انتهت ايام رمضان وسينتهي معه الجدال حول الإنتاج الدرامي، في انتظار حلول رمضان من جديد واجترار نفس الحديث. فمع كل شهر رمضان نعيش نفس الحكاية، فريق يدافع عن المنتجات الدرامية مستعرضا نسب المشاهدة، وفريق ينتقد متحججا بانعدام الجودة وتهديد الذوق العام. لننطلق أولا من أن مفهوم الجودة في الفن لا يقترن بمعايير ثابتة كما هو شائع، لأنه لو كانت هناك قوانين ثابتة ومعيارية لأصبحنا كلنا فنانين بمجرد معرفتها وتطبيقها. فمعايير الجودة، على أهميتها، مهما تم حصرها، هي مجرد إطارات نظرية عامة يمكن تطبيقها بما لا يعد ولا يحصى من الامكانيات، والعمل الفني في حد ذاته هو الذي يحدد عند تلقيه هل يتوفر على عنصر الجودة أو لا يتوفر عليها، سواء اعتمدنا معيار النقد أو الجمهور أو هما معا. ولذلك فعملية انتاج الأعمال الفنية تفترض فشلا، كما تفترض نجاحا وجودة بدرجات متفاوتة حتى لو تعلق الأمر بنفس المبدع، وتبعا لهذا فهي تحتاج مغامرة اقتصادية كبيرة وتعددا في الإنتاجات وتنافسية قوية تفضي في نهاية المطاف إلى بروز القيم الفنية الحقة أما الأعمال الفاشلة فتضمحل من تلقاء نفسها؛ بحيث أننا مع هذا التعدد والتنافس لا نحتفظ في ذاكرتنا الا بالناجح ولا نولي كثير اهتمام بالفاشل لأنه من المفترض الا يعرض اصلا. في السياق المغربي من الصعب الحديث عن اي ارتباط للإبداع الفني بالمغامرة الاقتصادية، وبالتالي إمكانية رفع منسوب الجودة بسبب حدة التنافس. المغامر الوحيد في المغرب هو المبدع بغض النظر عن قيمة إبداعه من الناحية الفنية، أما المقاولة الفنية فهي في الغالب لا تغامر بأي شيء أو مجال مخاطرتها محدود في أحسن الأحوال، في مقابل ذلك، تتحكم في كل شيء لأنها تعيش على الدعم العمومي أو عبر تنفيذ الانتاج الفني لصالح جهات منتجة حقيقية معتمدة على نموذج اقتصادي مرتبط بالمنتجات المادية، وليس تلك التي تنتمي لأعمال الفكر les œuvres de l'esprit كما هو الشأن بالنسبة للأعمال الفنية. لنفكر إذن في موضوع الجودة من زاوية اخرى، ولنأخذ بعض المسافة من الإبداع ومن النقد ومن كل ما يرتبط بالإبداع في حد ذاته عموما، ولنفكر في الكيفية، في الطريقة، وفي المنهجية التي يتم بها هذا الإبداع، والمراحل التي يمر بها قبل أن يصلنا على الحالة التي هو عليها من الناحية الاقتصادية ورهاناتها في المجال الفني. أهمية تغيير زاوية النظر من الإبداع في حد ذاته إلى شكل إنتاجه، تمرين مهم تختفي فيه الكثير من التفاصيل، ونعلم أن الشيطان يختفي في التفاصيل. لا يكفي أن تقول هذا المنتوج جيد أو رديء، بل يجب أن تتساءل أيضا عن كيف أنجز، ومن تدخل فيه، وماهي حدود مسؤولية المبدع، ومسؤوليات غيره من المتدخلين. أعطاب الاستثناء الثقافي لنضع الأمور في نصابها ولنعد قراءة المشكل من أساسه. في مطلع الثمانينات ومع تنامي العولمة الاقتصادية، والخوصصة، ركنت الصناعات الإبداعية والثقافية عبر العالم الى الاعتماد على العمالة الثقافية الحرة عوض الأجراء الدائمين، أي الاعتماد على العمل المهمة، le travail à la tache ، عوض الاعتماد على العمل اليومي مقابل أجرة دائمة. فالفنان والصحفي والمنشط والتقني أصبح مطلوبا منه أن يؤدي عملا محدودا في مدة يتقاضى مقابله أجرا، دون أن تربطه بالمؤسسة أية علاقة شغلية دائمة. من جهة اخرى أدى نمو التوجه الليبرالي في الاقتصاد إلى تراجع تدخل الدولة المباشر في الثقافة والفنون، وإخراجهما التدريجي من القطاع العام إلى القطاع الخاص مع الابقاء على ضرورة تشجيع الفنون والثقافة عبر الدعم، أو عبر المناولة، أو عبر امتيازات ضريبية تحصينا لثقافات هذه الشعوب من الهيمنة الثقافية للقوى الإقتصادية الكبرى. غير أن العديد من البلدان