إلى الراحل رشيد الصباغي (بيير لوتي اسمه الحقيقي لويس جوليان فيو (1850 – 1923) ألف كتبا عديدة في صنف الرواية والرحلات، بدأ ضابطا في البحرية الفرنسية. نشر روايته «أزياده « التي تجري وقائعها عند إقامته بتركيا وتحديدا في مدينة اسطمبول، قام بزيارات عديدة إلى بلاد الشام ومصر والمغرب، تغلب على كتاباته كحال كثير من المستشرقين النزعة الغرائبية، لم تترجم كتبه إلى العربية بالرغم من قيمتها التخييلية والتاريخية، باستثناء فصل من كتابه «رحلة إلى المغرب « الذي ترجمه الباحث المغربي عبد المنعم الشنتوفي، يتحدث فيه عن حي الملاح بمدينة مكناس). كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، تعرف ساحة السوق حركة دؤوبة كفضاء لتلاقي الحشود وقضاء المصالح، إنها تمثل شيئا شبيها بما كانت عليه الحياة في الأحياء الشعبية في مدن كغرناطة وقرطبة أيام الوجود الإسلامي فيها. على هذه الساحة الكبرى التي هي عبارة عن سهل مربع يرتاده أصحاب لباس البرنوس والنساء المنقبات بالخمار، هناك حشد من المقنعين الملفوفين بمعاطفهن المصنوعة من وبر الإبل، ذات اللون البني، هنا وهناك، مع وجود عدد محدود من الحمير لونه أحمر، ومئات من النساء جلسن هناك على الأرض جلسة القرفصاء، من بينهن نساء يبعن الخبز والزبدة، أما بائعات الخضر فإنهن يخفين وجوههن في قماش من (الموسلين Moussline )لا تظهر ملامحهن كلها تحت قبعات كبيرة، تشبه قبعات الراهبات، مزينة بكرات صغيرة، تحيط بهذه الساحة الكبيرة والحشود الرمادية، بيوت المسلمين المغاربة، حيطانها دائمة البياض وفي أعلاها توجد مساكن القصبة الأكثر بياضا من لون الثلج،كما يوجد بجوارها مآذن مزينة بقرميد أخضر، تعلوها قمم الجبال الشاهقة ذات اللون الأزرق الداكن. تسمع الصوت ينادي، بالك ! بالك ! تلك الصرخة المدوية التي توجه إلى الحشود (احذر Gare) إن كلمة (بالك) تعني (احذر) أو (حذاري) التي تقال عند مرور قافلة أو مجموعة من الحمير الصغيرة، التي تحمل على ظهرها حزما ورزما، قد تحتك بالمارة وتدوسهم فتسقطهم على الأرض، بالك ! أو حذاري ! من الإبل في مشيتها البطيئة التي تتهادى على رنين أجراسها، بالك كذلك، من قطعان الثيران تركض في الأزقة الضيقة وقرونها موجهة إلى الأسفل ، بالك، من الأحصنة الجميلة التي يركبها الفرسان، مزينة بأروع الألوان وهي تتقدم وتتراجع في مشيتها إلى الخلف. تبدو أزقة تطوان وكأنها تؤدي إلى ممر لا مخرج له، حيث تدور وتدور وتتقاطع ثم تتفرع وترتد على نفسها، وبصفة عامة، فإنك بعد أن تتقدم في مشيتك كثيرا، تحس بأنك تتراجع إلى الوراء، أحيانا تكون أمام دوران على شكل حلزوني يؤدي إلى طريق مسدود وأحيانا عبر أزقة جديدة، حتى أن صغار الحمير طالما ترنحت في مشيتها متخبطة ذات اليمين والشمال، لثقل حزمتها، فتحتك بصباغة جير الجدران، حيث يتم كساء هذه الأحياء بدالية عنب أو بقوس صخري، فلا نرى إلا جزءا محدودا من لون السماء الأزرق، لأنه يصعب معه الاهتداء إلى غور المتاهة الضخمة. أما الجزء المغطى