يوسف الحلوي ولد السلطان محمد بن عبد الله العلوي سنة 1710 م وتوفي سنة 1790 م بحاضرة مكناس وقد تمت له البيعة سنة 1757 م مع أنه اضطلع بمهمة تدبير شؤون البلاد منذ 1746 م بعد أن رجع والده إلى فاس وخرجت عليه قبائل المغرب. وقد جهد السلطان محمد بن عبد الله في إعادة الاستقرار إلى المغرب بعد أن عمت الفوضى وتسلط البربر والعبيد على حواضر المغرب وأفشوا فيها القتل والنهب حتى إن الواحد منهم كان يقف على باب منزل أعجبه فيقول لصاحبه إن السلطان أمرني بأخذ ابنتك ودارك فيفتدي منه صاحب الدار بالمال، وعم القتل حتى سئم الناس وتاقت نفوسهم إلى من تجتمع عليه كلمتهم. يقول الناصري : «لما توفي المولى عبد الله كان الناس قد سئموا الهرج والفتن وأعياهم التفاقم والاضطراب وملوا الحرب وملتهم، وكانت أيامه ولا سيما في أخرياتها كأيام الفترة التي ليس فيها سلطان، فكان ذلك من أقوى الأسباب التي صرفت وجوه أهل المغرب كله إلى بيعة السلطان محمد رحمه الله». كان السلطان محمد بن عبد الله قوي الشكيمة منصرفا عن اللهو والعبث، نشأ نشأة دينية في كنف جدته لأبيه خناتة بنت بكار، فحفظ القرآن وأمهات الكتب الفقهية وتربى على يد صفوة علماء وأدباء عصره. ولعل هذا من أهم الأسباب التي حفزت همته لإنقاذ الأمة من الفوضى. ففي الوقت الذي كان والده يترقب أن تضع الفتنة أوزارها وأن ينتصر العبيد على البربر أو البربر على العبيد أخذ محمد بن عبد الله زمام المبادرة، وكان حكيما في تدبير الخلاف الذي استشرى بين مكونات المجتمع حينها، وقد استشعر العبيد خطورة مخططه فبايعوا ابنه يزيدا وأعادوا البلاد سيرتها الأولى، لكنه تمكن منهم بالحيلة ولم يبطش بهم، إذ دعاهم إلى الاجتماع بدار عربي في بلاد سفيان ثم أمر قبائل الغرب فأخذتهم للخدمة عنوة ، ولما تأدبوا أرجعهم للجيش وكون منهم شوكة قوية للبلاد لا عليها. أما ابنه الذي ما فتئ يؤلب الناس عليه فقد تبرأ منه وكتب البراءة في مناشير علقها في الكعبة ووزعها في المدن وأرسلها لمعاصريه من السلاطين حتى لا يؤويه في بلاده منهم أحد. و بعد أن تم الأمر للسلطان محمد بن عبد الله واستقرت البلاد اتجه إلى بناء جيش قوي يحفظ البلاد من الأطماع الخارجية وبادر إلى تحرير الثغور ورد عدوان المستعمرين. وقد ركز السلطان على صناعة السفن لما لها من دور في الحرب يومئذ، فبنى مصنعا للسفن بالعرائش، فبلغ أسطوله البحري ستين قطعة وعدد بحارتها ستة آلاف، واهتم بأسباب تقوية الجيش أيما اهتمام. يقول الضعيف الرباطي: «وأعظم من هذا كله ما فيه من الوجهة للجهاد وجمع آلاته وجميع ما يحتاج إليه من عدة وعدد، وقد جمع من ذلك ما لا يتفق لأحد ممن تقدمه وسخر الله له السفن في البحر من أهل سلا ورباط الفتح وغيرها». وسهر السلطان على الجيش بنفسه ففي سنة 1763 م أرسل الرايس الحاج التهامي الرباطي إلى السويد لجلب البارود ومستلزمات السفن، وفي سنة 1762 م أرسل الحاج عبد القادر عديل لشراء الذخائر من إنجلترا، ثم أرسل بعثة إلى تركيا سنة 1765 م برئاسة الطاهر بناني لعقد اتفاقات عسكرية وأخرى سنة 1766 م برئاسة العربي المسيري لنفس الغرض، وعقد اتفاقا مع الدانمارك سنة 1181 ه تدفع الدانمارك بموجبه خمسة وعشرين مدفعا كل سنة للمغرب وخمسمائة ريال. وكان من نتائج ذلك أن نشطت حركة الجهاد البحري في عهده وقوي اقتصاد