صاح أحد الرفاق "انظروا، هاهي ذي، كولومبيا، كولومبيا"!، كولومبيا المغربية، على ما يبدو. استدار سائقنا لينظر إلينا بعد الجلبة التي أثيرت في المقعد الخلفي، لتنحرف السيارة باتجاه حافة الطريق، نحو مزارع خصبة بنبتة الكيف الخضراء، ويعود إلى الطريق الصحيح في الوقت المناسب، فنتمكن من مواصلة الرحلة التي عبرنا خلالها جبال الريف نحو طنجة، الواقعة في أقصى شمال المغرب. الكيف في الريف، هو أساس أكبر الأنشطة الاقتصادية في المنطقة، ويرجع ذلك إلى الارتفاع المثالي للأرض حيث تزرع النبتة، بالإضافة إلى المناخ الجيد لها. جبال الريف هي موطن لليهود والبربر والأندلسيين قديما، بالإضافة إلى الأنواع النادرة والمحمية من الحيوانات، مثل القرد البربري المكاك، وغابات الأرز المعطر.ومع ذلك، ففي المرة الأولى التي تزور فيها المنطقة، فإنه من الصعب أن تلاحظ أي شيء على الرغم من حجم المزارع الكبير. حاولنا، دون نجاح يذكر، معرفة شيء عن الخدمات اللوجستية في المنطقة، خصوصا وأن مرافقنا كان متحمسا جدا، وخلق لدينا إحساسا على أنه ينحدر منها، لكنه كان غير قادر على وصفها لفظيا. ركن السائق السيارة على جانب الطريق، وسألنا إن كنا نريد "snuffy" ، فانفجرنا ضحكا بعد سماع الكلمة المضحكة، التي لم توصل لنا ما كان يود قوله، ليطلب منا السائق التريث. بعد حين رجع السائق وهو يخبرنا أنه اشترى بعضا من "snuffy"، وهو كمية صغيرة من مسحوق أسود وضع في كيس من البلاستيك، وبعد استعمال القليل منه بدأ هذا الأخير بالعطس، الأمر غري لكننا لم نوليه الكثير من الاهتمام بسبب انشغالنا بالتفكير في طريق الوصول، وأيضا بسبب قلقنا بشأن قدرته على أن يوصلنا إلى وجهتنا. لكن الغريب هو أن السائق بدا على ما يرام تماما، بل وكان أكثر سعادة قليلا من ذي قبل بسبب الشيء العجيب الذي استعمله، والذي مازلت أجهل ما هو إلى الآن. قبل الوصول إليها بفترة طويلة، أصبح السائق متحمسا جدا ليرينا "الشاون"، التي اكتشفنا في نهاية المطاف أنه الاسم المستعار لمدينة شفشاون. وهنا جاءنا السائق بعرض مفاجئ، إذ قرر أن يمر عبرها رغم أنها لم تكن ضمن مخططنا، وبعد رفضنا، أكد أنه سيفعل ذلك مجانا، مرددا كلامه لما يقارب عشر مرات: "مجانا، سآخذكم مجانا! إنها مدينة جميلة، أجمل مدينة في المغرب"، لنقبل بعد سماع هذا، العرض فورا. وها قد وصلنا إلى شفشاون، المدينة القابعة أسفل حافة، ووسط المناظر الطبيعية الجبلية القاحلة، تكسوها بيوت حجرية مشرقة باللونين الأزرق والأبيض، وفيها متاهة تكسوها زرقة يقرب لونها من لون السماء، تخرج منها عبر أقواس تؤدي إلى المحلات التجارية والمطاعم، وهنا تغمرك رائحة النعناع والشاي، والكيف والطواجن المنسمة. الحياة المجتمعية التقليدية تتجلى للزائر عند رؤية نساء المنطقة، اللواتي يرتدين تنانير مخططة بالأحمر والأبيض، ويحتمين من الشمس عبر قبعات مصنوعة من القش، وأغلبهن تمتهن بيع الخبز في جميع أنحاء المدينة، أما الأطفال فيلعبون كرة القدم وسط المارة ووسط الطريق بمحاذاة السيارات. المدينة تمنحك فرصة التسوق في أجواء مريحة، مقارنة بمدن مغربية أخرى كفاس ومراكش، فهنا تتبضع المصنوعات الجلدية المحبوكة يدويا، بالإضافة إلى القبعات، والسجادات، والفوانيس، وأقداح الشاي وجميع الهدايا التذكارية المغربية النموذجية التي لا يمكن أن تخلو منها حقيبتك. في نهاية الرحلة الطويلة، وبعد الانتهاء من عقبات المدينة صعودا ونزولا، يمكنك التوجه نحو الساحة التي تتوسط السوق لاحتساء كأس شاي. في أحد المحلات، عرض التاجر علينا المبيت بمدينته التي يفتخر بها كما يظهر من طريقة كلامه، وقال إنه سيوفر لنا مبيتا في بيوت ضيافة فريدة من نوعها، دعانا أولا لتناول العشاء مع أصدقائه في أحد أفضل المطاعم في المدينة، وقال إنه يمكن أن يمنحنا منزله لليلة، لنجرب نمط عيش السكان المحليين. ظننا أنه يحاول عبر هذا أن يبيع لنا شيئا، ولكن الجهد الذي بذله، إلى جانب الطريقة الودودة التي كان يتحدث بها، كان يظهر فعلا مدى صدقه، ولكي أكون صريحة، فهذا الأمر تكرر في جميع أنحاء المغرب، إذ وجدنا هذا الترحاب بين السكان المحليين بكل المدن المغربية. وبحلول وقت المغادرة، أوشكت على البكاء فعلا، ففي جميع رحلاتي، كنت أكره وقت الرحيل عند تواجدي بمثل هذه الأماكن التي تتسم بالعفوية، كشفشاون التي زرناها بمحض الصدفة فقط، صدفة جعلتنا نكتشف جمالا روحيا يقبع داخل الجدران المطلية باللون الأزرق، لذلك سأتذكر دائما أن snuffy، مكنتنا من اكتشاف أرض النعيم المغربي. (*) كاتبة متخصصة في الأسفار