تقديم : إن بروز مفهوم الدبلوماسية البرلمانية يؤكد تطور دور البرلمانات في النظم الديمقراطية الحديثة الذي لا يقتصر فقط على أداء الوظائف الكلاسيكية المتمثلة في التشريع ومراقبة العمل الحكومي، بل يسعى إلى إعمال وسائل الدبلوماسية الموازية من لدن البرلمانيين في تطوير وتعزيز العلاقات الثنائية و المتعددة الأطراف بين الدول والانكباب الدبلوماسي على حل قضايا دولية راهنة ترتبط بالمجال السياسي وكذا بقضايا حقوق الإنسان والبيئة والتنمية المستدامة...ولعل أهمية الدبلوماسية البرلمانية تكمن أولا في إعطاء فاعلية أكثر للبرلمان في السياسة الخارجية وتبرز ثانيا في كونها مكملة للدبلوماسية الرسمية لاسيما في ظل بيئة دولية معولمة على كافة الأصعدة يصعب على الدبلوماسية الرسمية التحكم فيها لوحدها. ترتيبا على ما سبق تتضح أهمية تناول مهام الدبلوماسية الموازية من لدن مجلس المستشارين لدعم الدبلوماسية الرسمية من أجل الدفاع عن المصالح الحيوية للمغرب وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية للمملكة، خاصة في ظل المقتضيات الدستورية الجديدة التي تمكن المؤسسة التشريعية بمجلسيها من التحرك على المستوى الدبلوماسي،من هنا تنبع أهمية وضرورة الإنكباب على استقراء جوهر السلوك الدبلوماسي لمجلس المستشارين من خلال الوقوف عند الإطار المفاهيمي والقانوني للفعل الدبلوماسي للمجلس قبل الحديث عن مظاهر الفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين وآفاقه تفعيله. أولا : الإطار المفاهيمي والقانوني للفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين. ظهر مفهوم الدبلوماسية البرلمانية ليعكس تطور الفعل البرلماني في مجال السياسة الخارجية وليكمل دور الدبلوماسية الرسمية في مقاربة العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف على الصعيد الدولي، وهذا ما يبرر الوقوف عند الإطار المفاهيمي والقانوني للفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين. 1- الإطار المفاهيمي. الدبلوماسية البرلمانية Diplomacy parlimentary هي نمط خاص للدبلوماسية الجماعية المفتوحة تتخذ من المنظمات الدولية والإقليمية مسرحا لها وهي تعكس الاتجاه الذي يؤكد أن ديمقراطية الحياة الداخلية للأمم تبني امتدادها على ديمقراطية العلاقات بين هذه الأمم ولذلك فهي تشغل حيزا هاما في مجال العلاقات الدولية إذ يعتبرها البعض دبلوماسية مكملة ومرافقة للنشاط الدبلوماسي الحكومي وبالتالي ينتظر منها أداء دور دولي فعال في معالجة القضايا الدولية واحتواء الأزمات ودعم مسارات التعاون الدولي والشراكة تحقيقا للأمن والسلم والرفاهية وخدمة للمصالح العليا والقيم العالمية المشتركة،فضلا عن ذلك فهي تتيح للبرلمانات الوطنية الدفاع عن قضايا بلدانها وشرح مواقف حكوماتها من القضايا المطروحة وربط التعاون بين البرلمانات الوطنية لحل بعض القضايا الدولية والمساهمة في حل النزاعات الدولية عبر تشكيل لجان للوساطة وتقريب وجهات نظر الأطراف المتصارعة،لذلك فالدبلوماسية البرلمانية تتسم بصفات تؤهلها لممارسة هذه الأدوار ومنها تعدد المتدخلين فيها وقضاياها وقيامها على العلانية والتفاوض والتشاور لكونها تشرك مختلف أطياف وقوى المجتمع المدني في بلورة المواقف وتوزيع الأدوار وطنيا ودوليا. وتتخذ الدبلوماسية البرلمانية شكلين أساسيين، يتمثل الأول في دبلوماسية برلمانية ثنائية وتتجسد في تبادل الزيارات والبعثات الثنائية بين مختلف برلمانات العالم التي لا تقتصر مهمتها على لقاء البرلمانيين بل تلتقي أيضا مع المسؤولين الحكوميين وأحيانا مع الفاعلين المدنيين، أما النوع الثاني فيتجسد في دبلوماسية برلمانية جماعية تمارس على صعيد المنظمات والاتحادات البرلمانية الدولية والجهوية التي تشكل أهم قنوات تفعيل الدبلوماسية البرلمانية كالاتحاد البرلماني الدولي والاتحاد البرلماني العربي واتحاد البرلمانات الإفريقية والبرلمان الأوربي... 