في الواقع هناك الكثير من التشابه بين النظام التونسي وبين العديد من الأنظمة العربية سواء فيما يتعلق بانتهاك الحقوق السياسية للمواطنين وقمع الحريات وخنق المجال السياسي، أو فيما يتعلق بالاستيلاء على الثروة بطرق غير مشروعة، مع اختلاف في الأسلوب وطرق النهب... إذا تأملنا الحالة المغربية مثلا فإن حجم الاختلالات التي عرفتها البلاد هي نتيجة طبيعية لسعي بعض مراكز النفوذ لاستلهام النموذج التونسي في المغرب، ذلك أن السلوك السياسي للدولة ينزع نحو الهيمنة على جميع المراكز الحيوية (السياسة، الاقتصاد، الإعلام).... السلطة لها منطقها الخاص، فحينما تسند إلى جهة ما سلطات واسعة تشعر معها بأنها مدعومة من قبل السلطة العليا في البلاد دون أن تكون خاضعة للمحاسبة والمراقبة فهذا يساهم في توليد أوضاع جديدة تجعل الطموح يتجاوز الأهداف التي سطرت في اليوم الأول ليجد الشعب نفسه أمام طبقة سياسية جديدة تحتل مستويات عليا في هرم السلطة وتملك ثروات مهمة، ولذلك فإن منطق السلطة يفرض عليها أن تبحث على جميع السبل للحفاظ على الوضع القائم وتحصينه من جميع التهديدات التي يمكن أن تذهب بمصالحهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية، ولذلك فإن الدور المتنامي الذي بات يلعبه بعض أصدقاء الملك يمثل من هذه الناحية تهديدا حقيقيا للمجال السياسي وللمجال الاقتصادي، وقد تحدثت بعض وثائق ويكيليكس عن الدور الحاسم الذي تقوم به شخصيتين مقربتين من الملك في قبول المشاريع الاستثمارية الناجحة، بالإضافة إلى الدور الذي بات يلعبه صديق الملك السيد فؤاد عالي الهمة الذي أسس حزبا سياسيا مدعوما من قبل الدولة استطاع في ظرف ستة أشهر أن يتصدر المشهد السياسي في البرلمان وفي البلديات المحلية!! إن النظام الملكي في المغرب يتمتع بمشروعية كبيرة معززة بصلاحيات دستورية واسعة تباشرها المؤسسة الملكية، كما أن البلاد تتوفر على حكومة وبرلمان(رغم محدودية أدوارهما وضعف تأثيرهما في صناعة القرار) وعلى أحزاب سياسية(رغم انحصار تأثيرها وتعرضها للتحقير والتبخيس) وعلى منابر إعلامية "حرة " (معظمها موجه لخدمة أجندات سلطوية، ومن يطمح لممارسة حقه الكامل في التعبير يتعرض للتنكيل بواسطة القضاء ويتطوع بعض زملاء المهنة للقيام بالباقي ) وتعرف انتخابات دورية (يشوبها نزوع واضح نحو الضبط والتحكم...) وعلى مؤسسة قضائية (يجري تسخيرها لحماية الظلم و إضفاء الشرعية على الانتهاكات) .... إننا نعيش في ظل نظام سلطوي يحرص على استمرار المؤسسات من الناحية الشكلية وعلى إجراء الانتخابات وضمان التعددية لكنه حريص أكثر على تقييد دورها بالشكل الذي يجعلها مؤسسات فارغة من محتواها الديموقراطي ولا تملك صلاحيات حقيقية. أما من الناحية الاقتصادية فالمغرب لم يصل بعد إلى النظام الديموقراطي الذي تكون فيه المسافة واضحة بين السلطة والثروة، وقديما أفتى بعض الفقهاء بعدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة.... طبعا من شأن هذه الوضعية على المدى البعيد أن تتحول إلى عبئ على مركز النظام السياسي وتجعله أمام تحديات خطيرة، من أبرزها أنه يعرض نفسه للمحاسبة أمام شعور الجميع بأن باقي المؤسسات