على إثر الانتخابات التشريعية التي عرفتها بلادنا خلال سنة 2011 التي أعطت تقدما مفاجئا وواضحا لحزب العدالة والتنمية توالت التحليلات والتأويلات من أجل تفسير هذا التقدم الصاروخي الذي حققه الحزب، فانبرى للتحليل والتعليق عدد من الباحثين و"المحللين" باذلين أقصى الجهود في تفسير الواقعة؛ فمنهم من أرجع الأمر إلى السياق العربي الذي عرف تغييرا على مستوى بعض الأنظمة فاعتبر الأمر طبيعيا باعتبار أن المغرب انخرط في التغيير بطريقته الخاصة التي عبر عنها من خلال المؤسسات وتبني فلسفة التغيير في إطار الاستقرار... ومنهم من فسر ذلك بقوة الحزب وتنظيمه وعمل مناضليه الذين رسخوا التميز من خلال تواصلهم المستمر مع الشعب ومن خلال قدرتهم على إعطاء نموذج للديمقراطية الداخلية مع تفعيل الدور الإيجابي للنائب البرلماني...بينما تبنى بعض "الباحثين" مقولة مفادها أن الحزب الفائز بالرتبة الأولى لم يكن يستحق هذه المرتبة، وأن الذين صوتوا لصالحه لا يؤيدون هذا الحزب ولا يقاسمونه منظوره للحياة السياسية ولا لتدبير الشأن العام، وإنما دفعهم الى التصويت عليه، بهذه الكثرة، معاقبتهم للأحزاب السياسية الأخرى التي لم تستطع لملمة شتاتها واللجوء إلى قواعد الديمقراطية الداخلية في مؤتمراتها، وبالتالي فإن التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية لم يأت بناء على اقتناع ورغبة في منهج الحزب ومرجعيته وسياسته بل إن ذلك مجرد عقاب للأحزاب الأخرى عسى أن تعود الى رشدها وصوابها بعد الصدمة وأخذ العبرة... وقد استطاعت بعض وسائل الإعلام التسويق لمقولة "التصويت العقابي" واعتبارها مقولة سليمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ودافع عنها بشدة بعض أساتذة القانون العام وتبنوها كتفسير أوحد ووحيد لما حدث معتمدين في ذلك على ما يسمى "المنهجية العلمية" في التحليل، وتأكد ت هذه المقولة لديهم بعد نتائج الانتخابات المهنية التي احتل فيها حزب العدالة والتنمية- عدديا- مرتبة متأخرة فاعتبروا ذلك رجوعا للأمور الى نصابها، وزعموا أن شعبية الحزب قد تراجعت بفعل التدبير الحكومي غير المناسب وبسبب السياسة "اللاشعبية" التي تتمثل في "المس بالقدرة الشرائية للمواطنين" ورفض "التوظيف المباشر للعاطلين" و "الرفع من الأسعار"...فهلل الجميع وابتهجوا وأوغلوا في تبني "مقولة التصويت العقابي" حتى اعتبرها البعض فتحا مبينا في العلوم السياسية، وتمت طمأنة الأحزاب الأخرى بأن الانتخابات التشريعية مجرد سحابة عابرة قد انقشعت، وأن المناضلين والمتعاطفين تعاملوا مع أحزابهم بمنطق العقاب كتعبير منهم عن تعلقهم بها وبزعمائها وحبهم الشديد لبرامجها ومنهجيتها، وما ذلك "التصويت العقابي" إلا من باب الغيرة والحرص على البيت الحزبي، وليس تعاطفا مع الحزب الفائز ومنهجيته وبرامجه...وبالتالي فإن الأمور ستعود إلى نصابها بعد حين، بل إنها بدأت في الرجوع للطريق المستقيم كما تؤشر على ذلك نتائج الغرف المهنية... غير أنه من الثابت أن مقولة التصويت العقابي متهافتة وغير منسجمة مع ما أثبته الواقع، فمن المعلوم أن المغاربة منشغلون بما تراه أعينهم صباح مساء على أرض الواقع، وبما يمس حياتهم اليومية، ويميزون بين الغث والسمين فيما يسمعونه من تصريحات، وما تبثه عليهم وسائل الإعلام من تحليلات وأخبار وتقارير، فللحقيقة نور لا يكاد يحجب، وللتضليل علامات لا تغيب عن أحد، والمغاربة أذكى من تصديق الدعاوى بدون بينات، وهم يعلمون كذلك أن التحليل مهما بلغ من العمق لن يكون أصدق مما يثبته الواقع ويراه الناس، وبالتالي فإن المدافعين عن التصويت العقابي واهمون لأسباب عديدة نكتفي بذكر ثلاثة منها: 1/ اطراد النتائج التي يحققها الحزب منذ نشأته إلى غاية يومه، فلا يجادل أحد في أن نتائج المصباح مطردة وتعرف تطورا ملموسا، استحقاقات بعد أخرى، سواء كانت جماعية أو تشريعية، وبالتالي فمن غير المنطقي أن