شفشاون مدينة تاريخية تقع في حضن الجبل، كل ما تزخر به يدل على عراقتها وتاريخها، في كل مكان وأينما كان الاتجاه، فكل أحيائها المتناغمة الألوان بين الأزرق والأبيض، وكل شوارع المدينة القديمة غنية بالموروث الفني الذي يتجلى في الجدران وأشكالها وزخرفة الأبواب والنوافذ وحتى المنازل لها سحر ووقع الخاص في ذاكرة المدينة بأبوابها الضيقة المزخرفة والتي تؤدي إلى مآرب شتى...حينما تطل من أطراف المدينة تحس كأن الأندلس ستبعث من جديد في هذه البلاد من خلال أزقة وفنون مدينة شفشاون الساحرة، ولكن السؤال الذي حيرني في المغرب : لماذا لا أجد تمثالاً ونحتاً في هذا البلد وخاصة شفشاون التي تعد نبعاً متدفقاً للفن والفنانين، أين هي منحوتات تؤرخ حياة شخصيات وأبطال ورجال سطع نجمهم في المغرب ؟، ولكن تبين لي بأن فن النحت في المغرب من الفنون القليلة والنادرة وذلك يعود إلى تعفف السلاطين المتعاقبين على حكم المغرب من تشجيع هذا الفن لخلفيات دينية وعقائدية ورغم انتشاره حديثاً. ووجود نحاتين متميزين في المغرب إلا أن انتشاره يبقى محدودا. عرفت مدينة شفشاون بحركتها النشيطة والدؤوبة في ميدان الصناعات التقليدية والحرف، ومن أهم أسباب انتشار هذه الحرف توافد المهاجرين الأندلسيين الأوائل الذين رافقوا مؤسس شفشاون علي بن راشد واعتمادا عليهم عرفت هذه الصناعات والحرف نهضة ومنها : النجارة، البناء، الخياطة، الحجامة، الحدادة، الخرازة، الدباغة... لهذا تنتشر الصناعة التقليدية في كل الأسواق الشاونية من السجادات والملابس والأزياء الشعبية التقليدية وهذه الصناعات تنتشر في الأحياء الرئيسية للمدينة القديمة التي تحمل بين جدرانها أسراراً من التميز والألق التاريخي . هندسة التعمير والبناء كانت وفق إستراتيجية دفاعية، فسور المدينة الذي مازال شامخاً لغاية اليوم بأبوابه السبع جعل من الناس في تلك الحقبة وحدة متماسكة وكأنما أسرة واحدة تسكن دارا واحدة، حيث تغلق الأبواب في ساعة محددة لتوفير الأمن والراحة للجميع كي يرقدوا في سكون وحبور. خارج أسوار المدينة كانت تنتشر المقابر وكل مجموعة متقاربة من الأحياء خصصت لها مقبرة خاصة وفي مركز المدينةالجديدة توجد مقبرة علي بن راشد مؤسس شفشاون وكذلك ضريحه ومقابر أخرى عديدة بالإضافة إلى مقبرتين لغير المسلمين وهما مقبرة اليهود بمنطقة تسمى(المطربة) التي سبق أن زرتها ووجدت علامات على شاخصات القبور ومقبرة الإسبان وهذا يدل على احترام الإنسان الشاوني للأديان الأخرى. في مركز المدينة القديمة حيث يكثر السواح بشكل كبير وخاصة في ساحة وطاء الحمّام وهي الساحة الرئيسية للمدينة وسميت ب " وطاء الحمّام" نسبة إلى بناء أول حمّام في أسفل الساحة، ولكن البعض يقول يسمى بالحمام نسبة الى كثرة الحمام سابقا في هذا المكان، ولكنه هاجر إلى تطوان وطنجة ولكن هذه الحكاية مشكوك بها!! بجانب ساحة الحمّام شرقاً شيدت القصبة وتعد النواة الأولى لمدينة شفشاون، و تسمى أيضا برباط المدينة وهو مكان بناه مؤسس المدينة وفيه الإدارة والمخزن والسجن والجيوش وقتذاك، وخارج أسوار القصبة شيدت المدينة الأولى وهي السويقة وكان يسكنها الجنود الذين كان أغلبهم مع مؤسس المدينة، وكانت المدينة صغيرة ومبنية حول أسوار وأبواب وبعدها تم توسيعها من خلال الهجرات القادمة من الأندلس حيث حصلوا على الرخصة والإذن ببناء البيوت، وأول حي شيده الأندلسيون كان حي (الخرازنة) وبعد ذلك تعددت الأحياء ومنها حي الأندلس، حي الصبانين، وفي هذه الساحة تكثر الحوانيت