أصبحت قضية الأسرى من القضايا العربية والعالمية المؤرقة للأمم والشعوب والحكومات، بما يمليه الواقع من حروب وتدمير هنا وهناك، مما يستمد الحديث عنها أهميته الكبرى في هذه الأيام، خاصةً ما كشفت عنه فضيحة معاملة الأمريكان لأسرى العراق في سجن أبو غريب، الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر بوش الصغير، وعرت زيف الشعارات التي تحملها الدول المتقدمة الغازية. وقضية الأسرى ليست جديدة بقدر ما هي متجددة ومتكررة من جراء ما يشهده العالم من تطورات وتصعيد رهيب نحو الحروب في كل بقعة مسلمة. وهذه الخطبة تظهر الجانب الإنساني لهذا الدين الذي بات متهمًا بالإرهاب والعدوانية، وما أكثر الجوانب الإنسانية التي يجب أن تظهر في كل عصر، ووجوب إظهارها وتبيينها يتأكد في هذا العصر أكثر وأكثر. تعريف الأسير لغة واصطلاحًا قال ابن منظور: يقال: أَسَرْت الرجلَ أَسْرًا وإِسارًا، فهو أَسير ومأْسور، والجمع أَسرى وأُسارى، وتقول: اسْتَأْسِرْ أَي كُنْ أَسيرًا لي، والأَسيرُ: الأَخِيذُ، وأَصْله من ذلك. وكلُّ محبوس في قِيدِّ أَو سِجْنٍ: أَسيرٌ. وقوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان: 8). وعرف الماوردي في الأحكام السلطانية الأسرى في الاصطلاح بقوله: >هم المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياءً، وهذا التعريف يخص حالة الحرب فقط، لكن بتتبع استعمالات الفقهاء لهذا اللفظ يتبين أنهم يطلقونه على كل مَن يظفر بهم من المقاتلين ومَن في حكمهم، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حرب فعلية، ما دام العداء قائمًا والحرب محتملة. ويطلق الفقهاء لفظ الأسير أيضًا على مَن يظفر به المسلمون من الحربيين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمان، وعلى من يظفرون به من المرتدين عند مقاتلتهم لنا، كما يطلقون لفظ الأسير على المسلم الذي ظفر به العدو. (راجع مثلاً: مجموع فتاوى ابن تيمية: 28 / ,355 وبداية المجتهد: 1 / .282 دار الفكر بيروت). مشروعية الأسر وحكمته والأسر مشروع في الإسلام، وتدل على مشروعيته النصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله سبحانه (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) (محمد: 4) ولا يتنافى ذلك مع قول الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) (الأنفال: 67)؛ لأنها لم ترد في منع الأسر مطلقًا، وإنما جاءت في الحث على القتال، وأنه ما كان ينبغي أن يكون للمسلمين أسرى قبل الإثخان في الأرض، أي المبالغة في قتل الكفار، والحكمة من مشروعيته كسر شوكة العدو، ودفع شره، وإبعاده عن ساحة القتال، لمنع فاعليته وأذاه، وليتمكن من افتكاك أسرى المسلمين به. معالم معاملة الأسرى في الإسلام: وضع الإسلام معالم هادية لمعاملة الأسرى منذ أربعة عشر قرنًا، أي قبل أن نسمع بمعاهدات دولية واتفاقات عالمية في (جنيف) وغيرها، حري بالدنيا كلها أن تقف أمامها خاشعة متأملة لترى ما للإسلام من تعاليم نبيلة وإنسانية كريمة، ذلك أن الرسول عقب غزوة بدر، وبعد أن فرق الأسرى على أصحابه ليحرسوهم في رحلة العودة إلى المدينة أذاع بيانًا عامًا صار قاعدة كلية في التعامل مع الأسرى، وهو استوصوا بهم خيرا!!. أولاً: إطعام الأسير بالرغم من أن المسلمين الأوائل كانوا يعيشون في ضيق من العيش، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإطعام والإيثار في ما بينهم ولأسراهم، فحظي المشركون وأعداء المسلمين الأسرى من الطعام في ظل الإسلام بما لم يحظَ به المسلمون أنفسهم، والأصل في ذلك قول الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان:8). قال الجصاص: >وهذه الآية تدل على أن في إطعام الأسير قُربة، ويقتضي ظاهره جواز إعطائه من سائر الصدقات< (أحكام القرآن: 5 / .370 تحقيق محمد الصادق عرجون. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1405ه). ويروي الإمام الطبري في تاريخه هذه الحادثة الباهرة: كان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخ مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال فقال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: >شد يديك به.. فإن أمه ذات متاع لعلها أن تفتديه منك<.. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدموا غذاءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر كان الخبز عند العرب هو أفضل الطعام على الإطلاق، حتى لا يتبادر إلى الذهن أن التمر أفضل فينعكس المعنى، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي، فأردها على أحدهم، فيردها عليّ ما يمسها (تاريخ الطبري: 2/.39 دار الكتب العلمية. بيروت. ط. أولى. 1407ه). إذن فإطعام الأسير، على الرغم من أنها معاملة إنسانية بحتة، إلا أن الإسلام أضفى عليها نوعًا من القدسية والعبادة، لأن فيها طاعة الله وطاعة رسوله والقربى إلى الله. ثانيًا: كساء الأسير: والكساء عمومًا أمر واجب لستر العورات، وعدم إشاعة الفاحشة في المجتمع، وأوجب الشرع كسوة الأسير، وستر عورته، وقد عنون الإمام البخاري بابًا كاملاً أسماه (باب الكسوة للأسارى)، وهو دليل قائم على أهمية ما يحتويه المعْلم من معنى، قال: >حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أُتي بأسارى وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصًا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقْدُر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه<. ثالثًا: مأوى الأسير: والمأوى كذلك من ضرورات الحياة، وإذا صحَّ في حق بعض الحيوانات أن تحيا بلا مأوى، فلا يصح في حق الإنسان أن يعيش بغير مأوى، وقد كفل الإسلام للأسير في المأوى ما كفله للإنسان كافةً، وإضافةً إلى تأمين مأكله ومشربه وملبسه ضمن الإسلام مسكنه الصحي اللائق بإنسانية الإنسان. وكان هذا المسكن إما في بيوت الصحابة، فعن الحسن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: >أحسن إليه< فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه (صفوة التفاسير للصابوني: 3/493)، وإما في المسجد، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ >بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...< الحديث (رواه مسلم كتاب الجهاد والسير. باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، وانظر. صحيح ابن حبان: 4/42) رابعًا: عدم تعذيب الأسير وإكراهِه: وتعذيب البشر عمومًا وإكراههم أمر محظور في شريعة الإسلام، إذ الإنسان له حرمة محفوظة، بل حرمته أشد عند الله من الكعبة، وقد كفل الإسلام للأسير ذلك وحفظه من الأذى. وكيف يحض الإسلام على إطعامه وسقيه ويوفر له المأوى المناسب والكسوة المناسبة ويرتِّب الجزاء الكبير على ذلك ثم يستبيح تعذيبه ويهدر كرامته؟! يروي الإمام السرخسي عن أسرى بني قريظة حينما كانوا في حر الشمس أنه: >جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حتى قتل من قتل منهم في يوم صائف، وسُمي ممن قتل منهم بين يدي رسول الله في المغازي: حيي بن أخطب، وكعب بن أسيد، وجماعة، فلما انتصف النهار قال النبي عليه الصلاة والسلام: >لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح، قَيِّلوهم، واسقوهم حتى يبردوا..