العلماء هم ورثة الانبياء في مهمتهم العلمية والارشادية، والقيام بواجب التبليغ على الصورة المثلى التي لا تطرف فيها ولا تنطع أو تقعر؛ فهم جماعة تتميز بحب التضحية، والبذل والعطاء، وتوجيه الناس نحو الخير والمحبة، وأسوتهم في العمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى للناس بهذا التوجيه. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) الاحزاب/45-46. يقول القرافي في فروقه: " اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الامام الأعظم والقاضي الاحكم والمفتي الاعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا هو متصف به في أعلى رتبة". ولذلك فإن البناء الصحيح للعلماء ينطلق من بناء الشخصية المسلمة، وذلك بتهذيب الاخلاق وتصحيح السلوك، وبث روح المحبة والتسامح ونبذ أسباب الفرقة والخصام، لأجل ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يبلغ أحدهم زلات الآخر ويفضح عيوبه، أو أن ترفع إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يغير قلبه فيحرمون من سلامة صدره التي ينتفعون بها، ويستمدون منها الأنوار والأسرار الربانية. روى الامام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" (المسند: 1/396). ورغب صلى الله عليه وسلم الصحابة في ستر عُوَيْرَاتِ بعضهم البعض، لأن ذلك أسلم لهم وأرشد، لتبقى نظرة التعظيم والتوقير فيما بينهم، ولكي لا يفسد الذين في قلوبهم مرض وحدتهم ومحبتهم. فقد أخرج الامام الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم: قال صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم مرآة أخيه، فإذا رأى فيه شيئا فليمطه عنه". ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح، قلوبهم ويبين لهم أن صلاح الإنسان متوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض والعلل الظاهرة والخفية. أخرج البخاري في كتاب الايمان، ومسلم في كتاب المساقاة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". ومن خلال هذا المنهج النبوي، فإن مهمة العلماء ينبغي أن تكون بهذه الرؤية في تكوين الشخصية المسلمة، المحققة لجمال السلوك ومكارم الأخلاق، أما التربية على غير المنهج الرباني، فتؤدي إلى عدم الاستقرار، والتذبذب في الشخصية مما يولد التطرف. قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ) الزمر/29، إنه تصوير لرجلين، أحدهما يعيش على مناهج الناس وتصوراتهم وأقوالهم وأفكارهم، شأنه شأن العبد المملوك لعدد من الشركاء المتخاصمين، إنه موزع بينهم، ولكل واحد منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على رأي، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتناقضة التي تمزق فكره واتجاهاته، والرجل الثاني الذي يتبع منهج الله، حاله حال عبد يملكه سيد واحد، يعلم نوازعه ورغبته، وأشواقه وعواطفه، ومحيط بطاقاته وقواه، ومحب له، وراغب في استمرار حياته، واعتدال منهجه، وتحسين توجهه وسلوكه، ولذلك فهو عبد مستريح مستقر على منهج واحد سليم وصريح. (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الزمر/29. فالعَالِمُ إذن ليس عَالِمَ جماعة أو طائفة، بل هو لجميع الناس يسير بهم وفق المنهج الرباني الذي يربي القلوب على الايمان، والقيم السامية، لتستقيم الخطى إلى الله حبا واطمئنانا، وثقة وتعاونا، وانسجاما وتآلفا وتسامحا؛ أما الخطاب المتناقض والمتهافت في العمل والسلوك، يؤدي دائما إلى انهيار البناء، وتبدد الأعمال، ونشوء الطائفية، والاستهزاء والإساءة إلى القيم. يقول تعالى: ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) النحل/92، وفي هذا المثل صورة لامرأة متناقضة، لا عزم لها ولا إرادة، ولا منهج لها ولا استقامة، لأنها تعمل وتنقض عملها، وتظهر للناس حقيرة مهينة، حتى لا يتحول العلماء في هذه الأمة إلى مثلها.