لا تتمتع بصلاحيات حقيقية وليس لها من الأمر شيء، ولذلك فإن المطلوب من السلطة العليا في البلاد أن تتحرر من أعباء السلطة لفائدة مؤسسات قابلة لأن تخضع للمحاسبة والمساءلة وللعقاب أيضا... إن دعاة الملكية التنفيذية يدفعون في اتجاه مركزة جميع السلط في يد المؤسسة الملكية ويدفعونها للممارسة اليومية المحفوفة بالأخطاء والمخاطر أيضا، وهم بذلك يعرضون هيبتها و"قداستها" يوميا للتقييم والمحاسبة التي تتم في ذهن المواطن حتى ولو لم يصرح بها في العلن... إن المؤسسة الملكية تعرض نفسها للمساءلة لأنها اختارت أن تكون ذات طبيعة رئاسية، وهذا ما لا ينسجم مع النموذج الديموقرطي الذي يطمح إليه المغاربة، ذلك أن العزوف عن المشاركة من طرف الأغلبية الساحقة لا يمكن تفسيره بالسلبية السياسية فقط ولكنه شكل من أشكال المساءلة والعقاب وطريقة في التعبير على اللامعنى الذي يحيط بالانتخابات. طبعا، في غياب مستوى من النضج الديموقراطي وفي ظل أرقام عالية من الأمية (حوالي 40 في المائة، وهنا اختلاف واضح مع الحالة التونسية: أكثر من 78 في المائة يحملون شهادات عليا في تونس) لا أحد يمكن أن يتكهن بصورة هذه المساءلة، يمكن أن تكون في صورة عزوف انتخابي، أو في صورة توترات اجتماعية أو في شكل تبلور مجموعات تؤمن بالعنف ..... في ظل النظام الدستوري الحالي لا يمكن أن ننتظر أدوارا متقدمة للبرلمان المغربي أو للحكومة أو بالأحرى بالنسبة للأحزاب السياسية المغلوبة على أمرها ، وإذا أضفنا إلى ذلك النزعة السلطوية الحاضرة في كل شيء فإنه من الطبيعي أن تبدو المؤسسات التمثيلية فارغة من محتواها الحقيقي، خصوصا مع إصرار الدولة على الاستمرار في صناعة بعض التجمعات السياسية الموالية لها ومدها بكافة أسباب الحياة وطرق الدعم المختلفة، وهي ظواهر سياسية هجينة تمثل إفرازا لطبيعة النظام السلطوي في المغرب، لكن طبيعة الإخراج المعتمد ونوعية الأساليب المستخدمة في سلوك الحزب الإداري الجديد، تحمل أضرارا بالغة الخطورة على مستقبل التنمية والديموقراطية في المغرب.... إن كسب رهان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن تحقيقه دون طرح القضايا الكبرى في مجال الإصلاح السياسي للنقاش العمومي، في أفق تحقيق توافق بين جميع الفاعلين السياسيين على أرضية إصلاح سياسي ودستوري يضمن التحول التدريجي إلى ملكية دستورية برلمانية، تحتل فيها الحكومة ورئيس الوزراء موقع السلطة التنفيذية الفعلية، بينما يحتفظ الملك بموقعه كرمز لوحدة البلاد وكضامن للحريات و كمرجع للتحكيم مع تمتعه بالصلاحيات الضرورية في بعض الملفات ذات الطبيعة الحساسة كالجيش والأمن والإشراف على الشأن الديني والروحي، بما يضمن التوازن السياسي ويحقق التعايش المطلوب بين المؤسسات. إن الدولة في صيغتها الحالية أصبحت تقترب أكثر فأكثر من معادلة التنمية بدون ديمقراطية... وهي معادلة خطيرة لا تنسجم إلا مع الأنظمة الشمولية التي- رغم النتائج السريعة التي حققتها في المجال الاقتصادي- فقد فشلت في نهاية المطاف في تحقيق تنمية اقتصادية مستديمة، فكانت الثورة التي لم يتنبأ بها أحد... إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد....