بالكتب الصفراء أوّل مرة، ظننتُ أنها كذلك فعلا، من الغلاف إلى الغلاف. ولم أعرف إلا بعد سنوات أن صُفرتها المجازية تلك، إنّما هي نوع من اليَرَقان الفكري. وحتى بعد أن تعدّدت ألوان الكتب من أبيض وأسود ورمادي ووردي لا تزال للكتب الصفراء منازل في القلوب التي بها مرض. لا هذه تشافت ولا تلك تعافت، فالجهل علّة واحدة. أمّا حين عرفتُ بالجرائد الصفراء، وقد كنتُ أكبر سِنًّا، فقد ربطتُ ذلك بالحزب الذي يصدرها. ذلك أن الأحزاب كان لها طعم ولون ورائحة، قبل أن يصفرَّ معظمُها وتصير له تلك الرائحة. هذه الجرائد وتلك الكتب ليست سوى ضحك أصفر على العقول والذقون واللحى، فهي التي تُرْدي القارئ مثقفا عُدْوِيًّا، نسبة إلى العدوى طبعا. ومع انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والإلكترونية، وجدت الصفرة أمامها حقولا شاسعة تغري بالانطلاء عليها، فظهرت المواقع الصفراء التي تتخرّج منها الأحزمة الناسفة والأشلاء، مثلما ظهرت القنوات الصفراء التي يحتل بعضها "علماء الدين" فيما تحتل بعضها الآخر "عالمات الدنيا". الكتب والجرائد الصفراء تتوسّل القرّاء بأعداد كبيرة وعقول صغيرة. والمواقع الصفراء تتسوّل النقرات حتى لو كانت بأصابع بالكاد تبصم. أما القنوات الصفراء، فلأجل نسبة المشاهدة، رصّعت سماء هذه الربوع بأقمار اصطناعية صفراء، فإذا هي تبثّ ما يغري الأكثرية المسحوقة من فكر أصفر، وكلام أصفر، ولحم أصفر... وكأنّ هذه البلادْ لم تنجب غير هؤلاء العبادْ، وكأنّ هذا الشحوبْ قَدَرُ هذه الشعوبْ. هكذا عمَّت قنوات "الويل والثبورْ" و"عظائم الخصورْ". الأولى للآخرة والثانية للأولى. تلك لوعيد الرّوح وهذه لوعود الجسد. تعتريك هذه إن تلبّسَتْك تلك. وكأنْ لا برزخ في بلاد العربْ بين جحيم اللحى والخطبْ ونعيم اللحم والطربْ. بعيدًا عن أشقّائنا في البثّ، تبدو قنواتنا الوطنية أقل صفرة، فلا تحتاج مشاهدتها إلى قناع يحفظ ماء الوجه من رذاذ "العلماء" ولا إلى عازل طبي يدرأ ماء الظهر من شبق "العالمات". فقنواتنا عبَّدت إلى المشاهدين طرقا أخرى، وفرشتها بأسمالهم وأمراضهم وضعفهم وبؤسهم وجهلهم ونذالتهم، فإذا هي فسيفساء تجحظ لها العيون. وليس من قبيل المصادفة أن تكون برامج الجريمة والمحاكمة، وإصلاح ذات البين، ونشر الغسيل على حبل الغارب، على سبيل الحسرة لا الحصر، هي ما يحظى بأعلى نسب المشاهدة. هكذا بات البؤس والإحباط والقنوط والذل واليأس يتفرّجون على بعضهم البعض فيهون خَطْبُ هذا أمام هَوْلِ ذاك: ففي الدّرك الأسفل أحسن عزاء للحضيض. يُحْسَبُ لقنواتنا إبداعها في تسمية برامجها، لولا أن الكتاب غالبا ما يكذّب منها العنوان. فعندي أن أخطر المجرمين، على سبيل التصحيح، هم القتلة بالجملة، ولصوص المال العام ومبذّروه، ومزوّرو العقود للسّطو على ممتلكات الغير، وموقّعو الصفقات المغشوشة التي تنتهي بمآسي تجفُّ لها العيون، وأباطرة المخدرات وأقراص السعار، وصيارفة الدماء، والحواة الذين يضعون الطرقات والجسور في جيوبهم، والمصابون بتشمّع الضمير، والذين نذروا حياتهم لتفقير الملايين وتعهير الآلاف... هؤلاء وغيرهم ممن يفسدون ملح الحياة قبل طعامها، هم أحقر المجرمين. أما أولئك الذين تَعرِض قنواتُنا جرائمهم وتُعَرِّض بهم في عقاب لم يصدر عن أية محكمة، أولئك الذين تتسوّل بهم قنواتنا نسبة مشاهدة تقيها ضيق ذات البث، دون