صباحَ يوم السبت الماضي، أعْطيتْ انطلاقةُ الحملة الانتخابية لانتخابات الجماعات والجهات المقرّرة يوم 4 شتنبر القادم. انتخاباتُ الرابع من شتنبر هيَ الأولى منْ نوعها في عهد الدستور الجديد، والتقسيم الجهوي الجديد، الذي قلّصَ جهات المملكة من 16 جهة إلى اثنتيْ عشر، في إطار السعي إلى تعزيز اللامركزيّة وتقويّة الجهوية المتقدّمة، كمَا أنّها تأتي في خضمِّ تنامي اهتمام الرأي العامّ المغربي بالشأن السياسي، خاصّة في ظلّ الطفرة التي تعرفها وسائل الاتصال الحديثة، وإنْ كانَ "العزوف الانتخابي" ما زالَ مستمرّا. فهلْ تُسايرُ الحملة الانتخابيّة الحاليَّةُ كلّ هذه المتغيّرات؟ وهل تخلّصتْ من طابعها التقليدي، الذي كانَ يعتمدُ بالأساس على التواصل المباشر مع المواطنين في المقاهي والأسواق وطرْق أبواب بيوتهم، وتوزيع المناشير الدعائيّة؟ يُجيبُ أحمد الخنبوبي، وهوَ باحث جامعي في العلوم السياسية: "يمكن القول إجمالا بأن الحملة الانتخابية الخاصة بالاستحقاقات الجماعية لسنة 2015، تتميز عن نظيراتها السابقة، كونها جاءت في زمن انتشرت فيه التكنولوجيات الحديثة وشبكة الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل مُلفت". حملة انتخابية بدائيّة طفرة التكنولوجيا الحديثة التي وصلت المغربَ خلال السنوات الأخيرة، ومَا واكبها من انخفاض أسعار الهواتف المحمولة والحواسيب والألواحِ الالكترونية، وانخفاض أسعار الانخراط في شبكة الانترنت، فرَض على المترشحين للانتخابات الالتفاتَ إلى هذا المُعْطى الجديد. فبالمقارنة مع الحملة الانتخابيّة لسنة 2009، يبْدو التغييرُ جليّا، إذِ انتقلت الحملة الانتخابيّة من الأزقّة والشوارع إلى فضاءات المواقع الالكترونيّة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وباتَ أغلبُ المرشحين يتوفرون على صفحاتٍ في عالم "الويب". "في ظلّ هذا الواقع، باتَ على الأحزاب السياسية استخدام هذه التقنيات بشكل فعّال"، يقول أحمد الخنبوبي، لكنّه يَرى أنَّ اللجوء إلى التقنيات الحديثة "ليسَ هو مربط الفرس"، ما دام أنّ جميع الأحزاب السياسية أضحتْ تستخدمها، إنّما الاشكالات الرئيسة تتجّلى في مضمون الحملات الانتخابيّة للأحزاب السياسية، ومدى استجابته لانتظارات وتطلّعات الناخبين، وبأي فكر تسوّق هذه الأحزاب حملتها، وهل للحملة الانتخابيّة أصلا جدوى، ما دامَ أنّ الفوزَ مرتبط ب"عوامل أخرى"؟ وهل تتوفر هذه الأحزاب على برامج محلية واقعية وعلمية قادرة على إقناع الناخبين أثناء الحملات؟ في السياق نفسه قالَ ميلود بلقاضي، أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، إنَّ الحملة الانتخابية لاستحقاقات 4 شتنبر تتّسمُ بفُقدان الجاذبية الانتخابية والسياسية، وتجري وفق خطاب سياسي فضفاض عامّ، يعتمدُ على تقديم معطيات وأرقام من الصعب جدا أن تتحقق على أرض الواقع، وأضاف بلقاضي خلال ندوةٍ نظمها "مركز هسبريس للدراسات والإعلام": الحملة الانتخابية في المغرب ما زالتْ بدائية، ولا تتوفر على شروط الحملة الانتخابية بالمفهوم التقني والديمقراطي". نظرة مهزوزة ويرى أحمد الخنبوبي، الذي يُدير مجلّة "أدليس" المتخصّصة في العلوم السياسية والاجتماعية، أنَّ تمثُّلات العمل السياسي والحزبي لدى المواطن المغربي أصبحت مهزوزة، حيث أصبح هذا العمل مرتبطا بالاغتناء غير المشروع وبالفساد وفرصة للترقي الاجتماعي بالنسبة للفاشلين في المجتمع. وما فاقَمَ الاحباطَ السائد وسط المواطنين إزاءَ وعود الأحزاب السياسية، هو "أن المغاربة جربوا كل الأحزاب السياسية الكبرى وأولادها الشرعيين والغير الشرعيين (الأحزاب الصغيرة) التي تتنافس حاليا في هذه الاستحقاقات". يقول الخنبوبي. وفي حينِ تتشابهُ مضامين البرامج الانتخابيّة للأحزاب السياسية المغربية، لحدّ أنّ المواطنَ لا يستطيع أن يُفرّق بين برنامج وآخر، وتتشابه الوعود، فإنَّ المواطنين لمْ يعودوا يميّزون بيْن حزب وآخر، ويُوضّح الخنبوبي أنَّ الأحزابَ المتصارعة على الظفر بأصوات الناخبين، من خلال "الوعود المعسولة"، تناوبت جميعُها على تدبير الجماعات الترابية منذ الاستقلال، وأغلبها شارك في تدبير الشأن الحكومي، وهي نفسها (الأحزاب) ونُخَبها المسؤولةُ عن المشاكل والمعضلات العويصة التي تتخبط فيها الجماعات الترابية المغربية. "الحملة" الجيّدة وحْدها لا تكفي قبْل انطلاق الحملة الانتخابيّة الحاليّة عبّرَت أحزاب سياسية عدّة، سواء من الأغلبية الحكومية أو المعارضة، عنْ مخاوفها منْ أنْ تمرّ الانتخاباتُ القادمة في أجواءٍ غير نزيهة، رُغم أنَّ الانتخابات يُشرفُ عليها رئيسُ الحكومة، من الناحية السياسية، إلى جانب وزارة الداخلية، التي تتولّى تدبير الجانب الإداري، كمَا اشتكتْ هيئات سياسية من لجوء أحزاب سياسية إلى استمالة المرشحين بالمال، و"التدخّل السافر" للمال في الحملة الانتخابيّة، كما قالَ الأمين العامّ لحزب التقدم والاشتراكية نبيل بنعبد الله صباحَ يوم انطلاق الحملة، فضْلا عن ذلك، ما زالَ شراء أصوات الناخبينَ مستمرّا. ويُؤكّدُ أحمد الخنبوبي على أنَّ الحملةَ الانتخابية الجيدة والمدروسة "لا تعني كسبَ الاستحقاق الانتخابي في بلد كالمغرب"، حيث مازالت عواملُ أخرى مثل شبكات المصالح والأعيان والنافذين وتجار الانتخابات تتحكم بشكل مباشر في مسار الانتخابات، وهو ما يجعل الحملات الانتخابيةَ مجردَ عمليات مُكمِّلة في خضم الانتخابات، على عكس ما يحصل في الدول الديمقراطية، التي يمكن للمحلل السياسي فيها أن يرصد مسار التصويت ويتنبأَ بالنتائج، انطلاقا من الحملات الانتخابية للمتنافسين، كونُ العملية السياسية "واضحةً وشفافة بشكل يسمح بالتحليل السياسي العقلاني"، وفق تعبير المتحدّث. حمْلة "باردة" وفي حين ما زالت الحملة الانتخابيّة وقدْ أتمّتْ يومَها السادسِ "باردة"، وفقَ تعبير ميلود بلقاضي، في انتظار أنْ تنتقلَ إلى مرحلة "السرعة النهائية" مع اقتراب انتهائها، كما قالَ أحدُ المترشحين لهسبريس، فإنَّ السؤال الذي يفرضُ نفسه بقوَّة هو ما مدى قدرة الحملة الانتخابية الحالية على إقناعِ المواطنين المغاربة المسجّلين في اللوائح الانتخابيّة من الإدلاء بأصواتهم في اقتراع يوم 4 شتنبر، خاصّةً وأنَّ آخرَ انتخاباتٍ شهدها المغربُ يوم 25 نونبر 2011 سجّلتْ مشاركة ضعيفة، رُغْم أنها جاءتْ غداةَ الحَراك الاجتماعي الذي شهده المغربُ مطلع السنة نفسها، وما واكبه من آمال في التغيير. ويربطُ مليود بلقاضي بيْن المشاركة الواسعة في عمليّة التصويت والحملة الانتخابيّة الجيّدة، قائلا: "الحملات الانتخابيّة لها تأثير مباشر على المشاركة، فبقدر ما راهنت الدولة والأحزاب السياسية على حملة انتخابية موضوعية وجذابة ونظيفة، كلما أثر ذلك إيجاباً على نسبة المشاركة، وكلما كانت الحملة سيئة كلما كانتْ نسبة المشاركة ضعفية". فهل ترْقى الحملة الانتخابيّة إلى مستوىً يُغري الناخبين بالاقبال على صناديق الاقتراع صباح يوم 4 شتنبر؟ "في تصوّري، التجمعات الخطابية التي تقوم بها بعض الأحزاب لا تختلف عن طريقة تدبير أسواق بيع المواشي (الرّْحبة)"، يُجيب أحمد الخنبوبي. ويُوضّحُ الباحث الجامعي في العلوم السياسية أنَّ الحملة الانتخابية الحالية، وإنْ كانتْ مختلفة عن سابقاتها، وإقحام الأحزاب لوسائط الاتصال الحديثة للتواصل مع المواطنين، إلّا أنَّ المرشحين ما زالوا يلجؤون إلى أساليبَ خطابيّة وإلى تجهيزات بدائية للتواصل مع الناخبين، وشبّه المتحدّث هذه الأساليب بطريقة تسويق الباعة المتجوّلين لبضائعهم في الأسواق الأسبوعية، وزاد: "كل هذا يجعلنا نقول إن مستوى الحملات الانتخابية في المغرب رديء ومازال لم يَرْتَقِ إلى مستوى الحملات الانتخابية في الدول الديمقراطية المتقدمة". ويُوردُ الخنبوبي في حديثه مفارقة "طريفة"، فإذا كانت الأحزابُ في البلدان المتقدمة قدْ طوّرتْ أساليبَ التواصل مع الناخبين، مثل إرسال برامجها ومنشوراتها عبر البريد إلى المواطنين في مساكنهم، أو عن طريق البريد الالكتروني أو الرسائل الهاتفية القصيرة، فإنَّ الأحزاب المغربية ما زالتْ تلوّثُ بنفسها المدن وذلك برمي منشوراتها في الفضاء العام، رغم أنها تدعو في برامجها إلى المحافظة على البيئة وإلى تنظيم المجال العام داخل المدن، ويعلّق الخنبوبي: "هذا يُبيِّن أن الديمقراطية ثقافة وقيم وأخلاق وسلوك، قبل أن تكون انتخاباتٍ وصناديقَ اقتراعٍ وحملاتٍ انتخابيةً..."