"طبيعي جدا أن يسعى المخزن للتحكم فينا من الداخل، واللوم يقع علينا إذا نحن فتحنا له المجال لذلك". هذه ليست مقولة تاريخية لشهيد اليسار المغربي المهدي بنبركة ولا حتى لمحمد اليازغي أو المقاوم بنسعيد آيت ايدر أو الأستاذ المناضل والفاضل عبد الرحمان بنعمرو، هذا تصريح لرئيس حكومة المملكة المغربية سنة 2015، الأستاذ عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية. تصريح غاية في الجرأة من مسؤول في قلب مربع الحكم والتسيير وليس، مع الأسف، من معارض. (جواب عبد الإله بنكيران على سؤال للزميل الصحافي اسماعيل بلا وعلي بمجلة "زمان" عدد 21 شهر يوليوز 2015). كل ما تحدث بنكيران إلا وفاجأ الجميع بكلامه. صدقوني، فالرجل لا يهدي .. كل ما هناك أن بنكيران تيقّن كليا أن فن السياسة ومفتاح علمها هو قول "لا" وبدون "لا" لا معنى للسياسية. جّربها الراحل عبد الرحيم بوعبيد في قضية الصحراء، وجرّبها الأستاذ محمد بوستة في تعامله مع إدريس البصري، وجرّبها اليوسفي في 1993، وها هو بنكيران، الذي نهل من الكبار ومنهاج الكبار وسار على النهج (ولا يزال)، قد حقّق لحزبه ما كان، حتى الأمس القريب، ضربا من الخيال. فيما ترك لغيره ثقافة "النهش" وهي ممارسة صبيانية وهواية الصغار والجري والخوض في الصغائر. واحدة من أسباب نزول هذا التقديم محاولة قراءة "متأنية" لنتائج انتخابات 2015 بكل مراحلها ومخرجاتها. طبعا، هي أول انتخابات بعد دستور 2011 وحراك 20 فبراير. فكانت النتيجة ما يلي: حزب العدالة والتنمية أخد مكان حزب الاتحاد الاشتراكي وانتهى الكلام حزب العدالة والتنمية صمد. حزب العدالة والتنمية انتصر. كان بصفر عمودية وصفر عضو في مجلس المستشارين، بل كان قاب قوسين أو أدنى من الحل، ها هو اليوم يرأس الحكومة وتفوق منذ أربع سنوات على كل الأحزاب في مجلس النواب. له اليوم حضور وازن في الغرف المهنية والتمثيلية النقابية وله أيضا فريق بالغرفة الثانية التي كان يسيطر عليها كليا حزب الأصالة والمعاصرة. حزب العدالة والتنمية تمدّد بشكل كبير في كل المؤسسات، وحتى الإدارات والشارع، عموديا وأفقيا. حزب بنكيران هزم عراقيل حزب الأصالة والمعاصرة، وأحرج حليفه الأساسي حزب الاستقلال في أول منعرج انتخابي. حزب العدالة والتنمية صار يحكم ويسير مجالس مدن وعمالات وأقاليم ونال 100 في المائة من مجالس المقاطعات بما فيها تلك المسيّرة سلفا من طرف "البام". حزب بنكيران لم يقض على حزب "البام" بل أحجم قوته، وكشفه للرأي العام الوطني والدولي. حزب بنكيران فاز بكل شيء مع كامل الأسف، لنا أن نقول إنه حطم كليا معاقل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أكبر الأحزاب المغربية، والذي صار اليوم من أحزاب "الخردة". إنها الحقيقة. حزب العدالة والتنمية حزب واقعي، موجود على الأرض. مؤكد أنه صغير، لكنه منظم تنظيما محكما. فلو فعل محمد يتيم في حزبه ما فعله الأموي، وفعل أفتاتي ما فعله محمد الساسي في حزبه، وفعل خالد البوقرعي ما فعله محمد حافيظ، وفعل بوانو ما فعله إدريس لشكر، لما قامت قائمة لحزب العدالة والتنمية. بنكيران وعى الدرس جيدا. المسلسل الانتخابي مكّن حزب العدالة والتنمية من التواجد في كل المؤسسات وبلا استثناء، والضحية اندثار وتحلل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. أما حزب الاستقلال فهو الحزب المغربي الوحيد الذي من حقه حمل صفة "الأصالة والمعاصرة" دون غيره، حزب سلفي وطني ومنفتح. قوته في جهاز المفتشين (أشبه بتنظيم مغلق) وما اللجنة التنفيذية إلاّ شكلية وواجهة سياسية. النتيجة الأولى: حزب العدالة والتنمية حقق كل شيء وأكثر بكثير مما كان يحلم به، وحزب الاستقلال، رديفه وحليفه في سعيه ومبتغاه، خرج منتصرا. وحده الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الضحية في بداية المسار الانتخابي ونهايته. حزب الأصالة والمعاصرة.."