في خضم الأزمة السياسية والدبلوماسية التي تشابكت خيوطها هذه الأيام بين المغرب ودولة السويد، ومع بروز بوادر انفراجها، على الأقل حسب ما يصلنا من أصداء عن اللقاءات التي أجراها الوفد المغربي في ستوكهولم مع رجال دولة السويد وبرلمانييها، وما تلاها من تصريحات إيجابية ومطمئنة على لسان وزيرة خارجيتها وعلى لسان رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان السويدي، بدا لنا أن نكتب هذه السطور للتذكير، أو حتى إخبار من لم يعلم قط، بتاريخ العلاقات بين البلدين، فكما يقال في التذكرة عبرة. فالتاريخ بوقائعه وأحداثه المحفوظة في الكتب والوثائق وأرشيفات الدول، وحده شاهد على بعض الحقائق والحقوق التي قد يطالها النسيان أو التعدي أو النكران من هذا الطرف أو ذاك. لقد طالعت قبل يومين في موقع هسبريس مقالا لباحث مغربي تحدث فيه عن وثائق إسبانية نشرها المؤرخ الإسباني مريانواريباس بالاو، وهو بلا منازع أحد أكبر المتخصصين في تاريخ المغرب خلال القرن الثامن عشر، وخاصة فترتا السلطانين سدي محمد بن عبد الله ومولاي اليزيد؛ تحدث فيها عن جنوح سفينة كنارية وتحطمها أمام السواحل المغربية الصحراوية في رأس بوجدور"الخاضعة لسيادة سلطان المغرب" حسب الوثيقة، سنة 1784م، ووقوع طاقمها من الصيادين في الأسر، وبين فيها العناية التي كان محمد بن عبد الله يوليها لقضية تحرير الأسرى المسيحيين، في سبيل الدفع بالعلاقات مع دول المتوسط خاصة، وأوربا عامة، إلى نوع من الهدنة والتقارب المبني على المصالح المشتركة. في هذا السياق التاريخي كان قناصل الدول الأوربية يعلمون سيادة سلطان المغرب على مجال كبير وممتد تشكل الصحراء جزءا لا يتجزأ منه، وكانت مملكة السويد واحدة من هذه الدول. لم تكن سفنها المبحرة قبالة السواحل المغربية تسلم من عمليات رياس البحر المغاربة، وكان رعاياها يقعون في شراك الأسر بالمغرب، فقد خلف لنا أسير سويدي يدعى ماركوس بيرغ، قضى سنتين بمدينة فاس، ما بين 1754 و1756م، مذكرات "وصف الاستعباد في مملكة فاس" (منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء2011/ترجمة عبد الرحيم حزل)، حكى فيها تجربة مريرة مليئة بالحقائق والمغالطات في آن واحد عن المغرب والمغاربة. كان عدد السويديين المأسورين في المغرب مرتفعا في هذه الفترة؛ لأن المغرب كان يعيش اضطرابات سياسية واجتماعية ما بين (1727/1757) جعلت المخزن (الدولة) ينشغل بأوضاع الداخل، في حين كان النشاط البحري المغربي يخضع للمبادرات الفردية. وبمجيء سيدي محمد بن عبد الله إلى الحكم سنة 1757م، بعدما اكتسب تجربة في التعامل مع التجار الأوربيين لما كان خليفة لوالده في مراكش، استوعب هذا السلطان المصلح، المجدد والحداثي، حسب المؤرخين، اللحظة التاريخية، وأيقن أن المغرب عليه أن ينهج سياسة منفتحة تجاه جيرانه الأوربيين في المتوسط، وكذلك تجاه جميع الأمم القريبة والبعيدة. وهكذا فتحت قنوات التفاوض وتحركت الآلية الدبلوماسية لمعالجة المشاكل، وعلى رأسها مشكلة الأسر التي كانت طيلة العصر الحديث "ظاهرة" مشينة تلوث العلاقات بين الدول وتتعارض مع بعض مبادئ الحقوق التي أصبح الغرب ينادي بها في ظل انتشار فكر الأنوار. أما في المغرب فما فتئ هذا السلطان يذكر الغرب بأن الدين الإسلامي والى جانبه الدين المسيحي قد تضمنا تلك المبادئ والأفكار منذ زمن بعيد. فهو الذي كتب في إحدى رسائله لملك إسبانيا: "إنه لا يسعنا في ديننا إهمال الأسرى وتركهم قيد الأسر، ولا حاجة في التغافل عنهم لمن ولاه الله الأمر، وفيما نظن لا يسعكم ذلك في دينكم أيضا". لا نريد إغراق هذه السطور بتفاصيل تاريخية عن سياسة كل طرف وأهدافه من هذا التقارب، لكن المؤكد أن المغرب استفاد كما الدول الأوربية وبادر إلى إنشاء علاقات سلام مع الغرب في ما يتعلق بالملاحة والتجارة. وقد استفادت مملكة السويد التي تثبت الوثائق أن ملكها أدولف فريدريك هو السباق إلى التواصل مع سلطان المغرب، يعرض عليه الصلح ويطلب تحرير رعاياه من الأسر ويطلب رعاية مصالح بلده، فاستجاب له سلطان المغرب دون تردد. وقد تبنى البرلمان السويدي رغبة الجالس على العرش. وهكذا وصل إلى المغرب أول مبعوث سويدي يدعى بيتر كريستيان وولف في شهر مارس سنة 1763، بحيث أجرى مفاوضات مع نائب السلطان بمدينة طنجة، توجت بعقد وتوقيع أول