سقفه بداليات العنب، فهو يمثل (البازار) أو بعبارة أخرى، حي التجار، هناك على حافة السور توجد حوانيت صغيرة يجلس داخلها جلسة القرفصاء، تجار بعمائم يعملون في صمت مطبق ووقار وسط معرض المنتوجات النادرة، وسلسلات الحلي الفضية، وقد تم تجميع الباعة في هذا السوق من كل صنف، موزعين على الأزقة ، هناك زقاق تجار الملابس حيث يلمح داخل كل حانوت ما يشبه عش الطيور وأثواب من حرير بألوان الوردي والأزرق والبرتقالي والأخضر الناصع، وتطريزات لونها فضي وذهبي، حيث تتوقف عند بابها نساء بيض، وهن في الغالب محجبات وملفوفات في لباس كأنهن الأشباح، يختبئن تحت قبعاتهن الكبيرة. هناك حي تجار الجلد، حيث تعلق فيه كثير من البضائع المتعددة الألوان التي تصلح لتزيين الخيول والبغال والحمير، كما يوجد فيها جميع آلات القنص ولعبة الفروسية، من الأصناف القديمة والغريبة الأشكال، وعلب مسحوق البارود، معلقة في رقائق من فضة ونحاس وحبال لحمل البنادق والسيوف وحقائب للسفر، خاصة بالقوافل وتعويذات للوقاية من السحر عند عبور الصحراء. هناك كذلك زنقة تجار النحاس، حيث يسمع طيلة الصباح والمساء صوت النقر على الصواني والأواني وحي تطريز النعال وإصلاحها حيث امتلأت جميع الدكاكين الصغيرة بالأثواب الزاهية ومعروضات اللؤلؤ والذهب، وهناك حي النجارين ومصممي الرفوف الخشبية وحارة الحدادين والدباغين، ثم أخيرا حي صناع البنادق القديمة ، الطويلة الشكل كأعواد القصب، عند أسفلها تكون مزينة بمعدن الفضة لكي تحمل على الكتف، لكن المغاربة لا يفكرون في تغيير هذا الموروث القديم من طرف أسلافهم، لأن شكل (البندقية/المكحلة) التي تمارس بها لعبة الفروسية، يبقى دائما على حاله دون تغيير يذكر إلى الأبد. هذا البلد ككل الأشياء الأخرى، يشعر المرء فيه كأننا في حلم، عندما يرى هؤلاء الصناع وهم مازالوا يصنعون مثل هذه الأسلحة بكميات كبيرة، بالرغم أن الزمن عفا عليها، وصارت عرضة للإنقراض، خارج هذا السوق أو (البازار) Bazar تتحول متاهة مدينة تطوان إلى ظلام دامس، وإلى أحياء مقفرة،سقوف داليات العنب،على أقواس يبلغ حجمها مترين تقريبا، تخترق طول الزقاق، مدعومة براكائز جدرانية عالية كالدعائم الاسمنتية للمنازل، تبدو دائما حزينة ومغلقة، وكأننا نسير في قعر سلسلة من الآبار التي تتصل في ما بينها بواسطة الأقواس، نشاهد عند المرور، مربعات صغيرة ومنافذ رمادية تطل على سماء زرقاء، لا يوجد أحد من المارة في الأحياء الراقية، بين الجدران البيضاء التي تشبه في أقدميتها الدين الإسلامي،لا أحد يعبر هذه الأحياء، باستثناء الخدم السود الذين يعرضون بضاعة من أساور وقلائد. إن هذه الأحياء التي يرتادها الأغنياء ،هي أكثر قتامة وانعراجا بالمقارنة مع غيرها ،إنها ممرات بدون مخارج لها ، تدور حول نفسها دون أن تؤدي إلى وجهة معلومة ، وهناك، ضمن هذا التيه المظلم والمخيف، أبواب ثقيلة، زينت بمسامير ضخمة، ومدقات للأبواب قديمة ونادرة ،على شكل سنان الرماح وأقفال كتلك الموجودة في زنازن السجون. عندما