<. (شرح السير الكبير: 2/.591 تحقيق صلاح الدين المنجد. الشركة الشرقية لاإعلانات 1971م) وتحريم تعذيب الأسرى يشمل عدم تعذيب الجرحى منهم بطريق الأولى، بل إذا كان الجريح لا تعينه قوته على المقاومة مُنع قتله وأُمِر بأن يبقى ويداوى ويفدى أو يُمَن عليه (راجع مثلاً شرح مختصر الخليل: 8/,60 الأشباه والنظائر للسيوطي: 52612). وقد كان من المعتاد في الأزمنة الغابرة أن يُمثِّل المنتصر بجثث عدوه المغلوب بقصد التشفي، أما في الإسلام فقد نهى عن ذلك تمامًا، بل إن عموميات الأدلة الشرعية في الإسلام توصي بالإحسان إليهم كما مر. ومن الإنسانيات العجيبة أن شريعة الإسلام لا تجيز إكراه الأسير للحصول على معلومات عن العدو: >قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رُجيَ أن يدل على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك<. (التاج والإكليل: 3/.353 دار الفكر. بيروت. ط. ثانية. 1398م) خامسًا: محادثته والرد عليه وتلبية ما يريد: ومن معالم معاملة الإسلام الطيبة للأسير أن يحدثه المسلمون، ويردوا على استفساراته في حدود سياسة الدولة، وأن يلبوا رغباته في حدود الشرع، لأن تركه وإهماله بعدم الرد عليه نوع من الإهانة وإهدار الكرامة التي نهى عنها الإسلام في معاملة الأسير، وحوارات النبي مع الأسرى معروفة ومشهورة. سادسًا: تبعية الأسير: الأسير في ذمة آسره لا يدَ له عليه، ولا حق له في التصرف فيه، إذ الحق للتصرف فيه موكول للإمام، وعليه بعد الأسر أن يقوده إلى الأمير ليقضي فيه بما يرى، وللآسر أن يشد وثاقه إن خاف انفلاته، أو لم يأمن شره، فمن حق المسلم أن يمنع الأسير من الهرب، وقد كان الرسول عليه السلام يمن على بعض الأسرى، ويقتل بعضهم ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسرى المسلمين، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة، كما قال ابن القيم في (زاد المعاد). وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيره بنفسه، إذ الأمر فيه بعد الأسر مفوض للإمام، فلا يحل القتل إلا برأي الإمام اتفاقًا، إلا إذا خيف ضرره، ولهذا وجدنا الرسول يشدد على خالد، ويبرأ إلى الله مما فعل، إذ أمر مَن معه من الجند أن يقتلوا مَن معهم من الأسرى. سابعًا: إعادة الأسير: تظل رعاية الإسلام للأسير قائمة منذ وقوعه أسيرًا في أيدي المسلمين إطعامًا وإسقاءً وكسوةً ومأوىً ومعاملةً طيبةً، حتى يعود إلى قومه ويتسلمه أهله. يروي الإمام الطبري في تاريخه وقوع ابنة حاتم الطائي في سبايا طيء، فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأةً جزلةً، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك... قال: ومَن وافِدُك؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: الفارّ من الله ورسوله... قال: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، قالت: فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني، وأعطاني نفقةً، فخرجَت معهم حتى قدمت الشام على أخيها ليسألها: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا فإن يكن الرجل نبيًا فالسابق إليه له فضيلة (راجع تاريخ الطبري: 2/188187). وبهذه الحادثة سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المن على الأسير، تأمينَ الطريق الذي سيرجع منه الأسير، وتزويده بالنفقة والمال الكافي، وتوفير الكسوة والرفقة الآمنة له، حتى يصل إلى قومه سالمًا آمنًا. بعد هذا البيان لكيفية معاملة الإسلام لأسرى الحرب أترك للقارئ الكريم باب التفكر والتدبر في صفحة الواقع الدامية، ليقارن ذلك بما فعلته أمريكا مع الهنود الحمر، وما تفعله اليوم مع أفغانستان والعراق، وينظر إلى أسرى (جوانتانامو)، وأسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون الصهيونية، وأسرى المجاهدين الكشميريين في السجون الهندوسية، وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا... وغيرهم من الأسرى المستضعفين الذين يعانون التعذيب والتشويه، وصدق الله القائل... (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا). (الكهف:10) المصدر: إخوان أن لاين