الوجه القبيح" للحياة الحزبية المغربية؟ كان الغرض من حركة لكل الديمقراطيين جمع شتات اليسار المغربي لتعويض ترهل وتفسخ حزب الاتحاد الاشتراكي، خاصة بعد استقالة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. حاولت الحركة جمع كل الغاضبين من اليسار ووزعت عهودا وأحلاما وآمالا ومواقع، والعراب هو "الياس العمري". الذي لم تنتبه إليه أطماع المهرولين والمحبطين هو أن هدف الحركة كان هو قرصنة تاريخ اليسار المغربي، خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وتبخيس قياداتها. البداية كانت بإطلاق خطاب تجديد النخب وإنهاء تحكم العائلات ونهاية الكتلة الديمقراطية، بعدها، وأمام معطى سياسي جديد، (حزب "البيجيدي")، وفي رد فعل غير محسوب، تقرّر إنشاء حزب جديد غايته "منع الإسلاميين" من الوصول للحكم بكل الطرق، بما فيها استعمال مقدرات الدولة. ماذا كانت النتيجة؟ أولا: الحزب الذي أرادوا دفنه في المهد وحتى حلّه، صار هو سيد المشهد الحزبي. ثانيا: دفن الماضي والسطو عليه لم يفلح إلا مع "انتهازيي وأغبياء" حزب الاتحاد الاشتراكي، وليس مع حزب الاستقلال. ومن مفارقات ذلك الزمن البئيس، أن عبد الله القادري قاوم أكثر من غيره من قيادات الأحزاب وفضح كل ما يحاك؟ اليوم، ومع ظهور نتائج انتخابات مجلس المستشارين، يمكن القول إن حزب الأصالة والمعاصرة خسر مرة أخرى. نعم خسر في فرملة حزب بنكيران، وخسر في السطو على حزب الاستقلال، ونجح فقط في تدمير كلي، وإلى غير رجعة، لحزب الاتحاد الاشتراكي. حزب إلياس العمري مطمئن فقط إلى نجاحه على مستوى جبهة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ودونها لا شيء. وسبب نجاحه في ذلك بعض العلاقات الشخصية (أكرر الشخصية) وليس عبقرية إستراتيجية. ولكن بالمقابل انفضح اسم إلياس، وتم جره جرا إلى مستويات المسؤولية والتدبير على رأس جهة طنجة (عاصمة الشمال) ، وهنا سيكون مكشوفا أكثر من أي وقت مضى. وهنا بالضبط ستظهر كفاءة الرجل من عدمها، في العلن والتدبير وليس الكولسة. ما فعله "البام" باسم السلطة والدولة كان معيبا جدا، سواء مع حزب الأحرار وحزب القادري أو مع حزب الاتحاد الاشتراكي، وحتى حزب الاستقلال. كل قوة الحزب هي تسويق الوهم والحضور الإعلامي، والعماري الوحيد من زعمائه الذي يتجول في وسائل الإعلام سمعية كانت أو مرئية أو مكتوبة. وهو كيان هجين فاقد للبوصلة والمصداقية. حزب انتقامي بلا مشروع. حزب حقود بدرجة يصعب تصديقها. إذا كان بعض قادة "البام" طالبوا بحل حزب العدالة والتنمية، وطالب بعض قادة الحزب "السلفي" "البي جي دي" بحل "البام"، فإن واقع الأمور وتوقعات 2016 تفيد بأن الحزبين وجهان لعملة واحدة، والضحية واحدة: الاتحاد الاشتراكي والاستقلال. مشهد حزبي متعفن وخطاطة "البديل" المشهد الحزبي المغربي معاق ومصاب بأعراض مرضية وأعطاب مزمنة. زمن الكتلة والوفاق انتهى. زمن التقاطبات الثانية ولى. نحن اليوم أمام مشهد جديد يحتاج نخبا جديدة كليا ومنطلقات عملية جديدة. كليا رفع العتبة إلى 10 في المائة مدخل لفرز مشهد حزبي حقيقي عماده ستة أحزاب وثلاث كتل. إعادة النظر في الدستور الجديد و نمط الاقتراع والتقطيع الترابي ولوائح الناخبين وحتى كوطا الشباب والنساء. ما تبقى من مهمة "البام" الحقيقية هي دمج حزبي الاتحاد الدستوري والأحرار في حزب واحد، وبالتالي العودة إلى إحدى الوظائف الأولى والتقليدية لهكذا نوع من الكيانات القريبة جدا من السلطة والإدارة، واعتبار هذا القطب كيانا وسطا بين اليسار واليمين، وحزب اليمين المحافظ، بقيادة حزب العدالة والتنمية، مقابل حزب يساري جديد. هنا ربما ستكون لحزب "البام" وظيفة طبيعية؟ التحكيم بين ثنائية قطبية غير واضحة إلى اليوم. وما دون ذلك لَهْو واسترزاق وتبخيس للعمل السياسي. فلا دولة قوية بدون أحزاب قوية، ولا مستقبل لنا بدون نخب متنوعة ذات حرية ومصداقية. اللعب السياسي اليوم بات خارج الحدود، ومنتوجنا الحزبي المستخرج من خطاطات الأمس يجب "ضمسه" والتفكير في البدائل الجدية بدل اللعب في دائرة فارغة، وهذا يتطلب إبداعا "عظيما" بعيدا عن كل ارتجال أو نرجسية. خلاصة: الكثير من الناس ينظرون إلى حزب "العدالة والتنمية" على أنه "موجة عابرة"، وهذا خطأ في التحليل. وآخرون يعتقدون أن "البام" هو الحل والماسك بكل الخيوط، وهذا خطأ أيضا. وآخرون يعتقدون أن "قتل الاتحاد الاشتراكي والاستقلال" فيه منافع للناس. والحقيقة أن الطبقة السياسية مشتتة ضائعة، وأننا نواجه تحولا مبلقنا للمشهد الحزبي لم يسبق للبلد أن عاشه، ولن يستفيد منه أحد. لا شك أن انتخابات مجلس النواب سنة 2016 ستحافظ على "ستاتيكو" النتائج المعلن عنها في سنة 2015 بكل مراحلها الانتخابية، هيمنة مطلقة لثلاث أحزاب: الاستقلال، العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، نفس الوجوه في النقابات والغرفة الثانية والجهات والبلديات والمقاطعات ومجالس العمالات والأقاليم. نحن أمام نسبة تفوق 50 في المائة من "الطحالب الحزبية" العتيقة التي تسببت في مآسي الأمس، وهاهي تعود، بكل نظام وانتظام واطمئنان، إلى دواليب المؤسسات المنتخبة؟ هي كارثة فعلا؟ أين الشباب والنساء؟ أين العمود الفقري للحراك المغربي ومخرجات دستور 2011 ، لا شيء يذكر، لقد عادوا أجمعين (تقريبا) إلى مواقعهم آمنين مطمئنين، وهذه المرة بشكل مروع أكبر. الأحزاب المغربية تحتضر وانتهى زمن وجودها الافتراضي بشكلها الحالي. وهنا بالضبط نجدد السؤال: أين البديل؟ الجواب المباشر: لا بديل إلا في يسار جديد، شاب وقوي ومستقل، ذي مصداقية وبعيد كليا عن "هلوسات يسارية حزب البام". يسار لا يريد الانتفاع بقدر ما يريد ممارسة السياسية بقواعدها. يسار يستخرج مصطلح "المخزن" من "الخابية". يسار يتفنن في قول لا. يسار لا يتاجر بالشعارات من أجل المواقع والمناصب والامتيازات. هو إذن يسار الشعب المنصت لمشاكله، المهتم بقضاياه. يسار الأزقة والدروب وليس يسار الطائرات. يسار الوضوح وليس يسار التدليس والصفقات. حزبا "البام" و"البي جي دي" سيتحالفان لكي لا يرى هذا اليسار النور. هي إذن مهمة كل اليساريين بهذا البلد، دون نوستالجيا مرضية ولا استنتاج بشع، وبضرورة تجاوز مرحلة البكاء على الأطلال. يسار يدافع عن حقوق الشعب في التعليم والصحة والسكن والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وليس معارك الإرث ونواقض الوضوء والتبجح بمهرجان "البيرة" والمثلية وإفطار رمضان علنا. يسار الحرية والوعي والتحرر من ثقافة "قريش" والتدافع المؤسساتي وليس يسار "قليب الطبلة" و100 تدخل و1000 نقطة نظام. يسار مغربي خالص من قلب الشعب المغربي وإليه. يسار الأفكار والأطر وليس يسار "تعميق النقاش". إلى حدود 2015، وفي عز سنة انتخابية مصيرية، كلّفت الكثير من الجهد والمال والنقاش والتدابير والترتيب، يمكن القول إن اللعبة انتهت ولم نفلح في دفن وجوه البؤس والشقاء، لقد عادوا، وبقوة، والضحية هي قتل آمال شباب وأطر ونساء هذا البلد. "البي جي دي" انتصر و"البام" لم يمت والاستقلال لم ينهزم. ووفق هذا المخطط والنتائج، فلن تخرج نتائج انتخابات مجلس النواب سنة 2016 وتشكيل الحكومة المقبلة عن هذا الإطار. قطب اليسار والشباب والنساء وحده من تحالف ضده الجميع .. ووحده من تكالب على نفسه دون غيره من كل التنظيمات ..وهو وحده البديل ..بكل صدق. (*) صحافي وكاتب ومحلل سياسي