دماء الشعب المغربي خصصت جريدة (لو ماروك سوسياليست) اليسارية في عددها الصادر بتاريخ 11فبراير 1939 إطارا ضخما يتعلق بموضوع الصمت حول المعتقلين السياسيين المغاربة، مشيرة إلى أن النداء الذي وجهته إلى صانعي القرار في الحكومة الفرنسية لم يلقى أي استجابة، و هو ما كان ينطبق على العريضة التي وجهها في الموضوع عدد كبير من المغاربة إلى السلطان و إلى المقيم العام و إلى فعاليات سياسية فرنسية. و أكدت الجريدة على أن الأوضاع تتجه نحو المصالحة: "إن الوقت وقت فرض النظام بالقوة، لكن في حالة إخواننا المغاربة المحكوم عليهم فإن متطلبات فرض الانضباط و الصرامة لم تعد ذات جدوى، ذلك أن العقوبات القاسية التي تعرضوا لها قد تجاوزت الحدود المرسومة لها، ففي بعض الحالات كانت العقوبات عشوائية و غير محددة، و تفوق بدون أدنى شك الهدف الذي وضعت في الأساس لأجله و الذي يتمثل في إعادة الهدنة و تهدئة النفوس، و بالتالي فإنه من الأجدى في الظرف الحالي معرفة كيفية التأثير في الناس و الوصول إلى قلوبهم، إذ أنه سيأتي يوم ستصبح فيه إجراءات الرأفة غير مفيدة لا سياسيا و لا أخلاقيا لأي كان، و ذلك لأن اتخاذها قد تم بعد فوات الأوان". كانت الأوضاع العالمية تساعد على تعزيز موقف "الفدرالية الاشتراكية بالمغرب"، إذ أن المصالحة آنذاك باتت أكثر من مرغوب فيها، سيما و أن فرنسا كانت بحاجة ماسة إلى دعم الشعب المغربي للدفاع عن ترابها الوطني المتروبولي، وعن إمبراطوريتها الكولونيالية. و ما كانت الدعاية الاستعمارية تدعوه سابقا ب"التعصب القبلي" أصبح بقدرة قادر "تقليدا عسكريا مغربيا" تفتخر به الإقامة العامة إلى درجة الحديث عنه في نشرتها الإخبارية الصادرة يوم30 أكتوبر1939 ،عدد رقم 45. لقد قام المغاربة كعادتهم بتلبية النداء، لكن ذلك لم يكن إلا لسبب واحد وهو أن الإعلان عنه قد تم باسم السلطان، حيث وجه محمد الخامس خطابا إلى كافة المغاربة تمت قراءته في جميع المساجد، يدعو فيه بلا أي تحفظ ولا مواربة إلى دعم فرنسا و حلفائها في مواجهتها مع القوات النازية. و قامت محطة الإذاعة الفرنسية بإرسال بعثة إلى المغرب، يترأسها (كليريس)، بهدف تسجيل روبرطاج صوتي حول حياة المغاربة خلال فترة الحرب، كما قامت بتسجيل تصريح للأمير مولاي الحسن وجهه إلى الجنود المغاربة بفرنسا ليتم بثه مع مجموعة من اللقاءات الصحفية إلى كل وحدات الجنود المغاربة المقاتلين تحت الراية الفرنسية، و قال الأمير مولاي الحسن : "إن أبانا جلالة الملك سيدي محمد نصره الله قد وكلنا لنبلغ لكم سلامه و سلام المغرب بأسره و نتمنى بفضل مجهوداتكم و مساهماتكم أن يفخر بكم سكان هذا البلد و أن تتركوا في فرنسا ذكريات خالدة كما نتمنى عودتكم قريبا إلى مساكنكم مكللين بالنصر". و تابعت هذه البعثة الإذاعية الفرنسية، برئاسة (كليريس)، رحلتها متوجهة نحو الجزائر و بعدها إلى تونس، لتحقيق نفس الهدف الذي كان يتمثل في تعبئة كل ما يمكن تعبئته بشمال إفريقيا من أجل إنقاذ الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية من براثن الاستعمار النازي. لقد قام 37400مغربي خلال هذه الفترة بحمل السلاح بهدف الدفاع عن فرنسا، 4787 منهم كانوا من المسلحين الاحتياطيين الذين تم تسريحهم قبل أقل من خمس سنوات. كان استدعاؤهم مجددا وفقا للخطة المقررة و التي كانت تقضي بتأسيس ثلاث مجموعات من كتائب المشاة، بالإضافة إلى وحدات جديدة مكونة من أكثر من 