المخصصة للسواح وتمتزج كلاسيكية المدينة القديمة بالسواح القادمين من الغرب، وكذلك تنتشر الموسيقى الخاصة بالمنطقة والمعروفة ب "الحضرة الشاونية" بالإضافة إلى نساء ورجال بأزيائهم الشعبية وهم يبيعون ما أبدعته أناملهم من صناعات تقليدية للزوار والحياة في هذه الساحة تستمر لغاية أواخر الليل وخاصة أيام الصيف الساخن. تعد القصبة من إحدى رموز شفشاون الثقافية والفنية وحافظت على دورها الكبير خلال أيام حكم السلاطين ولكنها إبان الاستعمار الاسباني عام 1920 تحولت إلى ثكنة عسكرية، أما الآن تعد إحدى رموز المدينة وفيها المتحف الإثنوغرافي بشفشاون، وفي القصبة هناك لوحات تعرف الزائر على المدينة ضمن إطار جغرافي بالإضافة إلى فضاءات تعرض الخزف الريفي المتنوع والحرف التقليدية وقطع الحلي التي اشتهر بها اليهود بإحدى فنادقها القديمة، بالإضافة إلى فنون الخشب وتنوع الزخارف على التحف بأسلوب وتقنية رائعتين، وهناك فضاء يقدم الأسلحة التقليدية مثل السيوف والخناجر والبنادق، وفضاء آخر للموسيقى والآلات الموسيقية ومنها الموسيقى الأندلسية والموسيقى الشعبية، أما زوار القصبة فهم تلاميذ وطلبة الرحلات المدرسية يأتون للتعرف على تاريخ القصبة وكذلك السواح من كل أنحاء المغرب والعالم. وفي وسط المتحف توجد نافورة تعكس الدور الكبير للماء في حياة المدينة بالرغم من وجود "راس الماء والتي تشبه بكثير شلالات كوردستان، وفي الصيف الساخن حيث تزدحم بسكانها الأصليين وتكثر السياحة في هذه المدينة على طول أيام السنة... رحلة إلى شفشاون... رحلة إلى بلاد ألف ليلة وليلة والأحلام ومهرجان الألوان والسحر والتناغم مع الألوان وخلو الروح من مرارات الزمن وقسوته والرحيل صوب فضاءات الجمال والزمن الجميل وحلم مدهش ولكن في منتصف النهار..إنه حلم شفشاون. سياحة في قلب مدينة شفشاون التي يحلو للبعض أن يسميها بعروس شمال المغرب وجوهرتها، في هذه المدينة يكثر الإبداع الإنساني وحوانيتها أشبه بمتاحف تضاهي متاحف العالم، أما اللون فله تأثير كبير على روح الإنسان الشاوني فصباغة بيوتهم وجدرانهم بالأبيض والأزرق ليس أمراً من السلطات بقدر ما هي ثقافة شاونية توارثتها الأجيال في سبيل الحفاظ على طابع هذه المدينة التاريخية. موسيقى الجبل في مهرجان ضخم في شفشاون أقامت جمعية ابن مشيش لرعاية التراث الحضاري من أجل الحفاظ على التراث وأغاني الجبل؛ المهرجان الوطني الأول للطرب الجبلي بالساحة الكبرى والتابعة لمجمع محمد السادس للرياضة والثقافة والفنون منتصف حزيران 2013. الموسيقى الجبلية يسمونها في شمال المغرب ب "الطقطوقة" نسبة إلى الطقطقة وأنواعها كثيرة : المواويل والنداءات والمقامات، وحضرت جانباً من المهرجان واستمعت إلى أغاني الجبل المغربي التي تركز على إيقاع خفيف وسريع وكلمات بسيطة تعبر عن معاناة ومكابدات الجبليين وتعكس مشاعرهم وأحاسيسهم المفعمة في أغان توارثتها الأجيال، البعض يجد أنها موسيقى معقدة وذات إيقاعات صعبة وصعوبتها وجه من وجوه حياة الجبليين الصعبة. ساحة المهرجان امتلأت بالزوار وسكان المدينة بأزيائهم الشعبية وكأنه يوم وطني لهم، واستغرق المهرجان 3 أيام. وتختلف موسيقى الجبل المحلية عن الحضرة الشاونية التي هي مزيج من فنون الزوايا الصوفية والإيقاعات الأندلسية. المغاربة يأكلون الحلزون(القواقع) بشهية كبيرة. في مركز المدينة القديمة لاحظت أمرا غريبا بالنسبة لنا في وطننا؛ أُكْلَة القواقع أي الحلزونيات حيث رأيت جمهرة كبيرة تلتف حول عربة والناس يأكلون