التي سنت هذا النهج اعتمدت الوضع المزدوج للثقافة والفنون كمنتوج ثقافي، لكن بخصائص تجارية تعرف هامشا كبيرا من المخاطرة مقارنة بالمنتوجات الأخرى، ولذلك وجب دعمها تقليصا لهامش المخاطرة هذا، وأيضا تقنينها عبر نموذج اقتصادي خاص حتى لا تتحول استثمارات الدولة الى ريع ثقافي لفائدة المقاولات مما قد يقتل روح التنافسية والمبادرة أو ما قد يدفع هذه المقاولات إلى الرهان على الربح من مال الدولة بأعمال تعود ملكيتها الفكرية للفنانين والمنتجين الفعليين. ولقد كانت توصية اليونسكو حول وضعية الفنان الصادرة في مؤتمر بلغراد 1980 أولى التوصيات التي ركزت في العديد من جوانبها على خصوصية العمل الفني، وتلتها توصيات أخرى واتفاقيات لعل أهمها اتفاقية نفس المنظمة حول حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي سنة 2005. هذا المنطلق بالقدر الذي يبدو مهما من زاوية حماية الانتاجات الفنية الوطنية أمام سيل انتاجات القوى الثقافية الكبرى، لم يكن ليتم دون أن تكون له آثار جانبية وخيمة مرتبطة بايجاد تصويغات قانونية وحقوقية جديدة للريع الثقافي، بشكل لا توظف فيها استثمارات الدولة ومؤسساتها لصالح القيم الفنية، بل لتحويل الممارسة الفنية إلى آلية للريع لقوى ضغط اقتصادية جديدة تقدم نفسها كمستثمر في المجال لكن بأموال عمومية، وتقدم نفسها كوسيط بين الفنان والدولة أو مؤسساتها عوض أن تكون آلية لتقريب الثقافة والابداع من المواطنين الذي هو جوهر فكرة الاستثناء الثقافي لأن الغاية النهائية من تدخل الدولة أو مؤسساتها هو توفير منتوج ثقافي وفني لصالح المواطن في نهاية المطاف من منطلق تقريب الخدمات الثقافية من المواطنين وليس العكس. المقاولة الفنية والفنان هما وسيلة وليسا هدفا في حد ذاته. في المغرب الذي لم تكن فيه عمالة ثقافية أجيرة بعقود غير محدودة المدة إلا نادرا، انتقل إلى السرعة القصوى، اعتمد الدعم في مجال الثقافة والفنون والإعلام، كما عهد لإعلامه العمومي بمسؤولية الإنتاج في شقيه الداخلي والخارجي في غياب أي تقنين عميق للعلاقات التعاقدية بين المقاولات المدعمة أو المنفذة للإنتاج والفنانين، تحصينا لاستثمارات الدولة على محدوديتها من أي منزلق ريعي لصالح المقاولة يقوم من جهة على هضم حقوق الفنانين ومن جهة أخرى يفتح الباب على مصراعيه أمام محاولة بعض المقاولات الحصول ربح سريع من الأموال التي من المفروض أن توظف في المنتوج الفني مقابل نسبة ربح محددة بالقانون. وهنا كانت المصيبة...فرغم نبل الموضوع وأهميته الاستراتيجية، وقعت الدولة شيكا على بياض لبعض المقاولات التي ليست بالمقاولات ومنحتها حق التحكم في إعلامها، ومنحت للعديد من شركات الإنتاج مجالا للاغتناء، وفتحت أيضا امكانية الفساد الإداري وأغلقت الباب أمام إمكانية قيام قطاع خاص مواز للثقافة والفنون المدعومة. الانتاج الفني كاقتصاد مخاطر نظريا يندرج الاقتصاد الفني في اقتصاد المخاطر المرتفعة. وهو نمط اقتصادي مبني في جوهره على ارتفاع منسوب المغامرة الاقتصادية لسببين: الأول أن منتوجه ليس ذو طبيعة مادية، بل روحية- فكرية ولذلك فهو ينخرط في أعمال الفكر les œuvres de l'esprit التي تختلف جوهريا عن المنتجات المادية المحدودة المردودية الاقتصادية بطبعها. عندما تنتج إناء أو تبني منزلا أو تنجز طريقا، أنت أمام منتوج محدود الاستعمال من قبل من يستعمله أو يستهلكه، الأمر يختلف تماما عندما تنجز عملا فنيا هو قابل للاستغلال المتعدد و للاستنساخ الى ما لا نهاية حسب قوة الموهبة التي انتجته... الثاني أن هذا النجاح غير مضمون لتقلبات الذوق السائد ولإمكانية إخفاق المبدع في اختياراته الفنية...