24000 مغربي تم إرسالهم إلى فرنسا قبل يونيو 1940. و قد أبان المجندون المغاربة عن بسالة عالية في القتال ضد الألمان لم يجد الفرنسيون بدا من التعبير عن الإعجاب بهم. و بأمانة عالية وصف الرائد (دورمانو) مواجهات المغاربة مع الألمان في جيمبلو (ببلجيكا) ، يومي10 و 16 ماي 1940 كما يلي : "إننا لن نناقش هنا ما إن كان وجود الجنرال في مركز قيادة الوحدة العسكرية التابعة له أو في مرافقة كتيبته ، ولكن وجب علينا أن نقر بأنه في المنطقة المغلقة (بجمبلو) حيث وقع اشتباك بين مقاتلين شجعان، كان المغاربة يهاجمون و يقاتلون و يصيبون بطلقات أسلحتهم الألمان المختبئين داخل دباباتهم". لقد ساهم ما لا يقل عن 45000 جندي مغربي في أولى العمليات العسكرية في الحرب العالمية الثانية، ولما وقعت فرنسا الهدنة مع ألمانيا كان 20000 من المحاربين المغاربة النظاميين و 20000 آخرين من قوات الكَوم يقومون حينها بالتدريبات العسكرية. و قد تم بناء عشرة ثكنات مخزنية حربية في المدن الرئيسية بالمغرب، في حين تطوع 85000 مغربي للقتال في صفوف الجيش الفرنسي، الشيء الذي شكل نجاحا لفرنسا وعزز مكانتها في المنطقة. و كانت أعلى نسبة من "المتطوعين" من المغاربة، تبعا لإحصائيات رسمية شملت الأوروبيين في شمال إفريقيا. لقد شارك آلاف المغاربة في أولى العمليات الحربية التي تلت الإنزال البحري الأمريكي على الجبهة التونسية. هذا بالإضافة إلى مشاركة فرق أخرى من العمال التي كانت متواجدة آنذاك في الأراضي الفرنسية حيث ساهمت هي الأخرى في عمليات المقاومة الفرنسية. و كما هو الحال في فرنسا فقد حارب المغاربة بشجاعة كبيرة في تونس. و أبانت فرق الكَوم عن كفاءات قتالية لا مثيل لها. و رغم توفرها على أسلحة متواضعة و غير كافية، و على أجهزة اتصال عتيقة، فقد قامت هذه الفرق المغربية بتشكيل مجموعتين للدعم أدهشتا الأمريكيين إلى درجة دفعتهم لاعتماد طابور من الكَوم في حملة (سيسيل) بايطاليا. و قد دعم 46934 مغربيا الوجود الفرنسي بإفريقيا، منهم فرق التدخل الخاصة و المظليون. كما تم إرسال الكثير من التعزيزات المغربية إلى ساحة العمليات القتالية بأوروبا، و ذلك إلى غاية نهاية الهدنة و ما بعدها، فيما مون المغرب فرنسا و مستعمراتها، خلال حملة 1940 و1941 ، بالمواد الغذائية الآتية : 200000 طن من القمح (منها 000 135 لفرنسا ( 206050طن من الشعير، (منها 58959 لفرنسا و101380 للجزائر) 54291طن من الذرة 40000طن من الحبوب الثانوية 109560طن من الخضر المجففة 164680من رؤوس الماشية 37670 طن من الخضر الطرية المصبرة 34900 طن من الفواكه و غيرها …( 45 ) ووجبت الإشارة إلى أن الجفاف الذي اجتاح المغرب من سنة1943 إلى سنة1945 لم يمنع من توفير التموينات اللازمة للفرقة المسلحة الأولى من شهر نونبر1942 إلى شهر دجنبر1944، و المكونة من 2329 طن من المواد الدسمة و500000 صندوق من معلبات السمك و28000 طن من الخضر و كميات كبيرة من البيض و غيرها من المواد. حدث كل ذلك في فترة كان المغاربة لا يجدون فيها حتى الأكفان الضرورية لدفن أموتهم... الحركة الوطنية المغربية خلال اللحظات المصيرية تبنت الحركة الوطنية شكلا نضاليا سريا بعد الإجراءات القمعية التي استهدفتها سنة1937 ، و قد تجلى هذا العمل السري من خلال توزيع منشورات من وقت لآخر في المنطقة الفرنسية، بالإضافة إلى عقد اجتماعات سرية و مؤتمرات تعبوية، و نشر مقالات صحفية في