من الأفخاخ الملغمة التي نصبها محتل الأمس في المجتمعات الإسلامية قبل أن يسحب جحافل عسكره: إيجاد عوامل إحياء وبث الفكر اللاديني والفكر الديني المتشدِّديْن .. وكلاهما يمثل تطرفا عن الإسلام الذي شرعه الله تعالى لعباده لحفظ مصالح دنياهم وآخرتهم؛ ومن أهمها: مصلحة الأمن والاستقرار والتعايش المجتمعي. فإذا أراد العدو أن يخلق أزمة أو فتنة في مجتمع؛ فإن من الأوراق التي يلعبها أن يحرك المتطرفين المتدينين بدافع الغيرة على الدين وحقوق الله عز وجل؛ فيستفزهم في سياق ما يعرف في النظريات السياسية بنظرية الثور الإسباني .. ومن أوراقه أيضا: تحريك المتطرفين اللادينيين بدافع الغيرة على الحريات وحقوق الإنسان؛ واستفزازهم في إطار ما يتوهمونه من أن الإسلام هو سبب التخلف والانحطاط الذي عاشه المسلمون طيلة قرون؛ وجعلهم في مؤخرة الأمم .. وهي صورة ذهنية تقض مضجع كل عالم بتاريخ عهود الانحطاط الذي لا تزال آثاره تنخر في واقعنا .. والمفروض في أصحاب التوجهين أن يتعقلوا ويكونوا أذكى من أن يستدرجوا لتخريب وطنهم بوضع أقدامهم على تلك الألغام التي سرعان ما تنفجر بادئة بإهلاك من وطئها قبل غيره .. هذا التعقل غاب في أقوال وأفعال ومواقف تناسلت في واقعنا في الآونة الأخيرة: ناشط حقوقي يصف رسائل النبي صلى الله عليه وسلم بالإرهابية .. مسؤول سياسي يتنقص أحكاما قطعية في التشريع الإسلامي ويدعو لتغييرها .. مخرج سينمائي وممثلون ينتجون فيلما إباحيَّا بشعا .. إباحيون متفلتون لا يتورعون عن التعري في الأماكن العمومية .. ملاحدة يجاهرون بالأكل في نهار رمضان .. كاتب صحافي يصف مؤسسة دستورية بمجلس شورى داعش حزب سياسي يستضيف ملحدا يستهزئ بأقدس مقدسات المغاربة ويطعن في أحد أهم أسس نظامهم السياسي ...! وفي المقابل: شيوخ يكفرون أشخاصا معينين بشكل مباشر في التجمعات العامة .. متدينون يحرضون على الالتحاق بتنظيم داعش وتنفيذ أوامرهم التخريبية .. ومن هؤلاء من يخطط لاستهداف أشخاص بالقتل ومؤسسات الدولة بالتخريب .. مجهولون يهددون ممثلة منحرفة بالتصفية الجسدية .. مواطنون يستبيحون معاقبة منحرفين خارج إطار القانون .. وبين هؤلاء وأولئك راديكاليون يستبيحون كل شيء في سبيل الصراع السياسي وتنفيذ الأجندات: مسؤول سياسي يوهم السذج بأن رئيس الحكومة مشؤوم: لا يزور بلدا إلا حلت به الكوارث الطبيعية .. بل يصف رئيس حكومة بلده بأنه بايع تنظيم داعش .. مواطنون يهاجمون وزراء ويلحقون بهم أَذًى جسديا .. وآخرون يدعون للعصيان المدني والإضرابات العامة التي تشل الحركة الاقتصادية في البلاد .. وإذا ما استثنينا من هؤلاء وأولئك؛ العناصر العميلة التي تغذي التوجهات المتطرفة والراديكالية عن عمد وخدمة للذين يسعون لخلق الفتنة في مجتمعنا؛ -فإن هؤلاء لا تنفع لدفع شرهم سوى: يقظة الدولة وحزمها، ووعي الشعب ووطنيته الصادقة- .. إذا ما استثنينا تلك العناصر؛ فإن الحكمة والواجب الوطني يفرضان على العناصر المتسرعة والمتحمسة إلى وقفة تأمل ستفضي بهم لا محالة إلى موقف عقلاني يصون الوطن ويحمي المجتمع من آثار تفجيرات الألغام المدسوسة: أما المتدينون فأدعوهم لاستحضار ما تقرر في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ من أن تغيير المنكر إذا كان يفضي إلى منكر أعظم منه فلا يجوز تغييره؛ وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله؛ وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا، ما أقاموا الصلاة". وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته». ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة؛ فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك؛ فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم". [إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 12-13)] كما تقرر أن معاقبة أصحاب المنكرات في ما هو من القضايا العامة منوط بالحاكم ومن يقوم مقامه من ولاة وقضاة وأعوانهم: قال صاحب معالم القربة في طلب الحسبة: "الحد مُختَصٌّ بالإمام". وقال صاحب بدائع السلك في طبائع الملك: "إقامة الحدود ولاية مخصوصة بالسلطان". وفي تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون: "إقامة الحدود لا تكون لكل أحد بل ولا لكل والٍ؛ لما تؤدي إليه المسارعة إلى إقامة الحدود من غيرهم من الفتنة والتهارج. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى الولاة عن القتل إلا بإذنه". وقال ابن فرحون: "ويلحق بذلك الحدود، فإنها تفتقر إلى حكم حاكم، وإن كانت مقاديرها معلومة؛ لأن تفويضها لجميع الناس يؤدي إلى الفتن والشحناء والقتل وفساد الأنفس والأموال"اه. وأما العلمانيون والملاحدة؛ فلو تأملوا لعلموا أن مكسب الحريات وحقوق الإنسان الذي يرون فيه حلما ورديا؛ فإنه لا يسوي شيئا، ولا تبقى له قيمة في مجتمع يضمحل فيه سلوك التعايش السلمي وتمزقه الصراعات ويتناحر فيه أصحاب التوجهات المختلفة .. وليت شعري ماذا يستفيدون من حريات متلطخة بدماء إخوانهم في الوطن والتاريخ والحضارة؟! وكيف ينعمون بالحرية وحقوقها وهم مهددون في أرواحهم وأمنهم؟! ولذلك لا يعقل أن يعلنوا حربا على مقدسات يؤمن بقدسيتها الجماهير الساحقة من شركاءهم في الوطن! ولا معنى لتقصد المجاهرة بالتعري أو ممارسة الفواحش وإفطار رمضان أمام الناس!! وهم يعرفون أن بإمكانهم أن يفعلوا ذلك كله في خلواتهم .. ولو أنصف الجميع وتأملوا؛ لعلموا أن مسلك الحوار والتفاهم وتثبيت وترسيخ دعائم التعايش أولى من مسلك محاولة الدخول في صراع ينتهي إلى ما لا تحمد عقباه .. فلنتعقل جميعا ولنتفق على سلوك شرعي حضاري من أجل مصلحتنا جميعا، ولندبر اختلافاتنا في إطار الحوار والتدافع السلمي الذي لا يبغي فيه أحد على أحد، ولا يعتدي فيه أحد على أحد .. وبصفتي مسلما مؤمنا بربانية الشريعة الإسلامية ورحمانيتها؛ فإنني مقتنع بأن الحوار الهادف والجاد والمحترم سيقنع العلمانيين الجاهلين بأن لله سبحانه حقوقا يجب حفظها، وأن للأغلبية المؤمنة حق احترام قناعاتها .. كما أنه سيقنع المتدينين الجاهلين بأن الحق في الحياة والأمن والتعايش المجتمعي؛ من حقوق الإنسان المعتبرة شرعا التي يجب العمل على المحافظة عليها ..