اتفاقية صلح وتجارة بين المغرب والسويد يوم 16 مايو، تضمنت ثلاثة وعشرين بندا. نورد ثلاثة بنود منها لإبراز أهميتها وما قدمته للطرفين، وبخاصة لمملكة السويد: البند الأول: "أن يكونوا (أي السويديين) مؤمنين على أنفسهم وأموالهم في جميع إيالة سيدنا نصره الله ومراسيه برا وبحرا هم وتجارهم من سائر المدن والثغور...". البند التاسع: "إذا أخذ لهم مركب وجيء به لطاعة سيدنا نصره الله وأراد الآخذ بيع الأسرى بها وأنزلهم من المركب بقصد البيع، فهم مسرحون من الأسر، وكذا من أخذ من المسلمين ونزلوا ببلادهم فهم مسرحون وان بقوا في المركب فلا كلام لهم". البند الخامس عشر: "لهم أن يجعلوا من القنصوات (القناصل) ما يريدون ويختارون لأنفسهم من السماسير (الوسطاء) ما يحتاجون إليه، ويكون القونصو منهم كغيره من القنصوات في المنزلة والمرتبة والمباشرة، ..ولا يتعدى عليهم احد، ويسافرون في البر كيف شاؤوا ويركبون المراكب...وهم في صلاتهم ودفن من مات منهم كغيرهم من المُصالحين....". تبرز هذه الشروط الثلاثة، التي انتقيناها على سبيل المثال لا الحصر، أهمية هذا الصلح، خاصة بالنسبة لمملكة السويد، فقد أمن رعاياها وحررهم من عقدة الخوف من الوقوع في الأسر، ومنحهم حق ممارسة شعائرهم الدينية في المغرب بحرية، ومنح لدولتهم امتيازات تجارية مهمة منها سلامة ملاحتها البحرية وحركتها التجارية على طول السواحل الأطلسية المغربية، هذه السواحل التي أصبحت لها قيمة إستراتيجية منذ الكشوف الجغرافية في مطلع القرن السادس عشر. أما المغرب فقد كان يسعى إلى ملء بيت المال من أعشار التجارة مع أوربا، وكذلك الحصول على بعض البضائع الأساسية التي يحتاجها هذا السلطان لبناء الأسطول وتجهيزه، وقد حددت هذه الاتفاقية أيضا مبلغا ماليا واظبت مملكة السويد على دفعه للمغرب كل سنة بالإضافة إلى الهدايا. ومنذ هذا التاريخ أقام القناصل السويديون في مدن: تطوان، الرباط والصويرة. وقد قربت هذه الاتفاقية بين مملكة السويد وسلطان المغرب الذي حرص على القيام بواجب التهنئة للجالس الجديد على عرش السويد سنة 1771م، الملك جوستاف الثالث. وفي سنة 1773 يصل إلى المغرب سفير سويدي آخر (الماجور سطاندان) محملا بهدايا قيمة من ضمنها مجموعة كاملة من أواني ذهبية لأعداد وتقديم الشاي والقهوة، وقد حظي باستقبال رسمي في بلاط السلطان محمد بن عبد الله. يصف لنا القنصل الدنمركي جورج هوست في مؤلفه حول سدي محمد بن عبد الله تفاصيل مثيرة عن هذا اللقاء ويذكر كيف كان السلطان جالسا في قاعة القصر وأمامه مجسم لكرتين أرضيتين فأشار إلى موقع السويد على الخريطة واستفسر عن حجمها، وبعد حوار مطول مع السفير استجاب لمطالبه ومن ضمنها أن تحظى السويد بنفس التقدير والامتياز الممنوح لإنجلترا وإسبانيا وفرنسا، وخاصة بإعفائها من المبالغ المالية المهمة التي كانت تدفعها للمغرب منذ الاتفاق الأول. فرد السلطان على طلبه بالقبول وبما معناه "أن صداقة ملك السويد تكفي". لم تتوقف هذه العلاقة بين المغرب ومملكة السويد في عهد السلطان محمد بن عبد الله، بحيث تلاحقت السفارات من ستوكهولم إلى المغرب سنة (1777و1785) وكانت كل سفارة تحمل هدايا نفيسة. بالمقابل استمر التجار السويديون في جلب بضائعهم إلى المغرب، ولم يتوقفوا قط عن المطالبة بحماية وتطوير تجارتهم معه حتى بعد وفاة هذا السلطان سنة 1790 وبيعة ابنه مولاي اليزيد، الذي استقبل بدوره سفارة سويدية في شهر غشت من سنة 1791 جددت الاتفاقية المبرمة مع والده. هذه الصفحة من التواصل الدبلوماسي بين البلدين لابد أن تكون اليوم قاعدة لتقريب وجهات النظر بين المغرب ودولة السويد التي نحسبها نحن المغاربة حتى اليوم واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم، فلا نظنها تخالف حقوق المغرب وسيادته على صحرائه لأن التاريخ أثبت هذا الحق منذ زمن بعيد. من مراجع هذا العرض: *عبد الرحمان بن زيدان، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، طبعة 2008، ج3(نص لاتفاقية كاملا). *عبد الهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، من أقدم العصور إلى اليوم، طبعة 1988، المجلد9. . *GeorgHost, Histoire de l'Empereur du Maroc Mohamed Ben Abdallah, Édition la Porte. Collection Mémoire du Maroc. *أستاذة باحثة في تاريخ المغرب الحديث