المنطقة الخليفية، بهدف التنديد بالإجراءات القمعية الاستعمارية في المنطقة السلطانية، وكان واضحا أن السلطات الاستعمارية الفرنسية غير مستعدة للاعتراف بأن القمع الذي مارسته على الشباب الوطني المغربي كان عاملا من العوامل الرئيسية التي أدت في واقع الأمر إلى تأجيج القضية الوطنية. لهذا صرحت إدارة الشؤون السياسية للإقامة العامة على مضض بما يلي : "إنه نتيجة للإجراءات التي تم اتخاذها خلال الأزمة الوطنية لسنة 1937 لم يعد هناك وجود لحزب رسمي وطني واحد(عبارة تم التشديد عليها في النص الأصلي) يتوفر على توجه سياسي محدد و برنامج واضح في الوقت الذي يتواجد فيه دائما وطنيون كثر (عبارة تم التشديد عليها في النص الأصلي) ". و أما دعم أحزاب اليسار الفرنسية للحركة الوطنية المغربية فقد كان يتم بشكل سري و حذر . و في مارس 1938 قامت حركة تسمى ب"حفاظ القران" بدعوة أعضائها إلى الاجتماع بمسجد القرويين بفاس، و ذلك كل يوم اثنين لاستظهار القرآن بشكل جماعي، و في يوم الثلاثين من الشهر نفسه، قام ثلاثة طلاب من القرويين بوضع عريضة بالمكتب الجهوي بفاس، تحمل عنوان المقيم العام، يطالبون فيها بعبارات مهذبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين المغاربة. و في نفس المدينة تم توزيع عدة منشورات، كانت إحداها بتاريخ 25 مارس تتعلق بتأسيس "لجنة للدفاع عن المطالب المغربية في مصر" تحت إشراف الشيخ محي الدين الخطيب، مدير جريدة الفتح. كما تم إرسال إحدى المنشورات عبر البريد إلى مختلف الوجهاء الفاسيين تدعوهم إلى عدم ترك مدرسة (عدوة)، و هي مدرسة خاصة للتعليم الابتدائي الإسلامي، تحت رقابة إدارة التعليم التابعة للإقامة العامة. في حين تم توزيع منشور آخر عن طريق نسختين مختلفتين، خطت الأولى باليد و تم استنساخها بعد ذلك، أما الثانية فقد طبعت على الآلة الكاتبة ثم استنسخت بواسطة آلة للنسخ، من توقيع "لجنة الأخبار و الدعاية"، وزعت بفاس في أوائل ابريل، داعية المسلمين إلى الوقوف في وجه الأعداء و التصدي لهم. و في سياق هذه الحملة الدعائية للحركة الوطنية، أصدرت مصالح الإقامة العامة بلاغا تشير فيه إلى: "إن مثل هذا النوع من الدعاية عن طريق المنشورات لن يفلح إلا في جذب فئة قليلة من الشعب و لن يتعدى ذلك مدينة فاس، ففي المدن المغربية الأخرى يلتزم الوطنيون الحذر في توقعاتهم و لا يتعدى الأمر بعض الاجتماعات الصغيرة الخاصة، في حين يسود الهدوء التام في كل مكان". و قد بدا القمع البوليسي يتراجع في منطقة الحماية الفرنسية في مقابل الاعتماد المتزايد على الأساليب الدعائية الكولونيالية، و ذلك بهدف تهييئ المغرب للمساهمة الفعالة في"المجهود الحربي" للدفاع عن فرنسا التي كانت في مواجهة مع القوات النازية في عقر دارها... لذلك كانت الإقامة العامة مجبرة على التحلي بنوع من المرونة في أساليبها تحت وطأة النكسات التي ألمت بفرنسا المتروبولية. مما أدى بها إلى اتخاذ إجراءات ظرفية أطلقت عليها شعار" تكريم" لبعض الوطنيين المغاربة. ففي هذا السياق تم الإفراج عن عمر بن عبد الجليل في نونبر1940 ، و عن محمد اليزيدي في ماي1941. في حين اقتيد محمد بن الحسن الوزاني إلى الإقامة الجبرية بايتزر و تم ترحيل علال الفاسي إلى الغابون. و في بداية سنة 1941، لاحظت الإقامة العامة تنامي التيار الوطني في صفوف الشباب المغربي بصفة عامة، و بالخصوص في"جمعية الكشافة الحسنية" التي كان يرأسها الأمير