القواقع وبأثمنة جيدة، ولم يتركني فضولي لأرى المشهد بل أثار الحلزون اهتمامي ذلك القوقع القشري العجيب واليوم أجده طبقا لذيذاً لأهل المدينة، وهو يعد بطريقة فريدة بعد خلطه بمجموعة من الأعشاب والزيتون وكذلك مرق الحلزون له نكهة خاصة وعلمت بأنه يمنح الجسد قوة وطاقة، الحلزون الذي يختبئ في النهار ويخرج في الصباحات الباكرة يتم العثور عليه وفق عملية بحث منظمة تشبه رحلات صغيرة لصيده وجمعه وبعدها يتم بيعه لأصحاب العربات أو يجلب لطبخه في المنازل...في المدينة القديمة الساحرة شفشاون حتى أُكْلَة القواقع لها مذاق خاص وعش رجبا ترى عجبا ولكن في شفشاون!!. شوربة التلمبوطي..رمز من رموز المدينة القديمة البيصرة..ليست شوربة عدس بل شوربة تكثر في المغرب وفي كل مدينة لها مذاق خاص وحين دخلت المدينة أخبروني عن تلمبوطي وسر حكايته وشهرته التي اجتازت المدن والقارات، ففي مركز المدينة القديمة يوجد دكان صغير مليء بالزبائن ومن شتى الجنسيات، تعرفت على صاحبه السيد مصطفى الذي أخبرني السيد بأنه ورث مع أخيه هذه المهنة عن والدهم، وبركته تلاحقهم وسمعتهم الطيبة ملأت المدينة، وأما عن سبب شهرتهم فقال لي بأننا نطبخ البيصرة بطريقة أخرى تختلف جدا عن الآخرين ونحن نطبخها على الفحم وهذه الشوربة مصنوعة من الفول الصغير بعد طحنه يتم خلطه بالثوم والزيت والكمون والسوداني وأطيب التوابل والمطيبات وأخبرني بالإضافة إلى زبائنه في المغرب فإن اسمه انتشر في أمريكا وأستراليا وأوربا والآن في كوردستان أيضا ووقتها تذكرت قلية محمد سواري في دهوك وتذكرت أهلي وناسي . فاتنات تنقشن الزخارف بالحناء على الأيادي والأرجل في الساحة الرئيسية(وطاء الحمام) توجد أكثر من 5 فاتنات تنقشن أجمل الزخارف بالحناء على الأيدي، والأجانب يحبذن هذا الفن الجميل وتحدثت لي (هاجر)ذات 22 ربيعاً، بأنها تنقش الزخارف بالحناء المغربي والذي لونه أحمر وكذلك بالهندي، ولونه أسود والنقش يكون بواسطة الإبرة ولكن من دون وخز أما الامازيغ فنقوشهم تكون بواسطة المكحل، وأردفت بأنها ترسم الفساتين وتحبذ التصاميم ولها أسلوبها الخاص في النقش وتجمع أعمالها في ألبوم خاص وهذا الفن والتطريز يكثر بكثافة في ساحة جامع الفنا في مراكش. متحف جميل وصناعة تقليدية ومعرض تشكيلي منوع في إحدى أزقة الشاون الضيقة توجد دار قديمة تجتمع فيها كل أصناف الفن والصناعات؛ ومصدرها المناطق المحيطة بالمدينة وحدثني أحد الأصدقاء القدامى (عبدالغني مفتاح) وهو المتخصص بالسجادات وبيع اللوحات التشكيلية ومحله أشبه بمتحف ضخم يضم بين ثناياه كل الصناعات التقليدية بالإضافة إلى صالة لبيع اللوحات التشكيلية تعكس جمالية المدينة، وقال لي عن الصناعات التقليدية بأن نساء الأرياف يمارسون 3 أعمال في اليوم الواحد، فهن تذهبن إلى المزارع لجني الثمار الموسمية وبيعها في الأسواق وفي الليل ينسجن السجادات في بيوتهن بالإضافة إلى أعمالهن المنزلية وقال بزهو (نساؤنا بحق بطلات في صنع الحياة والتاريخ). شفشاون...تمتاز بسحر طافح وجمال وألق تسحر الوجدان فكل من تطأ قدماه هذه المدينة تصبح قطعة منه، والكثير من الزوار يعتقدون في البداية أنهم سيمضون ليلة واحدة فيها ولكن تشاء الصدف بأن يمضوا أسابيع، ويفكرون بالعودة إليها بين الحين والآخر. مدينة الجمال والألوان والشاي المنعنع والتاريخ الناصع، وفيها تلتقي كل صنوف الإبداع والثقافات والحضارات بين أسوارها التي تعشق الحرية والانفتاح على العالم الخارجي.. إنها عروس شمال المغرب شفشاون.