نفسر اكتساحه للانتخابات التشريعية 2011 على أنه تصويت عقابي، كما أنه من غير المعقول إعطاء تأويل آخر لهذه النتائج بناء على سبب آخر غير الاطراد المستمر المترتب عن مكانة الحزب وقدرته على إقناع المواطنين بخطابه وبإنجازاته، بالإضافة إلى كون الحزب استطاع أن ينفرد بمميزات لا يجدها المغاربة في الأحزاب الأخرى، مع إتقانه الكبير للتواصل مع المواطنين وقدرة أمينه العام عبد الإله بنكيران على إقناع الكتلة الناخبة على مشروعه وتبسيطه للسياسة حتى أصبح الجميع مهتما بها ومتتبعا لأحوالها وأخبارها، كما أن نهج الصراحة المعتمد يجعل الناخبين يتفهمون قرارات الحكومة ويتحملون أعباءها أحيانا، فاتخاذ قرارات قاسية بشفافية ووضوح رغم ردود الفعل التي قد تثيرها وركوب البعض عليها خير من التستر عليها وتغليفها بكثير من الكلام المعسول.. وثقافة المغاربة علمتهم أن الصراحة خير من التكتم (اللهم قاسح ولا كذاب)، وبالتالي فإن منهجية الحزب الواضحة وتقريبه للسياسة من عامة المواطنين بالإضافة إلى قدرته على التأطير والتأثير في الكتلة الناخبة جعله يحظى بأكبر عدد من الأصوات. 2/ تجديد الثقة في منتخبي الحزب دليل على أن التصويت لصالحه ليس عقابيا بل هو أقرب إلى المكافأة وتجديد الثقة، فقد ثبت من خلال نتائج الانتخابات أن الحزب استطاع الحفاظ على البلديات والمدن التي كان يتولى تسييرها، بل ضاعف في عدد منها عدد أصواته، وحصل في البعض الآخر على الأغلبية المطلقة، واستطاع في بعض المدن التي يسيرها بعض أعضائه أن يعزز مكانته ويعطي فيها نموذجا يحتذى به في التسيير مما خلق نوعا من الارتياح لدى الساكنة ( بلدية الدشيرة بأكادير والقنيطرة نموذجين) ودفعهم إلى تجديد الثقة في منتخبيه رغم محاولة البعض تبخيس منجزاتهم والمس بنزاهتهم. 3/ قدرة الحزب على اكتساح المدن والحواضر باعتبارها مراكز للوعي السياسي، وتضم الطبقة المتعلمة والمثقفة يؤشر على أن تصويت المواطنين كان عن وعي واقتناع بإنجازات الحزب، فالمواطن اليوم لا يكاد يلقي بالا للجانب الإيديولوجي للأحزاب بقدر ما يلتفت إلى منجزاته ونزاهة أبنائه، بمعنى أنه من المعلوم أن المعيار الايديولوجي في اتخاذ القرارات، سواء فردية أو دولية، لم يعد ذا أهمية، فالعالم اليوم يبحث عن المردودية والمنفعة وتحقيق المصلحة بغض النظر عن التيار الايديولوجي الذي ينتمي إليه الطرف الآخر، فليس من المعمول به في القرن الواحد والعشرين استحضار الطابع الفكري والمرجعي في اتخاذ قرار التصويت، مما يعني أن المواطنين في الحواضر صوتوا عن وعي على المصباح اقتناعا منهم بعمله ونزاهة مناضليه، وليس عقابا لهذا أو ذاك. إذن، فلا ريب أن مقولة التصويت العقابي مقولة متهافتة واهية، ونتائج الانتخابات السالفة تبين أن هناك اطرادا في النتائج، ونتمنى أن ينبري هؤلاء "المنظرين" لتفسير ظاهرة اكتساح بعض الأحزاب الأخرى للعالم القروي الذي يوحي بهيمنة الطابع القبلي وانتشار الأمية والأعيان والعلاقات الشخصية واضمحلال مؤسسة الحزب. والذين يعتبرون اكتساح العالم القروي انتصارا غير مسبوق واهمون؛ ذلك أنه من طبيعة الكتلة الناخبة في العالم القروي أنها لا تصوت للحزب بقدر ما تصوت للأعيان، وبالتالي فمن الصعب اعتبار الناخبين في العالم القروي قد صوتوا للحزب بقدر ما صوتوا للشخص، فلو قام المرشح بتغيير اللون السياسي لتبعه الجميع مما يجعل الاعتداد بعدد الأصوات لفائدة الحزب في العالم القروي أمرا صعب التحقق. وكيفما كان الأمر فإن حزب المصباح استطاع السير بثبات في الطريق التي رسمها لنفسه، ومن اللازم أن يحافظ أعضاؤه على صورتهم بعد الانتخابات، مع ضرورة اجتناب التصريحات والمواقف التي قد يدفع الواقع إلى العمل بما يخالفها، مما يخلق نوعا من اهتزاز ثقة المواطنين، مع التحلي بكثير من الواقعية في تدبير الاختلافات والتحالفات. -باحث في العلوم القانونية بجامعة محمد الخامس بالرباط