بعد استقلال المغرب عام 1956، اشتد الصراع بين المؤسسة الملكية والمعارضة المنبثقة عن الحركة الوطنية حول طبيعة النظام السياسي المغربي ما بعد الاستقلال. ورغم اتفاق الطرفين - الاتفاق الذي برزت أولى معالمه أثناء توقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944- حول "الملكية الدستورية" كشكل للنظام، إلا أن الاختلاف ظهر في ما بعد حول مسألة التأويل لشكل النظام السياسي المتفق حوله. ومنذ تلك المرحلة، وإلى حدود نهاية السبعينيات، وفي ظل تنامي التنظيمات الماركسية، لجأ النظام السياسي إلى إستراتيجية "الحرب بالوكالة" لتحجيم قوى اليسار، وذلك عبر دعم الإسلاميين، ومدهم بكافة الوسائل المادية وغير المادية، كان آخرها إدخال جماعة "العدل والإحسان" الإسلامية إلى الجامعة المغربية "لأسلمتها"، والقضاء على ما تبقى من فصائل الحركة الماركسية اللينينية. بعد ظهور مؤشرات تنم عن ضعف قوى اليسار بمساهمة عامل دعم الحركة الإسلامية، بدأت هذه الأخيرة تتقوى وتنغرس في النسيج الاجتماعي المغربي بعد استغلالها لمجموعة من العوامل: فشل خطاب اليسار وتنامي الخطاب الديني، وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.. لتقدم بعد ذلك على قلب "الطاولة" على النظام السياسي وتخرج من كنفه. وكان أبرز مؤشر على ذلك أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، التي تورطت فيها عناصر بارزة من هذه التنظيمات، لتجابهها السلطة بشكل عنيف بعد تنفيذ موجة من الاعتقالات والمتابعات، حفاظا على أمن النظام العام. لكن مجيء دوافع إقليمية ومتغيرات دولية (الحراك العربي ووصول الإسلاميين إلى السلطة) غير تعاطي النظام السياسي مع الحركة الإسلامية في المغرب، لتتحول إلى صمام أمان لتفادي سيناريوهات ما عرفته النماذج الثورية العربية، ورهان استراتيجي لشرعنة أطروحات أيديولوجية رسمية. في ظل هذا التجاذب، والتغيير في المواقع، ما هي طبيعة العلاقة التي تجمع بين النظام السياسي والإسلاميين في المغرب؟. بداية تجب الإشارة إلى أن الإسلاميين في المغرب لا يحملون المواقف والمواقع نفسها تجاه النظام السياسي، لذا سنحاول في هذا المقال الاقتصار على التطرق للعلاقة التي تربط بين الإسلاميين المعتدلين (حزب العدالة والتنمية) والنظام السياسي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سنرصد أيضا طبيعة العلاقة التي تربط النظام السياسي المغربي بالإسلاميين الراديكاليين (جماعة العدل والإحسان) . أولا: حزب "العدالة والتنمية" والنظام السياسي: من الاحتواء إلى الإزاحة إن فهم جوهر العلاقة التي تربط النظام السياسي في المغرب مع باقي الفاعلين الآخرين تقتضي إدراك مركزية هذا النظام داخل النسق السياسي المغربي، ولعل "جون واتربوري" في كتابة "أمير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية بالمغرب" تناول هذه المسألة، وفسرها من خلال اعتماده الأطروحة الانقسامية التي تقول إن الملكية في المغرب هي التي تتحكم وتضبط المشهد السياسي، وذلك بصنع أحزاب سياسية و"بلقنة" أخري عبر خلق صراعات وصدامات أفقية، حسب الظرفية والسياق. ومن هذا المنطلق ظل النظام السياسي المغربي ينظر دوما إلى الأحزاب السياسية القوية منافسا له في مشروعيته وشرعيته، فقد حدث أن حارب الأحزاب السياسية اليسارية لأنها نافسته في شعبيته، كما حارب أيضا الأحزاب والتنظيمات الإسلامية لأنها نافسته في مشروعيته الدينية. أما بالنسبة لحزب "العدالة و التنمية "سليل حركة" التوحيد والإصلاح "فقد تأسس عام 1998 بعد خروجه من رحم "الحركة الشعبية الدستورية"، تبنى المرجعية الإسلامية، وكان على وشك أن يتعرض للحل من طرف السلطة بعد أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، ظل معارضا لمدة ليست بالقصيرة، لكن تم ترويضه في ما بعد من طرف النظام السياسي الذي نهج ما بات يعرف بإستراتيجية "الاحتواء والضم". تبدو العلاقة التي تربط بين حزب" العدالة والتنمية" والنظام السياسي في المغرب علاقة تحالف ظاهريا، لكن تتخللها بوادر التنافس باطنيا - خاصة أن طرفي المعادلة يتقاسمون المرجعية الدينية رغم عدم تكافؤ موازين القوى بينهما - رغم إظهار الحزب الإسلامي عكس هذا من خلال خطابه السياسي الذي يلخص المقاربة التي ينهجها تجاه النظام السياسي، والمتمثلة في بناء علاقة ثقة على الأقل في المرحلة الحالية التي يقود فيها الحزب الائتلاف الحكومي . إن هناك اقتناعا للحزب الإسلامي بأن نجاح العملية السياسية برمتها يمر عبر قنطرة التعاون مع النظام السياسي، مستفيدا من نتائج تجربة اليسار السابقة، ليكون بذلك قد نهج نهجا براغماتيا حفاظا على مصالحه الآنية والإستراتيجية. أما من جهة النظام السياسي فإعادة ترميم العلاقة بينه وبين الحزب الإسلامي لم يكن انعكاسا لقناعة سياسية معينة راسخة بقدر ما كان نتاجا لانعكاسات الحراك العربي في حالته المغربية. فمستقبل العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والنظام السياسي في المغرب يحكمه منطق موازين القوى الراجحة لكفة النظام السياسي، كما يحكمه أيضا استحضار السياق التاريخي المتمثل في نمط تعامل النظام السياسي مع الأحزاب والتنظيمات السياسية، خاصة بعد الاستقلال. فليس مستبعدا أن يعيش الحزب الإسلامي ما عاشه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إبان فترة التسعينيات (مع اختلاف في الظرفية والآليات) بعد إجهاض تجربة عبد الرحمان اليوسفي الحكومية، وتعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى كتكنوقراط مقرب من القصر. ولعل بوادر هذا التوجه (الإزاحة) ظهر من خلال مجموعة من المؤشرات؛ كلجوء مستشاري الملك إلى عقد شراكات مع دول الخليج، تهميش وزراء الحزب الإسلامي، الموقع الذي احتله حزب الأصالة والمعاصرة المقرب من القصر في الانتخابات الجماعية والجهوية التي أجريت مؤخرا...ليكون بذلك حزب العدالة والتنمية قد نفذ دوره، وفقد "عذريته"، وتقادمت صلاحياته بعد مرور موجة "الربيع العربي" ...لذا لم يبق للحزب الإسلامي سوى انتظار وصول الاستحقاقات التشريعية القادمة العام المقبل، والقبول بعملية الإزاحة ليترك مكانه لحزب سياسي آخر (الأصالة والمعاصرة) للقيام بنفس الدور ... ثانيا: جماعة العدل والإحسان والنظام السياسي: استمرار في العلاقة الصدامية تأسست جماعة العدل والإحسان عام 1987، ومنذ تأسيسها تبنت موقع المعارضة الجذرية للنظام السياسي، أما مشروعها السياسي فهو تأسيس دولة الخلافة على منهاج النبوة كما هو متعارف عليه في كتابات زعيمها الروحي عبد السلام ياسين الذي توفي مؤخرا . تبدو العلاقة بين جماعة "العدل والإحسان" والنظام السياسي في المغرب علاقة صراع بين جماعة ترفض شرعية النظام الحاكم وتعتبره نظاما سلطويا، مقابل رفض النظام أيضا للتوجه الراديكالي الذي تنهجه الجماعة. فما من مرة حاول هذا الأخير (النظام السياسي)، وبكافة الاستراتيجيات والتكتيكات جر الجماعة الإسلامية لتأسيس حزب سياسي وممارسة السياسية من داخل النسق الرسمي، وذلك لاحتوائها كباقي التيارات الإسلامية الأخرى، لكنه جوبه من طرف أعضاء الجماعة بالرفض القاطع وعدم قبول الدخول في اللعبة السياسية في ظل الشروط الموضوعية الحالية، مستفيدين من فشل تجارب دخول الجماعات الإسلامية الأخرى إلى الحقل السياسي الرسمي، كالسلفيين الذين تقاطروا مؤخرا على حزب "النهضة والفضيلة" ذي المرجعية الإسلامية من جهة أخرى شدد النظام السياسي التضييق على الجماعة في العديد من المحطات والمناسبات، خاصة أثناء خرجاتها الجماهيرية التضامنية مع القضايا القومية، والتي تستغلها وتلجأ إلى استعراض عضلاتها وإعطاء رسائل مشفرة للنظام، مضمونها أن الجماعة لها قاعدة شعبية قوية منغرسة في النسيج الاجتماعي المغربي، ولها قوة تنظيمية لا يستهان بها، يمكنها التأثير في النسق السياسي وقلب موازين القوى لصالحها. كان آخر هذه المحطات حين أعلنت الجماعة انضمامها إلى حركة 20 فبراير، ومساهمتها في الحراك المغربي. فهذه المشاركة أظهرت من خلالها الجماعة صحة ومشروعية رسائلها التي كانت قد بعثت بها من قبل، فخرجاتها أثناء الحراك أظهر قوتها التنظيمية الكمية والكيفية، وبعد انسحابها من حركة 20 فبراير تركت ثغرة في جسم الحركة وأضعفتها، بل أكثر من ذلك كان انسحابها بمثابة انهيار لقوة الحركة الاجتماعية، مما سهل احتواءها من طرف النظام السياسي. إن طبيعة العلاقة بين جماعة "العدل والإحسان" والنظام السياسي لن تتغير، ولن تخرج عن طبيعتها "الصدامية"، فالجماعة مازالت متشبثة بأسلوبها التقليدي في ممارستها السياسية المتسمة بالمزج بين الخطاب الدعوي والسياسي، كما مازالت أيضا تؤمن ب"المنهاج" المعروف في أدبياتها المرجعية. ومن جهة أخرى مازال النظام السياسي يناور ويظهر تكتيكاته في الاحتواء والضم، كما جدد بعض أساليبه في التعامل مع الجماعة، خاصة تجنبه اعتماد الاعتقالات والتضييق على عناصرها، وإعطاء الأولية للجانب الاستخباراتي أكثر لضبط تحركات عناصر الجماعة ونشاطاتها . بعد وفاة زعيم الجماعة الروحي عبد السلام ياسين تقاطرت التحليلات بشأن حدوث تغيير في مواقف الجماعة السياسية، والتي ضمنيا ستغير في طبيعة علاقتها بالنظام السياسي، خاصة أن مرجعية الجماعة ومواقفها كلها تعود من الناحية التأسيسية والهيكلية لمرشدها المتوفى. هذا الحدث اعتبر بمثابة فرصة سياسية للنظام السياسي لإعادة خلخلة البنيات التأسيسية للجماعة الإسلامية، وبالتالي إعادة تقييم العلاقة معها، لكن الظاهر أن جماعة العدل والإحسان حافظت على صلابة مواقفها رغم وجود خلافات منهجية وسياسية بين عناصرها، وخاصة الشباب منهم، لتستمر علاقتها بالنظام السياسي علاقة تتميز بالشد والجذب مبنية على منطق الصراع / التدافع. إذا كانت علاقة التحالف التي ربطت بين النظام السياسي وحزب العدالة والتنمية مبنية على توجه برغماتي: فالحزب الإسلامي ضمن بقاءه في الحكومة لولاية تشريعية، والنظام السياسي أيضا ضمن استمراره تحكمه إبان فترة الحراك العربي وبعده، فإن الأمر يختلف بين جماعة "العدل والإحسان" والنظام، إذ ربطتهما علاقة صراع منذ أمد طويل، اتسمت بالواقعية السياسية ومنطق الإرتكان إلى موازين القوى، لكن السؤال المطروح، وهو مشروع، إلى متى ستظل هذه العلاقة "الصدامية "قائمة بين النظام السياسي والجماعة الإسلامية، والمغرب يعرف تحديات كبيرة خاصة في ما يتعلق بتنامي المد الأصولي في المحيط الإقليمي والعربي؟ *باحث في العلوم السياسية جامعة محمد الخامس