البشرية تتعلم.. هذه حقيقة ثابتة..البشرية تفهم نفسها أكثر فأكثر..هذا مما لا مراء فيه..وفي تلك المرحلة التي تلت اندحار الحضارة الإسلامية بفضل فقهاء الظلام الذين حرموا علوم الدنيا واعتبروها منافسا كافرا لعلوم الآخرة، أو العلوم الشرعية كانت أوربا تستعد للقيام من سباتها...كان عهد الطباعة الورقية المتطورة بفضل الصينيين تعد بإحداث انقلاب في تاريخ البشر.. أخيرا ستصبح هناك وسيلة فعالة جدا ل"حفظ العلم" و"حفظ تراكم تجارب البشر"..أخيرا ستتحول كل الأفكار إلى روزمانة من المعرفة قابلة للتمرير إلى العامة بنجاعة كبيرة..هنا سيحدث فعلُ القراءة فعله في حياة البشر وسيجعل العالم يتغير بسرعة غير مسبوقة في تاريخه.. كان عامة الناس خلال القرون الوسطى في أوربا (والعالم ككل) يعيشون حياتهم اليومية بعيدا عن هموم المعرفة والثقافة (تماما كما هو حالهم اليوم في عالمنا الإسلامي المتخلف).. كانوا يدبرون معيشهم اليومي ولا يملكون شيئا يرددونه غير أحاديث الآخرة والتحسر على الدنيا الفانية..كان القوي يأكل الضعيف، وكانت السلطة فاسدة وكان قوام العلاقات الاجتماعية هو المصلحة والنفوذ.. باختصار، كانوا "فوطوكوبي" شبه مماثل عن حالتنا ووضعنا الراهن في عوالمنا الإسلامية.. يمكنكم النظر إلى نوعية العلاقات الاجتماعية القائمة ونظرة الناس إلى الأخلاق والدين والعرض والمصلحة وغيرها وتخيل المجتمعات الأوربية على نفس المنوال حينئذ..لم يكن الدين والتعاليم الدينية كما نزلت من السماء هي المهيمنة، بل كان العرف هو صاحب الكلمة العليا.. تلك القوانين والأعراف المستمدة من العقلية الذكورية المسيطرة...وكان على الأشياء أن تتغير شيئا فشيئا..وكان قادة التغيير هم الكتاب والفلاسفة والروائيون وأصحاب الأقلام الحرة ممن كان لهم نصيب من الثقافة والمعرفة والقدرة على قراءة تناقضات المجتمع.. مع قدوم القرن الرابع عشر الميلادي بدأت الأمور تتزحزح قليلا في أوربا..كان "شوسير" هو أول أديب يعترف به في الحضارة الأوربية لأنه أول من قام بنشر عمل أدبي محكم تحت عنوان "حكايات كانتربيري"، ولم يمر وقت طويل حتى جاء أب الأدب الأوربي الحديث بدون منازع "دانييل ديفو" مدشنا المشهد الأدبي في أوربا من خلال روايته الأشهر "روبنسون كروزو" وبعد ذلك توالت وتناسلت الأعمال الأدبية وظهر الروائيون الكبار واحدا بعد الآخر وبدأ مسلسل التنوير وتغيير العقليات المتحجرة...لن يمر وقت طويل قبل أن تنتشر الجرائد داخل المجتمع الأوربي وهو ما ساهم أكثر في نشر الثقافة والمعرفة الأدبية من خلال الروايات المنشورة على حلقات..وكان الروائيون يتفنون في فضح تناقضات المجتمع وفي هذا الصدد يمكنني القول باطمئنان شديد إلى كون الدور الذي لعبه الروائيون كان أكبر بكثير من الأدوار التي قام بها الفلاسفة، وخصوصا فلاسفة عصر الأنواع، فأن تقرأ رواية في أي زمن من الأزمنة أسهل وأيسر بكثير من الانغماس في ذلك الكلام الكبير الذي كان يخطه الفلاسفة والذي لم يكن في متناول الجميع، عكس الأدب.. اليوم، وفي عوالمنا المتخلفة عن ركب الحضارة حين تحدثهم عن العلمانية التي رفعت أوربا من أسفل الحضارة إلى قمتها يقولون لك أن العلمانية كانت حقا في أوربا لأن رجال الكنيسة تجبروا وأصبحوا يتحكمون في رقاب الناس ويمنعونهم عن العلم والمعرفة الدنيوية وينسون أن هذا ما حصل تماما في تاريخنا المجيد..