2- الإطار القانوني. أكيد أن البرلمان المغربي بمجلسيه يبني تدخلاته في مجال الديبلوماسية البرلمانية على المقتضيات القانونية التي تحدد تحركاته في هذا المجال والمتجسدة أساسا في المقتضيات الدستورية بحيث يسند الدستور المغربي الجديد اختصاصات هامة للبرلمان بمجلسيه في المجال الدبلوماسي كما يؤكد خاصة في ديباجته على أهمية الروابط والعلاقات مع الشعوب و التكتلات الجهوية و الدولية، الأمر الذي انعكس ايجابا على البرلمانيين المغاربة، وجعلهم يولون اهتماما خاصا للعلاقات الثنائية و المتعددة الأطراف، سواء من خلال مجموعات الصداقة، أو من خلال الزيارات المتبادلة بين البرلمانيين، علاوة على ذلك تشكل الأنظمة الداخلية للبرلمان المغربي بمجلسيه إطارا قانونيا يوضح بشكل تقني عمل البرلمان في الميدان الدبلوماسي،حيث تظل تلك الأنظمة الداخلية إطارا مفسرا للمقتضيات الدستورية في هذا الصدد. تبعا لذلك ينص النظام الداخلي لمجلس المستشارين في بابه التاسع من المواد 192 إلى 195 حول مسألة التعيينات الشخصية لتمثيل مجلس المستشارين إلى أن مسألة تحديد من يمثل المجلس تتم بقرار من المكتب مع مراعاة التخصص ومبدأ التشاور مع الفرق وتطبيق قاعدة التمثيل النسبي للفرق، ليتضح أن مجلس المستشارين يولي أهمية لمسألة الاختصاص في التمثيلية، ويتم التنسيق بين مجلسي البرلمان فيما يخص التمثيل في المنظمات الدولية والإقليمية حيث تتشكل لهذة الغاية شعب مشتركة مع مجلس النواب، ويؤكد النظام الداخلي لمجلس المستشارين على عدم جواز انتقاد أي فريق لفريق آخر في تعيينه لمن يريد من أعضائه، كما يمنع على أي مستشار إبداء ملاحظاته بشأن مستشار آخر، كما يتطابق مجلس المستشارين مع مجلس النواب في جانب تعيين مستشارين يشاركون في لجنة خارج المجلس (المادة 194من النظام الداخلي لمجلس المستشارين مع المادة 45 من النظام الداخلي لمجلس النواب)، من جهة أخرى يشكل مجلس المستشارين مع البرلمانات الشقيقة و الصديقة لجانا للتعاون و الصداقة تحت إشراف المكتب و تتكون من 12 عضوا، تمثل فيها جميع الفرق مع مراعاة مبدأ التمثيل النسبي بالنسبة لرئاسة هذه اللجن، كما تنبثق عن المجلس لجنة دائمة تعنى بالشؤون الخارجية و الحدود و المناطق المحتلة و الدفاع الوطني في تقارب نسبي مع نفس وظائف واختصاصات مثيلتها بمجلس النواب، ومن ذلك يبرز التشابه في الاختصاصات والصلاحيات المنصوص عليها في النظام الداخلي لكلا مجلسي البرلمان والمرتبطة بالعمل الدبلوماسي،هذا التشابه الذي يهم أيضا دور رئيس مجلس المستشارين في تنظيم الصلاحيات الدبلوماسية والخارجية لمجلس المستشارين لاسيما وأن النظام الداخلي للمجلس ينص على أنه تجري اتصالات المجلس وعلاقاته الخارجية بواسطة الرئيس. ثانيا : الفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين، تجلياته وآفاقه. لا مراء أن الصلاحيات التي يعطيها الدستور والنظام الداخلي لمجلس المستشارين تتيح للفاعلين البرلمانيين على صعيد مجلس المستشارين مجالا مهما لممارسة الدبلوماسية الموازية،وبالرغم من التجليات الواضحة لنشاط مجلس المستشارين في مجال الدبلوماسية البرلمانية،فإنه لازال البحث مستمرا لإيجاد السبل القمينة بتفعيل الأداء الدبلوماسي للمجلس،لهذا سنقف عند تجليات الفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين قبل الحديث عن آفاقه. 1- تجليات الدبلوماسية الموازية لمجلس المستشارين. يتبين من خلال تتبع مسارات الفعل الدبلوماسي لمجلس المستشارين تنامي الاهتمام بالدبلوماسية الموازية ويظهر ذلك من خلال الانفتاح على العديد من الدول وكسب تأييد العديد منها بخصوص القضايا الداخلية وتوسيع دائرة العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف لتشمل مختلف المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية،وأهم التجليات الخاصة بكثافة الأنشطة الدبلوماسية لمجلس المستشارين تتمثل في دعم علاقات التعاون مع برلمانات الدول الصديقة سواء في إطارها الثنائي أو على صعيد المنظمات والهيئات الدولية وكذا إجراء لقاءات ومباحثات مع المجالس النيابية الأجنبية والشخصيات التي زارت المغرب والمساهمة في العديد من الملتقيات البرلمانية المنظمة من لدن الاتحادات والجمعيات البرلمانية الجهوية والدولية التي يشارك فيها مجلس المستشارين بصفة "عضو دائم" أو "ملاحظ" أو "شريك" أو"مدعو" أو "شريك من أجل الديمقراطية" ومنها مثلا لا حصرا: الاتحاد البرلماني الدولي،مجلس الشورى للاتحاد المغاربي،الاتحاد البرلماني العربي،الاتحاد البرلماني الإفريقي،اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي،الجمعية البرلمانية للبحر الأبيض المتوسط،اللجنة البرلمانية المشتركة بين البرلمان المغربي والبرلمان الأوربي والجمعية البرلمانية التابعة لمجلس أوربا ...ولقد عمل المجلس في هذه الملتقيات على التعريف بالمكاسب التي حققها المغرب على المستوى السياسي والبرلماني وربط المزيد من العلاقات مع برلمانات الدول الصديقة والاستفادة من خبرتها التشريعية والتنظيمية. لقد اتضح من مجمل الأنشطة الدبلوماسية لمجلس المستشارين أنه سعى إلى تأسيس ثقافة دبلوماسية خاصة به مستفيدا من التراكمات الإيجابية لمجلس النواب في هذا الميدان،الأمر الذي يظهر في تكثيف النشاط الخارجي للمجلس بمساهمة جميع مكوناته وذلك لتوسيع دائرة اتصالاته لتضم جهات ودولا جديدة مع استقبال العديد من الوفود البرلمانية الأجنبية وإيفاد البعثات بكيفية مستمرة إلى الخارج إما للمشاركة في الهيئات البرلمانية الدولية أو للمشاركة في الاجتماعات الثنائية في إطار مجموعات الصداقة البرلمانية وكذا المشاركة في التظاهرات البرلمانية الدولية التي تبت في مواضيع مختلفة،مع تنظيم المجلس لندوات علمية حول الدبلوماسية البرلمانية والثنائية البرلمانية...كما شكلت قضية الوحدة الترابية للمملكة محور النقاشات التي يجريها المجلس سواء خلال استقبال الوفود الدولية أو أثناء استقبال بعض الوفود الإعلامية الإفريقية والأوروبية. 2- آفاق الدبلوماسية الموازية لمجلس المستشارين. بالرغم من كثافة النشاط الدبلوماسي لمجلس المستشارين فإن الحاجة لازالت ملحة للارتقاء بالأداء النوعي الدبلوماسي لأعضاء المجلس وذلك من خلال مواجهة التحديات التي تؤثر في فعالية ومردودية العمل الدبلوماسي البرلماني عموما،ومن ذلك ضرورة تطوير مؤهلات وقدرات وثقافة النخب البرلمانية في المجال الدبلوماسي ودعم التنسيق بين الأجهزة الحكومية المعنية بالسياسة الخارجية والجهاز التشريعي بمجلسيه وضمان استمرارية الفعل الدبلوماسي وتفاعله المستمر مع القضايا التي يعنى بها ذلك أن الفعل الدبلوماسي البرلماني يبقى أسيرا لمنطق ردود الفعل ولا يتم إلا بشكل متأخر وهنا نستحضر خطاب جلالة الملك بمناسبة افتتاحه للدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية التاسعة حيث جاء في الخطاب الملكي مايلي : "...فقد لاحظنا بعض الاختلالات في التعامل مع قضيتنا المصيرية الأولى، رغم التحركات الجادة التي يقوم بها بعض البرلمانيين، إلا أنها تظل غير كافية،وهو ما من شأنه تشجيع خصومنا على الرفع من مستوى مناوراتهم لإلحاق الضرر ببلدنا،ذلك أن أغلب الفاعلين لا يتعبؤون بقوة، إلا إذا كان هناك خطر محدق يهدد وحدتنا الترابية،وكأنهم ينتظرون الإشارة للقيام بأي تحرك. فبدل انتظار هجومات الخصوم للرد عليها، يتعين إجبارهم على الدفاع، وذلك من خلال الأخذ بزمام الأمور، واستباق الأحداث والتفاعل الإيجابي معها...". من هنا فالتعامل الظرفي والمناسباتي للدبلوماسية البرلمانية مع القضايا الوطنية بما فيها قضية الوحدة الترابية للمملكة يؤثر على فعالية الفعل الدبلوماسي البرلماني ويجعله مفتقدا لمقومات العمل الاستباقي ولشروط الاستمرارية، وهو ما يستدعي من مجلس المستشارين اعتماد مقاربة جديدة ومتطورة في الممارسة الدبلوماسية البرلمانية بتشاور وتنسيق مع كل الفاعلين تتلخص أبرز مرتكزاتها في عقلنة الممارسة الدبلوماسية والعمل على تجديد اتجاهاتها وتقوية التنسيق بين مجلس المستشارين ومجلس النواب لضمان دبلوماسية برلمانية متكاملة ومنتجة مع تنمية القدرات التواصلية والتفاوضية للبرلمانيين من خلال تنظيم دورات تكوينية لفائدتهم و انفتاح مجلس المستشارين على الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والإصغاء لأفكارهم ومقترحاتهم وأخذها بعين الاعتبار في التحركات الخارجية لمكونات المجلس مع الارتقاء بدور الأحزاب السياسية من خلال التفعيل الجدي لمهام لجان الخارجية داخل الأحزاب السياسية بإعمال مقاربات جديدة من شأنها تعزيز وعي البرلمانيين بقضايا السياسة الخارجية وتحسين أدائهم فيها. *أستاذ جامعي في القانون العام