البلاد. يقول الضعيف الرباطي : «كان الرايس من أهل سلا والرباط يقدمون عليه بمراكش بالنصارى الأسرى في كل سنة مثل الرايس العربي المسيري والرايس عواد السلاوي والرايس عربي حكم وغيرهم». وبذلك صار المغرب مرهوب الجانب يخطب وده الإنجليز والإسبان والبرتغال وتهابه روسيا نفسها، فقد أرسلت له روسيا بعثة محملة بالهدايا فرفضها، معللا رفضه بأن روسيا تسيء إلى إخوانه العثمانيين فلا مجال لذلك لعقد اتفاقات معها، بل زاد على هذا فأعان عبد الحميد العثماني على حربها. يقول الرباطي : «ثم إن السلطان سمع بجور النصارى على السلطان عبد الحميد العثماني –أيده الله- فأراد إعانته على الروم وأصدر أمره للحاج المكي على أن يرجع ويتهيأ ليأتي بالسفن هدية من السلطان –أيده الله– للعثمانيين وصار يمد العثماني بالبارود وملح البارود نحو الأربعة آلاف قنطار بارودا ومثلها ملحا». وقد شن السلطان حربا بذل فيها كل ما في وسعه لاستكمال وحدة البلاد فطرد البرتغاليين من الجديدة سنة 1182 ه وخاض حروبا أخرى ضد الفرنسيين في سواحل سلا والعرائش وأسر منهم المئات وغنم قواربهم، ثم ضرب حصارا شديدا على مليلية سنة 1184 ه و أمطرها بوابل من القنابل، فبعث إليه ملك الإسبان يذكره بمعاهدة السلام بين البلدين، فأجابه السلطان بأن المعاهدة تخص البحر لا البر، وكان الإسبان زوروا نص المعاهدة، إذ كان الأصل «بحرا لا برا» فحذفوا «لا» ووضعوا مكانها «و» فأجابهم إلى الصلح مضطرا». ثم أولى السلطان عناية خاصة بالأسرى المغاربة والمسلمين وعمل على فكاكهم. وفي ذلك كتب للإسباني يقول : «إنه لا يسعنا في ديننا إهمال الأسرى وتركهم في قيد الأسر، ولا حجة في التغافل عنهم لمن ولاه الله الأمر وفيما نعلم أنه لا يسعكم ذلك في دينكم أيضا». وراسل ملك الإسبان يسأله أن يحسن معاملة الأسرى المسلمين ريثما تتهيأ له أسباب فكاكهم، فأطلق هذا سراحهم ليكسب وده ويوطد علاقته به، ثم بعث ليفتدي من بقي لديه من أسرى المغاربة فأجابه الإسباني أنه لم يعد لديه غير الأسرى الجزائريين فافتداهم ولم يترك أسيرا مسلما واحدا لدى الأوروبيين حتى بلغ عدد الذين افتداهم السلطان محمد بن عبد الله خمسين ألف مسلم، وكان لذلك أبلغ الأثر في علاقته بالبلدان الإسلامية حيث صارت له مكانة عظيمة بين سلاطين المسلمين فسعوا إليه وتقربوا منه، ففي سنة 1182ه زفت ابنته للشريف سرور أمير مكة وفيه دلالة على عظم منزلته وشفوفه بين سائر ملوك عصره. واستعطفه ملك الإسبان بما لديه من تأثير على السلطان العثمانى أن يسعى في فكاك أسيرة إسبانية من الأسر الإسبانية المرموقة، وقصتها توضح أهمية المكانة التي حظي بها السلطان محمد بن عبد الله بين ملوك عصره، فقد اتصل من فوره بباي الجزائر، لكن الباي تردد وأجابه بأن الأسيرة من سبي العسكر ولا يسعه فعل شيء لأجلها، ولما علم عبد الحميد العثماني بذلك استشاط غضبا ووبخ الباي لأنه رد شفاعة سلطان المغاربة، وأمره أن يعتذر له، وكان مما جاء في رسالة السلطان عبد الحميد لباي الجزائر «إن الواجب عليكم أن تبادروا بإطلاق سراح تلك المرأة وتسلموها إلى سلطان المغرب بدون أي مال حتى ولو كانت ألف امرأة أسيرة لا امرأة واحدة».فالسلطان عبد الحميد لم ينس أيادي سلطان المغرب على العثمانيين والمسلمين كافة، فهو الذي لم يترك أسيرا واحدا لدى الأوروبيين دون أن يلتفت إلى جنسه أو دولته، وقد أنفق في ذلك أموالا طائلة، وهو الذي أعان العثمانيين في حربهم على روسيا بالمال والسلاح، ومما يؤثر عنه أنه أرسل إليهم بستة ملايين دينار ذهبي للاستعانة بها على روسيا. إن العلاقة الدبلوماسية التي ربطت المغرب بباقي دول العالم على عهد السلطان محمد بن عبد الله اتسمت بالحضور القوي للمغرب وبمنافسته للقوى العظمى التي عاصرته، فالميزان الذي احتكم إليه السلطان في كل قراراته هو مصالح أمته الحيوية فلا دنية ولا خضوع، ويكفي المغرب فخرا أن يخطب وده رئيس أمريكا جورج واشنطن، وأن يطلب اعترافه بالفدرالية الأمريكية فيكون المغرب بذلك من السباقين للاعتراف بدولة أمريكا نكاية في قوى الاستعمار المعاصرة حينئذ. ومن مظاهر سيادة المغرب على كل قراراته أنه حين دمرت إحدى السفن الإنجليزية سفينة مغربية احتجز السلطان المغربي قنصل الإنجليز ومرافقيه ردا على العدوان وقطع التموين عن جبل طارق لمدة ثلاثة أشهر وطالب بسفينة أخرى عوضا عن تلك التي قاموا بتدميرها، وحين تعرض للعدوان الفرنسي على سواحل سلا والعرائش أخذ السفن الفرنسية غصبا وقطع علاقاته بفرنسا سنوات إلى أن اعترف الفرنسيون أنفسهم بتضرر اقتصادهم جراء ذلك فبادروا إلى إصلاح ذات البين عبر البعثات الديبلوماسية. إن شغف السلطان بالجهاد البحري لم يثنه عن الاهتمام بالعلم وإصلاح القضاء والعمران وسائر شؤون الدولة حتى وفق في ذلك كله وصارت الدولة على عهده إلى اليسر والرخاء بعدما كان من الفوضى في عهد سلفه. أمر السلطان ببناء فضالة والصويرة وجدد أنفا وأمد الحواضر بما يلزمها من عتاد حربي لرد غارات المعتدين، وقد بلغت الصويرة في عهده أوجها الاقتصادي، ففاقت مداخيلها أربعا وثلاثين ربيعة عام 1187 ه، وبلغت أربعين ربيعة عام 1188ه لتكون بذلك ثالث مدينة مغربية من حيث المداخيل، وكذلك شأن فضالة التي احتلت المرتبة الرابعة بين مدن المغرب. وأسس السلطان ما يفوق ستين مؤسسة بين مسجد ومدرسة موزعة على كل مدن المملكة، واهتم بالعدل لضبط شؤون الرعية وأشرك الوجهاء و العلماء وأهل الفضل في التدبير، فأصدر منشورا لتنظيم القضاء وضبط مناهج التدريس ومراقبة الفتاوى سنة 1203ه، ومما جاء فيه : «فإن القاضي الذي أظهر في أحكامه جورا أو زورا أو ما يقرب من ذلك من الفتاوى الواهية فإن الفقهاء يجتمعون عليه ويعزلونه عن خطة القضاء ولا يحكم على أحد أبدا». وكان بمقدوره إسناد مهمة عزل القضاة لنفسه، لكنه كان مؤمنا بأهمية اضطلاع أهل الحل والعقد بذلك بدلا عنه اعترافا منه بدور العلماء وصيانة لمكانتهم. وأما أئمة المساجد فأوكل أمرهم لأهل الدين والفضل كل في حومته فلهم عزل الإمام واختيار من يرضونه لإمامتهم، ثم اختار جملة من المراجع لتكون مادة التدريس في القرويين وما سواها من معاهد العلم، فكان مما انتقى لطلاب العلم كتاب الله وتفسيره وكتب الحديث والمسانيد والمستخرج منها والصحاح، وفي الفقه المدونة والبيان والتحصيل ومقدمة ابن رشد والرسالة لأبي زيد القيرواني، وفي النحو الألفية والتسهيل، ومن كتب البيان الإيضاح، ومن القواميس لسان العرب وغيره مما يعين على فهم كتاب الله. ودعا قضاة عصره لنقد منشوره هذا وإبداء الرأي فيه فذيله بقوله : «فما كان من صواب أثبتوه وما كان على خطأ اكتبوا عليه بخطوط أيديكم لنرجع عنها، ووجهوا لنا الكناش بعينه، وعليه خطوط أيديكم». إن اهتمام السلطان محمد بن عبد الله بالعلم والعلماء لمما سارت بذكره الركبان فهو نفسه كان عالما ملما. يقول في ذلك معاصره الحافظ أبو محمد عبد السلام بن الخياط الشريف القادري : «قد نظر في المصالح وقام بها قياما لم يقم به أحد من أهل عصره من ملوك الإسلام...