(ولازال يحصل) فرجال الدين يتحكمون في رقاب الناس ويفتونهم في كل أمورهم وهاهم شيوخ الشعبوية ودهاقنة الإسلام السياسي يمنون النفس بفرض "ما يرونه أخلاقا" على عامة الناس، وفي هذا الصدد يكون أول مطلب لشيوخ الشعبوية ودهاقنة الإسلام السياسي هو فرض الحجاب ومنع الخمور ومنع الاختلاط بين الجنسين وغيرها من الامور التي يجعلون منها أدوات للتحكم في رقاب الناس وإلزامهم بعقيدة معينة وأخلاق معينة..بعبارة أخرى، هاهم الدهاقنة يتباكون على اختلاف أفراد المجتمع في مقاربتهم للدين والأخلاق ويريدون من الجميع أن يكونوا نسخة مكررة عن بعضهم البعض، وهاهم فقهاء الظلام يقفون ضد كل ما هو علمي وكل ما هو مخالف لعقائدهم ومذاهبهم لأن الكلمة العليا لما يسمونه بالعلوم الشرعية، ولعل الجميع يعلم فضيحة كبار الأئمة في إحدى بلدان الخليج الشقيقة وهو يؤكد أن كل من يقول بكروية الأرض ودورانها حول الشمس فهو كافر.. يقول البعض أن الدين لا يعارض العلم مع العلم أن كل واقعة يقع فيها الخصام بين العقل والنقل يلجأ فيها الناس بشكل أعمى إلى تأييد النقل حتى لو كانت كل الشواهد العلمية تؤكد صحة ما ذهب إليه العقل في مسألة من المسائل.. كان على طغيان رجال الدين المتحالفين مع الإقطاع وأنظمة الحكم الفاسدة أن يتوقف..كان على الأصوات المكلومة أن تنتفض ولعل ما حدث في أذهان الناس طوال أربعة قرون من الأدب والفلسفة هو الذي جعلهم مؤهلين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر للشروع في القيام بثورة حضارية ضد التخلف.. لقد نضجت الطبقة الوسطى في أوربا وكان الفقراء والعوام ممن لم ينالوا النصيب الكافي من المعرفة غير الأكاديمية لازالوا يقعون تحت نير نفس الأفكار التقليدية المتوارثة ونفس النظرة إلى الدين ونفس الخضوع لسلطة الكنيسة والإعلاء من قيمة رجالاتها حد التبجيل أو التقديس أحيانا.. لقد أثبت التاريخ أن قادة أي تغيير في أي مجتمع، كيفما كان، هم نساء ورجال الطبقة المتوسطة لأنهم عادة الأكثر اطلاعا وتنورا وتثقيفا من الطبقات الأخرى، ولكن الطبقة الوسطى لكي تقوم بالثورة عليها أن تقوم بشيء هام جدا.. "نشر الثقافة والمعرفة" ونشر الثقافة والمعرفة لا يتم بغير "التعليم"..وكان لا بد من أجل تحقيق هذا من التحالف مع البورجوازية الصغرى المتنورة بدورها والتي كان شعورها الوطني عاليا وكانت تريد أن يرتقي مجتمعها ويصل إلى المستويات الحضارية المطلوبة.. وبفعل هذا التحالف بدأت تظهر في أوربا مدارس تختلف عن المدارس السائدة ومناهج ثورية تختلف عن تلك المتوارثة عن الفترة الإقطاعية وعهود الظلام الوسطى.. كان أفراد الطبقة الوسطى وحلفاؤهم من البورجوازية الصغيرة قد بدأوا في الوصول إلى مناصب المسؤولية وكان لا بد من التغيير أن يبدأ من خلال سن قوانين جديدة، وفي هذا الإطار كانت الثورة الفرنسية التي انطلقت سنة 1789 هي البداية الحقيقية ل"ثورنة" المجتمع من خلال "علمنته" و"تثقيفه" (العلمنة هنا تعني نشر المعرفة الدنيوية العالمة وليس الأفكار الدينية التقليدانية المتوارثة)..