هنا تصبح المنتجات المادية، مقارنة بالفكرية، ورغم محدودية استعمالها ناجعة اقتصاديا ومضمونة النتائج لأن هناك حاجة ملحة اليها مرتبطة بالحياة اليومية العملية. جاذبية العمل الفني سواء من قبل المقاول أو الفنان، تكمن في الأمل بالنجاح الفني أو الجماهيري أو هما معا، والذي تصبح فيه العائدات استثنائية إذا ما تحقق هذا النجاح. أما الدولة ومؤسساتها المتخصصة فهي تتدخل عن طريق الدعم أو الاستثمار من أجل تقليص هامش المخاطرة هذا مسنودة أيضا بحس المقاول والفنان في الربح غير المادي أيضا، والمتمثل في الحظوة والمكانة الاجتماعية التي ينالانها عند كل نجاح فني أو جماهيري. هذا الأمر بعيد كل البعد عن التحقق عندما تصبح عملية الإنتاج الفني تعتمد مقاربة ريعية يصبح فيها المال العمومي في الغالب غاية، وليس وسيلة لإنتاج الأعمال الفنية. من زاوية أخرى، عندما نقارن عملية الانتاج التقليدية، وعملية الانتاج الفني نستنتج أيضا أن المنتوجات الفنية من حيث هي أعمال فكر لا تتطلب من المستثمر توفير مادة خام مقارنة بالمنتجات المادية، ولا تتطلب منه توفير وسائل إنتاج استثنائية، بل تتطلب أساسا الاستثمار في المواهب والكفاءات الابداعية عن طريق تجميعها وتنظيم عملية إنتاج الاعمال الفنية واستغلالها. الفنان وحده من يتحمل التبعات الفرق بين الشركات العادية وشركات الانتاج الفني إذن أنها لا تملك وسائل إنتاج استثنائية لأنها تعتمد أساسا على موهبة وخبرة المؤلفين والفنانين المؤدين كمادة خام، وعمالتها ليسوا موظفين أو عمالا تربطهم بالمقاولة عقود طويلة الأمد. عمالتها الحقيقية هم المخرجون وكتاب السيناريو والممثلون والتقنيون ومهندسو الديكور.... ومنتوجها ليس الدعامة التي يثبت فيها هذا المحتوى الفني، بل المحتوى في حد ذاته، كما أن المتعهدين لا يبثون في نهاية المطاف الا مضمونا هو عبارة عن فيلم او مسلسل او برنامج قام بتصويره وإنجازه أناس في الغالب لا تربطهم بالمقاولة أية تبعية شغلية طويلة المدة. هم أناس مستقلون في الغالب freelance. والشركة المنتجة أي المستثمرة – التلفزيون العمومي في سياق حديثنا- لا تقوم في الواقع سوى بالاستثمار أساسا في المواهب والكفاءات عن طريق تجميعها وتنظيم عملية الانتاج انطلاقا من فكرة أو تصور أو نص. في عملية الإشراف والتنظيم هذه يكون الاستثمار عبارة عن اقتسام للمخاطر بين المبدع والمقاولة المنتجة، كما أن اقتسام المخاطر في حالة الفشل، لا يلغي امكانية اقتسام النجاح بالتعويض عن الاستغلال في إطار القوانين المؤطرة للحماية الفكرية. هذه القاعدة مغيبة تماما في نموذجنا الاقتصادي لإنتاج الأعمال الدرامية. المنتج الحقيقي هو القنوات العمومية والمادة الخام هي الابداعات التي يوفرها أصحابها (الفنانون- مؤلفون ومؤدون والتقنيون). غير أن العلاقة بين المنتج الأصلي الذي هو القناة العمومية، وذوي الحقوق من الفنانين يدخل فيها طرف ثالت ينصب نفسه حامل مشروع لا يقدم لا مادة خام ولا وسائل انتاج استثنائية وبالتالي فهو لا يخاطر اقتصاديا، من يتحمل المخاطرة الاقتصادية والفنية هي القنوات العمومية التي هي مالكة الحقوق باعتبارها منتجا، والفنانون أيضا باعتبارهم مالكي حقوق أعمالهم أيضا، وليست مقاولات تنفيذ الانتاج. الأولى باعتبارها المستثمرة ماديا في المنتوج والتي من المفروض أن تكون تحت طائلة المحاسبة الإدارية والسياسية في حالة الفشل الفني والثاني (الفنان) باعتباره المالك لحقوق إبداعه وهو الواجهة التي تطالها المحاسبة النقدية والجماهرية عن أي فشل محتمل. المقاولة المنفذة للإنتاج تصبح في هذه الحالة مجرد وسيط بين المنتج الأصلي والفنان وهو الأقل عرضة للمحاسبة بسبب الفراغ التشريعي، ويزداد الأمر خطورة عندما تقرر