وكان إماما من علماء الإسلام له تصانيف تقرأ بالمشرق والمغرب فهو الإمام الموهوب لهذه الأمة على رأس المائة مجددا لها أمر دينها». ومن مؤلفاته: الفتوحات الإلهية ومواهب المنان بما يتأكد تعليمه للصبيان، والجامع الصحيح، والأسانيد المستخرج من ستة مسانيد، واختصار شرح الحطاب على مختصر خليل وغيرها. وقد ازدان بلاطه بخيرة علماء عصره ممن كان لا يقطع في أمر دونهم كأبي حفص الفاسي والتاودي بن سودة والشيخ عبد القادر بو خريص والحافظ أبي العلاء إدريس العراقي. ومما أوثر عنه في إجلال العلماء ودالتهم عليه أنه جلس إلى نخبة منهم يحادثهم وأدار عليهم كؤوس الشاي وكان الوصيف الذي يناولهم الشاي يحمل اسم ميمون فبدأ بالسلطان رغم أنه يجلس عن يساره فنبهه ببيت شعر قائلا : إذا يقول السيد حمدون (يقصد حمدون بن الحاج السلمي) صددت الكأس يا ميمون عنا وكان الكأس مجراها اليمين فقال حمدون نعم وأزيد : ولم تعمل بحكم الشرع فينا كما جلاه خير المرسلينا رسول الله فيما صح عنه من أنه قال ناولها يمينا وأعجب منك ياميمون إذ لم يكن هذا ببالك مستبينا وأنت بمجلس يزهو بعلم لمولانا أمير المؤمنينا وهذا يوضح أن الكلفة كانت مرفوعة بينه وبين أهل العلم فلا يتردد أحدهم في تنبيهه إلى غلطة متى صدر عنه ما يوجب التنبيه فيما دق أو جل من الشؤون، ثم إن ولعه بالعلم والعلماء لم يكن قاصرا على ما اتصل بالعلوم الشرعية فحسب، بل كان مهتما بالعلوم الكونية كذلك وتجده لذلك يرسل البعثات خارج المغرب للاستزادة من علوم العصر والاغتراف من معينها، فيرسل إلى ولاته وعماله يأمرهم بموافاته بمن ظهر نبوغه من طلبة العلم لديهم، وقد أرسل مرة في طلب مجموعة من طلبة الحساب واختبرهم وأرسل لعامله يوصيه بهم «وبعد فقد وصلنا كتابك وصحبته طلبة الحساب الذين وجهت بقصد اختيارهم عملا بأمرنا الشريف فوجدنا أثر النجابة لائحا على الستة المذكورين بالطرة». وكذلك شأن الدول يعظم ما قربت العلماء وطلبة العلم وأدنتهم ويخبو بريقها ما ازدرتهم وأقصتهم ولم تعرف فضلهم. إن الدولة بالمغرب في عهد السلطان محمد بن عبد الله عرفت قمة مجدها، فمن سنة 1757م إلى 1790 م ظل الرجل في جهاد متصل أفادت الأمة جمعاء من ثماره اليانعة ونعمت بالاستقرار والعدل ما شاء لها الله أن تنعم على أن موازين القوة في العالم يومئذ قد بدأت تميل في اتجاه الغرب لتعود البلاد سيرتها الأولى بعيد وفاته، فحال الأمم إما في ازدهار مطرد أو انهيار متسارع تبسط هذه نفوذها على محيطها فتقوى وتنكمش الأخرى فتضعف. وعبر تاريخ المغرب الحافل بالأمجاد استفادت الأمة من غلبتها على عدوها واستفاد من انكسار شوكتها وخفوت بريقها، ولا أقول الغلبة العسكرية فحسب، بل أقصد كل الميادين. ولا شك أن السلطان محمد بن عبد الله وعى هذه السنة الكونية فأقام للعلم صرحا شامخا ووظف سواعد المغاربة في تقوية بنيانه فلم يكن مستغربا أن يسمي زعماء أمريكا المغرب في أيامه ب«الإمبراطورية الشريفة» .