وكانت الأمور أحيانا تفرض من خلال سن القوانين الجديدة التي لا تروق لعامة الناس في البداية ولكنهم يألفونها جيلا بعد جيلا حتى تتحول إلى سلوك راسخ في تصرفاتهم اليومية مع نشوء الأجيال الجديدة... لم يعد هناك مكان للمسلمات..ولم يعد هناك مكان للأفكار الجاهزة وأصبح كل شيء قابلا للخلخة والتشكيك.. كان كل شيء قابلا لإعادة النظر وحتى أشرح العلاقة بين "العقل المتشكك" و"العقل اليقيني" سأعطي مثالا بسيطا جدا..لقد كانت البشرية منذ البداية تعاني من مجموعة من الأمراض التي لم يجد لها الأولون تفسيرات منطقية ومن بين أكثرها غموضا تلك التي كانت تصيب الدماغ.. وكان الناس حين يصيبهم مرض من أمراض الدماغ لا يجدون من تفسير غير الجن والقوى القاهرة التي تحتل أجساد الناس وعقولهم وتحولهم إلى كائنات مسكونة بالعفاريت.. لم يكن هناك تفسير آخر..وبقي العالم بلا تفسير قرونا عديدة ولم يبدأ العلماء في حل المعضلة وتفسيرها "علميا" إلا خلال الربع الأخير من القرن العشرين بعد أن نشأ علم الأعصاب وأصبح علما قائما بذاته في كل أنحاء العالم وواحدا من أهم المباحث الإنسانية على الإطلاق مادامت عضلة الدماغ هي أهم عضو، ليس في جسم الإنسان وحسب، بل في جسم "الحضارة التاريخ ككل".. فرق كبير بين عقل يستسلم لتفسير معين، وعقل يرفضه أو يشكك فيه ثم ينطلق في البحث عن تفسير وجواب آخر في مكان آخر.. وهذا ما حدث تماما خلال عصور التنوير الغربية.. لم يعد هناك مكان للأفكار والاجوبة الجاهزة.. وأصبح العلم والبحث هو سيد الموقف وهو الوحيد القادر على تقديم الإجابات الجديدة، وهذا ما أطلق في حد ذاته حركية علمية ومعرفية ثقافية داخل المجتمع لم يسبق لها أن حصلت في أي رقعة من بقاع العالم من قبل.. لم تتوقف الحضارة الأوربية عن التحول بشكل درامي سريع منذ تلك الفترة، وبعد أن تجاوزت فرنسا (ومعها بريطانيا ومناطق أخرى من أوربا) مرحلة العنف الثوري الذي قام به أنصار الفكر الحداثي والذين أسموا أنفسهم "اليعاقبة" (راجع عصر الثورة لإريك هوبزباوم) وبدأت الكثير من الفئات المستضعفة تبحث لها عن مكان في أرضية الثورة.. المستضعفون على المستوى المادي والاجتماعي والاقتصادي من فقراء البروليتاريا وجدوا لهم نصيرا جديدا اسمه "الفكر الشيوعي" ووجدوا لفلسفة المساواة نبيا جديدا اسمه كارل ماركس ولم يكن بالإمكان مقاومة هذا الفكر أو محاربته لأن فكرة المساواة في الأرزاق والمداخيل ووسائل الإنتاج كانت فكرة مغرية حقا..كما أن المرأة بدأت تبحث عن حقوقها وسط مجتمع ذكوري، فيما اهتم قطاع واسع من الأوربيين بمسألة الحريات الفردية فرفعوا سيف الحقوق الدنيوية أمام الكنيسة وبدأ رجال الدين يفقدون قبضتهم المحكمة على رقاب الناس.. أما النظرة للأخلاق فكانت تتغير شيئا فشيئا بطريقة حققت الصلح بين "المجتمع" و"الفرد".. أي بين "حقوق المجتمع" و"حقوق الفرد".. كان على المجتمع أن يجد حلا لتلك الممارسات الفردية التي كان من المستحيل إيقافها أو إرغام الناس على التخلي عنها لأنها جزء من طبيعتهم البشرية والبحث في نفس الوقت عن تلك الممارسات الأخلاقية التي لا يمكن التسامح معها قانونيا لأنها تمس حقوق الجماعة.. كان على المجتمع الغربي أن يكون واقعيا في التعامل مع مسألة الحريات الفردية ومراجعة قائمة "المحظورات الأخلاقية" حتى تسير البشرية إلى الامام.. وهذا ما نبدأ به جزءنا الرابع من هذا المقال...