مراعاة الكلفة النفسية لهم ولذويهم... فليسوا سوى أخطر الضحايا، ضحايا سياسات لم يقترفوها لا هم ولا ذووهم. وشتّان بين من يُحدث ندبة في وجه مواطن وبين من يحرث وجه الوطن بالندوب ويزرعه بالبثور. وعندي كذلك أن "الخيط الأبيض" ليس فقط ذلك السعي اليائس لرَفْوِ أسمال المجتمع التي ما إن ترتّق من هنا حتى تفتّق من هناك، بسبب الإبرة كما بعِلَّة الثوب، وإنما هو أيضا خيط الفضة الوثقى الذي يخيط مخمل العائلات الكبرى إلى بعضه، ذلك الخيط الذي ينحدر من أصلاب الأنجال إلى أرحام الكريمات، فيضمن الأهل والآل سلالة نافذة، وهي نافذة عالية بالكاد تُرى منها باقي السلالات المعروفة بخشاش الأرض. كما عندي أن "قصة الناس" ليست فحسب ذلك البؤس المتلفز، الذي ينشر على حبل البثّ غسيلهم القذر وأحشاءهم المتورّمة. فللناس "الألبّة" أيضا قصصهم، وكم سيكون رائعا ومشوّقا سماع إحداها. ويا حبذا لو كانت تلك التي يَصْفَرُّ فيها البحر بعد غرق بواخر الزعفران. وعندي أيضا أنّ المختفين هم من اختفوا في ظروف واضحة، بعد إفراغ البنك من الصنك، أو بعد أخذ القرض وهجر الأرض، وغير ذلك من الجرائم الغانمةْ التي تقود إلى المنافي الناعمةْ. فمن غير المقبولْ أن يكونوا في مكان مجهولْ في زمن الإنترنت والأنتربولْ. وعندي، ليس أخيرًا، أنّ الجحيم الحقيقي هو ذلك الذي يعيش فيه معظم العباد، في معامل وأوراش وضيعات بعض الأرباب، هؤلاء الذين يتخشّعون لدى سماع "منبت الأحرار" ولا يتورّعون عن استعباد هؤلاء الأحرار بالضبط دون حسيب ولا رقيب. ولنا فقط أن نتذكّر ذلك الرب، رب العمل، الذي وضع قيدًا جماعيا على أرواح عبيده بإقفال المعمل عليهم، فلما جاءت النار وجدتهم عزّلا، فاستغنت بأجسادهم عن الحجارة. في تلك المأساة خسر المغرب من الأرواح أكثر مما خسر في كل العمليات الإرهابية التي تعرّض لها. بل إنّ داعش نفسها ستحتاج إلى سنوات من أقفاص النار قبل أن تحطّم هذا الرقم، رقم العار. عشرات الفتيات صعدن إلى السماء مخفورات بأحلامهن المتفحّمة، عشرات الأمهات والآباء والعشاق والأصدقاء انفطرت قلوبهم. ومع ذلك، ما سمعنا احتجاجا ولا رأينا مظاهرة، نحن الذين حبانا الله بغدة تفرز التضامن مع أيٍّ كان في أيِّ مكان. فيا لَنَحْنُ. يا للنخل الذي نُضمر، يا للنخل الذي يغدق ظله على البعيد ويترك عروقه للشمس. لكل ما سبق، نهيب بقنواتنا العشواء أن ترفع أبصارها شيئا فشيئا. فلقشدة المجتمع، تلك المنزهّة عن الضرائب، كما لحثالته التي تموّل هذه القنوات من جيوبها، قصص ومحاكمات وخلافات تستحق أن تبثّ في ساعات الذّروة. وإذا كان حنفوزة ومجينينة وبوصمَّة وباقي أعيان الحضيض (مع حفظ الألقاب) لا يعدمون من ينوب عنهم في الشاشة بسبب انشغالاتهم السجنية، فإن أبطالنا الجدد سيطرحون مشكلة حقيقية، إذ من يستطيع أن يمثّل أدوارهم؟ لذلك نقترح على قنواتنا أن يمثّل هؤلاء أدوارهم بأنفسهم، لا لأنهم ما زالوا أحياء يسرقون ويتمتعون بحرية دونها كل السجون، وإنما أيضا لأنهم ممثلون حقيقيون. منهم من لعب دور مدير بنك أو رئيس جماعة أو مسؤولًا لا يرقى إليه الشك لمدة سنوات، ولولا بعض الأخطاء الإخراجية البسيطة لما سقط قناع الحامي عن وجه الحرامي. ومثل هذه الأخطاء ما يجب أن تنتبه إليه قنواتنا الحصيفة أثناء تصوير حلقاتها الجديدة، حتى لا يقع فيها الخلف الفاسد، ويحرج بذلك رعاة الفساد.