تتوفر مثلي، على كلمة السر، «افتح ياسمسم» من أجل الدخول، ترفع مطرقة النحاس، ليفتح الباب على ممرات رصعت بشكل جمالي مزوق بالفسيفساء، تظهر بعدها إحدى الخادمات المزوقة بالجواهر ذات الألوان المذهبة والساطعة، تقف الخادمة مشدوهة ، ثم تغلق الباب وتنصرف لإخبار سيدها، صاحب السلهام الطويل ، ذي المحيا الوسيم ،الذي سيحضر ببسمته المعهودة ، مادا يده لتحيتنا ودعوتنا للدخول إلى منزله. توجد في داخل هذه المنازل الجميلة بيوت عديدة وباحات فسيحة ، مبلطة بالرخام ومزينة بأقواس مغطاة بالفسيفساء، في وسطها توجد نافورة يتدفق منها الماء لسقي أشجار البرتقال،وكأنه قصر الحمراء ، ما زال مسكونا بنفس مختلف عجائبه، التي تتغير فيها أقواس الأبواب المسننة وكأنها صخور متدلية من مغارة، لكن قصر الحمراء بسكانه وخيامه وسجاداته ومتكآته وقطيع عبيده من المزينين بالفضة و الذهب. عند دخول محمد البديع أو «الأروع» ضمن السكان العرب التطوانيين،خيل له وكأنه يدخل إلى حلم من قصص ألف ليلة وليلة ،إلى الفناء الرائع الذي تشرق فيه الشمس على زليج الأرابيسك و الفسيفساء المفروش بالظل وبسجاجيد من النوع الرباطي، وهذه السجاجيد مزركشة بورود وزهور شجر البرتقال، بجانبها يجلس فتيات زنجيات ، يجتمعن على شكل باقات، حيث حط بينهن سرب حمام أبيض اللون، مزركش بالأبيض واللون الوردي. إن الخزف المصنوع به، هذا الفسيفاء يشبه تماما ما كان يتم صنعه منذ ثماني أو عشرة قرون خلت، لفائدة القصورفي مدينة غرناطة ،دون أن يتعرض للتغيير، أي أن نفس الرسوم والألوان بقيت متعاقبة عبر السنون ، من خلال طباعة عثر عليها قريبا من مدينة تطوان ،عند سفح أحد الجبال ، هناك توجد كهوف تخرج منها أدخنة وتصنع فيها مليارات من الرسوم على شكل نجوم أو مربعات صغيرة من كل الأصناف، لتشكل بذلك تصاميم معقدة كالألغاز تزين بها الجدران. بعد فترة قصيرة على غروب الشمس، يغلق جنود الباشا باب تطوان المقوس، أما البيوت فلا تغلق أبوابها إلا بعد عودة سكانها إليها، ولا وجود للإنارة في ظلمة الأزقة الضيقة والموحشة، لأنها تبقى مظلمة حتى في واضحة النهار، وتحت أشجارها الحجرية هناك بياض شاحب، ونور وهاج للنجوم أو القمر ، أو بريق الجير الأبيض الذي ينير قليلا، المشي في متاهة الظلام الدامس، إذا كنا نعرف إلى أين نسير؟ بعض المارة الذين ينتعلون البلغة، وكأنهم أشباح كبيرة، يسيرون بمحاذاة الجدران، ويحملون بأيديهم عصيا، ليتحققوا من عدم وجود الحفر والبرك في الطريق. حوالي الساعة الثانية صباحا، شرع المؤذن في النداء لأذان صلاة الفجر، آه، كم هو حزين جدا سماعه، لأنه يعطي انطباعا بالفناء الإنساني، الذي يتضرع أمام الله طالبا المغفرة من الحي الذي يدوم ،إنها نداءات ممتدة على إيقاع حاد في تصاعد دائم، مع تلك التراتيل الحزينة التي يطلقها باللغة العربية، وتتخللها انقطاعات، كالتي نعبر عنها نحن بالمناجاة التي تشبه النحيب. (هذا المقال مقتطف من كتابه «في المغرب» « AU MAROC » 1889، الذي نشر سنة 1990، باريس)