مولاي الحسن . و في الثامن من ماي 1941 قدم "الاتحاد الرياضي سلا-الرباط" عرضا مسرحيا باللغة العربية كان يضم مشاهد للحركة الكشفية، و كانت قاعة العرض بإحدى دور السينما بالمدينة مكتظة بالمتفرجين، مما أثار غضب السلطات الاستعمارية. لقد عبر المغاربة بصوت ملكهم عن دعمهم لفرنسا و حلفائها من خلال معاركهم الضارية ضد ألمانيا النازية، كما ظلوا أوفياء لكلمتهم رغم إدراكهم لحقيقة كونهم قد أصبحوا هم الحماة للقوات الاستعمارية التي كانت تدعي "حمايتهم"... و برؤية واضحة و إرادة قوية اتخذ محمد الخامس قرار رئاسة الحركة الوطنية التي اتخذته بدورها رمزا ساميا لها و عنونا جوهريا لكفاح الشعب المغربي برمته. و في هذا الخضم، تم انعقاد مؤتمر أنفا بالدارالبيضاء ) 17 و 24 يناير 1943 (، حيث اتفق (روزلفيلت) و (شيرشيل) على تعيين الجينيرالين الفرنسيين، (دو غول) و (جيرو)، كممثلين لفرنسا الحرة. حدث ذلك غداة الإنزال البحري الانجلو-أمريكي. وهكذا تم تعيين الجنرال (جيرو) كمفوض أعلى بإفريقيا ليقوم بتسيير المصالح الفرنسية. و قد كان لمؤتمر أنفا اثر بالغ على الرأي العام المغربي، خاصة بعد دعوة رئيس الولاياتالمتحدة للملك محمد الخامس، في 23 من يناير، إلى مأدبة عشاء رسمي، حيث تم تأويل الحدث كإشارة مؤكدة على الاستقلال الوشيك للمغرب المدعوم من طرف دولة قوية معروفة بمعاداتها للاستعمار، و تربطه بها علاقات صداقة و تعاون منذ نهاية القرن الثامن عشر. و رغم كل هذه الاعتبارات لم يكن المغاربة سذجا و إنما كانوا أصحاب إيمان و وفاء، إذ فهموا بسرعة أن الرئيس (روزفيلت) لم يقم بزيارة المغرب خصيصا لمناقشة استقلاله أو حتى من أجل دعوة ملكه إلى مأدبة عشاء رسمي. لم يكن الأمر أكثر من دعاية مضادة كانت دول التحالف تقوم بها في مواجهة دعاية دول المحور على أرض المغرب، و هو ما أكدته حرفيا السلطات الاستعمارية بقولها: " و هذا النهج هو النهج الفعال في محاربة المزاعم الدعائية المزدوجة الألمانية الايطالية التي تسعى من خلال برامجها المقدمة باللغة العربية إلى إظهار قرار أنفا على أنه قرار لصالح اليهود". و مع ذلك ظل شعور المغاربة بالمودة تجاه الأمريكيين قائما، و بادروا إلى تأسيس (نادي روزفيلت) بعد أشهر قليلة من لقاء الرئيس (روزفيلت) بالملك محمد الخامس. و في بداية مارس 1943، علم القنصل الفرنسي بتطوان من مصادر مطلعة أن زعماء الجبهة الوطنية المغربية في الشمال قاموا بإصدار وثيقة يعرضون فيها مطالبهم فيما يتعلق بوضع المغرب لما بعد الحرب، و قد كانت الوثيقة محررة باللغة الفرنسية بهدف تقديمها للسلطات الفرنسية. و حملت هذه الوثيقة توقيع عبد الخالق الطوريس و التهامي الوزاني و المكي الناصري و عبد السلام التمسماني. و مما جاء في مراسلة القنصل الفرنسي قوله : "و حسب المصدر الذي زودني بالمعلومات فإن زعماء الحركة الوطنية كانوا سيعتمدون بالأساس على الوجود الأمريكي لتحقيق النصر إلا أنهم أدركوا أن وجود الحلفاء في شمال إفريقيا لم يؤثر في شيء على دورنا في المغرب، فقرروا عندها الاتصال بنا مباشرة". لقد استطاع الوطنيون المغاربة أن يتحملوا مسؤولياتهم التاريخية و يفهموا جيدا معنى الواجب الوطني و التضحيات التي كان يجب عليهم تقديمها. فاختاروا العزم على مواصلة النضال من أجل استقلال المغرب و لا شيء دون ذلك. و في يوم 11 يناير1944، تم تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال للسلطان باسم حزب الاستقلال تحمل 58 توقيعا، أرسلت نسخ منها في الوقت نفسه إلى الإقامة العامة و إلى القنصل العام البريطاني و القنصل العام الأمريكي. استند فيها الوطنيون على بيان توضيحي يصر على التشبث بالميثاق الأطلسي، و يؤكد على إفلاس نظام الحماية و على المطالبة باستقلال المغرب تحت سيادة السلطان، و يؤكد البيان على فتح الحوار مع الدول المعنية و على تحديد إطار المصالح الأجنبية وإعطاء الضمانات اللازمة في إطار السيادة المغربية على جميع أراضيه. و يتمثل المطلب الثالث في الاعتراف بعضوية المغرب في الميثاق الأطلسي و مشاركته في مؤتمر السلام، و قد طلب الموقعون على الوثيقة من السلطان أخذ مبادرة التجديد و إعادة تنظيم البلاد على نهج الدول الإسلامية بالشرق الأوسط. كما تم تحرير عدة عرائض في مختلف مدن المغرب و تم عرضها على المواطنين المغاربة لتوقيعها، و قد لاقت نجاحا كبيرا يرجع بالخصوص إلى قناعة المواطنين بأن السلطان هو من يدعم المطالب، هذا إن لم يكن هو في الأصل من دعا إليها. و قد صادف وقت تسليم الوثيقة وجود المقيم العام في مراكش لمقابلة الجنرال (دو غول) و (ويستون تشرتشل)، ثم عاد يوم الرابع عشر إلى الرباط ليضع الإجراءات التي اتخذتها حكومة فرنسا قيد التنفيذ: "لقد قام السيد المقيم العام (بويو) و هو على اتفاق تام معنا، يقول مفوض الشؤون الخارجية الفرنسية (ماسيجلي) في تقريره، بوضع مخطط عمل سيتم تنفيذه بطريقة منهجية خلال الأيام القادمة و ذلك بغية تحقيق الأهداف الآتية: الدفع بالسلطان من خلال احترامه للمعاهدة القائمة بيننا و بين عائلته إلى إنكار المطالب المتطرفة، و بعد ذلك فصله تدريجيا عن المحرضين و أخيرا حمله على نبذهم". لقد وجه المقيم العام سؤالا مباشرا إلى السلطان على شكل تهديد: هل أنت مع أو ضد فرنسا ؟ و استخدم نفس أسلوب التهديد مع وزراء المخزن... و في مساء يوم السادس عشر من يناير، تمت قراءة بيان رسمي على أمواج الإذاعة كما قامت الصحافة بنشره، و مفاده أن السلطان "سيسعى إلى تطوير المغرب في إطار الصداقة الفرنسية و احترام المعاهدات". و في يوم الثامن عشر، سلم الوطنيون للسلطان مذكرة يصرحون فيها بأن كل إصلاح يأتي من جانب الفرنسيين هو في الواقع مجرد خداع و تضليل، وأنه من الآن فصاعدا لن يتم أخذ أي شيء آخر في الحسبان غير استقلال المغرب، فيما تلقى المقيم العام تعليمات جديدة من باريس ترمي إلى المزيد من تضييق الخناق على سلطان المغرب. و في اليوم الواحد و العشرين، تم الإعلان عن طرد كل الموظفين المخزنيين الذين كانت لهم علاقة بتيار الحركة الوطنية. و في اليوم الثامن و العشرين، حضر مفوض الشؤون الخارجية (ماسيجلي) إلى الرباط و قد تضمن برنامج زيارته احترام معاهدة الحماية و التصريح بحق فرنسا في متابعة الإصلاحات في المغرب. كما تم تبادل الخطابات بينه و بين السلطان في نفس اليوم، و تم بث تلك الخطابات في وقت لاحق عبر الإذاعة باللغتين الفرنسية و العربية، و كان مضمونها هو الإعلان عن"الإرادة المزدوجة" للطرفين، مما خلف انطباعا متفائلا عبر عنه (ماسيغلي) كالتالي: "يمكنني القول إنه خلال هذه الزيارة و بعد مقابلة طويلة أجريتها بوجود المقيم العام مع السلطان و الصدر الأعظم تشكل لدي انطباع عام يتمثل في أن الأزمة الحادة قد تم تجاوزها، و ينبغي الآن العمل على تفريق الأحزاب الوطنية بطريقة منهجية و حرمانها من الدعم الذي قد تحصل عليه من مستويات عليا، مع تفادي كل عذر من شأنه تعطيل الإصلاحات، تلك الإصلاحات التي لم تساعد مطلقا الظروف الطارئة على الساحة طيلة الأشهر الأخيرة الماضية على مواصلتها ". و قد تم وضع برنامج واسع للقمع يمنح مصالح الإقامة العامة جملة واسعة من الذرائع التلفيقية، فعلى سبيل المثال تم توقيف بعض المغاربة بحجة تخابرهم مع العدو. و كان بلفريج من بين من وجهت لهم هذه التهمة. و في يوم التاسع و العشرين، وجه محمد الفاسي، نائب رئيس جامعة القرويين، مذكرة للفرنسيين و الأمريكيين و الانجليز. مضمونها ما يلي: " لقد قمنا يوم الخامس عشر من يناير بالإعلان رسميا أنه لم تكن لدينا النية في تحقيق غاياتنا عن طريق العنف أو بأي طريقة أخرى يمكن أن تؤدي إلى إثارة الاضطرابات التي من شأنها التأثير السلبي على متطلبات المجهود الحربي، و نعتقد أن فرنسا كدولة ديمقراطية ليبرالية تحترم حرية الرأي المتمثلة في حق المساواة، فلماذا نتعرض إذن في الكثير من جهات المغرب لاعتقالات متواصلة من بينها اعتقالات سببها الوحيد هو ممارسة حق الحرية، هذه الحرية التي ضحت فرنسا و حلفاؤها بالغالي و النفيس في سبيل الحفاظ عليها". و لم يتغاضى المغاربة عما يحصل من قمع و ترهيب في صفوفهم، فقاموا في الرباط و سلا و الدارالبيضاء و فاس، و كذا في عدد كبير من المدن الأخرى التي تعاني من نفس الأوضاع السيئة، بإقفال المحلات و المدارس الإسلامية الخاصة و الخروج في مظاهرات غاضبة أمام مقرات سلطات الحماية، و عبروا عن تقديم دعمهم القوي للسلطان و وجهوا تهديدات صريحة للخونة من المغاربة المتعاونين مع العدو. و قد تم قتل شخص مغربي في مسجد بمدينة فاس في اليوم الثلاثين من نفس الشهر كان يبدو أن هناك دليلا يشير إلى تعاونه مع العدو. و في يوم الواحد و الثلاثين انتشرت بنفس المدينة فرقتان من المقاتلين السنغاليين أسفرت عن وفاة عدد كبير في صفوف المتظاهرين المغاربة خلال نفس اليوم (60 قتيلا حسب الإحصائيات الرسمية). كما تم منع الأسر من تنظيم المواكب الجنائزية لدفن جثث أبنائها. و عندما انتشرت أنباء المذبحة في القبائل المجاورة سادت مشاعر السخط العارم تجاه المستعمر. و في أيام الثلاثاء و الأربعاء و الخميس، بتاريخ فاتح وثاني و ثالث فبراير على التوالي، ظل الوضع العام في المنطقة الفرنسية خطيرا، حيث ارتفعت حدة التوتر و تزايد القمع. ووردت برقية من طنجة، حيث كان يتواجد بها قنصلان فرنسيان، واحد منهما تابع للحركة الديغولية والآخر لحكومة (فيتشي)، وصفت الوضع على النحو الآتي: "تتم ممارسة القمع بشكل وحشي و مستمر، و قد أصدرت السلطات الفرنسية بالجزائر أوامرها بذلك إلى المقيم العام (بويو) الذي لا يتمتع بنفس القدر من المرونة التي كان يتمتع بها المارشال (ليوطي) و الجنرال (نوكيس) اللذان شغلا هذا المنصب قبله. و قد خلف هذا كراهية الأهالي للفرنسيين بطريقة شرسة، و ذلك لأسباب عدة تتجلى في غضبهم من قمع القوات لهم، و في أحكام الإعدام المجحفة في حقهم، و في قتل الكثير من النساء و الأطفال أثناء فترة الانتقام منهم، كما أن غيابا تاما للتموين زاد في الطين بلة". لقد اتضح بما فيه الكفاية أنه لا شيء بقي أمام المغاربة سوى مواصلة الكفاح بقيادة السلطان محمد الخامس من أجل استقلال البلاد مهما كلفهم ذلك من تضحيات جسام. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال مدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]