بعض المقاولات بدوافع الربح التقرير في طبيعة المنتوج ومن يشارك فيه قصد خفض التكلفة. كما يمكنها بعد الحصول على الصفقة اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة لإعادة النظر في ميزانية المشروع عن طريق خفض أجور الفنانين وتعويضهم أو اللجوء إلى كفاءات فنية أو تقنية أقل كلفة أو اختصار وقت الانجاز، أو اللجوء إلى المناولة بشكل صريح أو سري، ليصل المشروع في النهاية إلى المشاهد بتكلفة من المحتمل أن تكون أقل بكثير مما هو مرصود له. السبب في هذا، يعود بالأساس إلى غياب المخاطرة الاقتصادية لدى المنتج المنفذ ، وضعف سلطة مالكي الحقوق الأساسيين المنتجين (القنوات العمومية) والفنانين وغياب تقنين للعلاقات التعاقدية بين المنتج الفعلي والعمالة الفنية من جهة وضعف تقنين هذه التعاقدات بين المنتج الفعلي والمنتج المنفذ من جهة أخرى، الشيء الذي يجعل العمالة الفنية تتنازل عن حقوق مفترضة لا يفصل فيها القانون، كما تفرض عليها القوانين الموجودة المفصلة على مقاس النموذج الاقتصادي المرتبط بالمنتوجات المادية وليس منتجات الفكر، مزيدا من التنازل قصد البقاء رمزيا وضمان فرصة عمل . ولهذا، فالتفكير في خصوصية النموذج الاقتصادي لإنتاج الأعمال الفنية يقود رأسا إلى طرح الأسئلة التالية: -بماذا يغامر منتجونا المنفذون عندما يتقدمون إلى طلبات العروض للتنافس على صفقات إنتاج الأعمال الدرامية؟ السيناريو؟ - يكتبه أناس لا علاقة لهم بالمقاولة -قائمة الممثلين؟ -هم أيضا لا علاقة لهم بالمقاولة - المخرجون؟ -لا علاقة لهم بالمقاولة... -التقنيون؟ -نفس الشيء كل هؤلاء يمتلكون خبرة ويشتغلون لحسابهم الخاص أو تجمعهم عقود بعد الحصول على الصفقة. غير أنه قبل الحصول على الصفقة وبعدها، تتغير الموازين إذ تصبح المقاولة في حكم الوسيط، قد تبحث عن الربح أكثر مما تبحث عن الجودة، ويتحول الفنان في هذه الحالة إلى مجرد تابع لهذه الآلة المحكومة بسرعة التنفيذ، وهضم الحقوق والتحكم في الاختيارات الفنية وإمكانية التواطؤات الإدارية المشبوهة بعيدا عن أية رقابة أو تحكم أو محاسبة، لأنه في نهاية المطاف لا تستثمر ولا تراهن عن سوق مفتوحة وفيها منافسة، بل أغلبها يعمل بالمقولة المغربية الشهيرة "من لحيتو لقم ليه". وعندما يحدث الفشل يجد الفنان نفسه وحيدا أمام سياط النقد. إنه وحده من يتحمل التبعات في وضع إنتاجي تقرره القناة المنتجة مع مقاولة هي في حكم الوسيط في واقع الأمر. المقاولة الفنية كمنفذ للإنتاج من المفروض في وضع سليم أن يتركز عملها على تسيير عملية الانتاج عمليا وميدانيا ولا تدخل الاختيارات الفنية من صميم اختصاصها، ولا أن تقرر في تشغيل الفنانين ولا التوجهات الفنية والجمالية للمشاريع ولا شروط التعاقد التي ينبغي ان تكون نتيجة تفاوض بين الهيئات المهنية والجهة المنتجة الفعلية عبر اتفاقيات جماعية تحدد الحقوق والواجبات وما على المنتج المنفذ سوى تطبيقها لحساب الجهة المنتجة الفعلية. في غياب القواعد الأساسية للتنظيم المهني، الشركة التي ستحصل على الصفقة قد تفرض شروطها المجحفة في منطق العقد شريعة المتعاقدين، وبمجرد الحصول على الصفقة تدخل سيرورة الانتاج في دهليز لا يضبطه القانون، ولا يتحقق فيه أي منطق، وبطبيعة الحال ما على الفنان الا أن يمتثل أو ينهش لحم أخيه في المهنة حسب الحال والاحوال، أو أن يمتثل لضغوط المنتج المنفذ الذي قد تجعل منه القوانين المغربية في واقع الأمر منتجا من لا شيء وبلاشيء. يجد الفنان نفسه مجبرا للتنازل تلو التنازل لكي يجد مجالا للاشتغال وإظهار موهبته. ولذا أصبح التقرب إلى من يمسك المال العمومي بيده طريق الشهرة القصير، والتي ليست سوى "سبعة ايام د الباكور" ستعقبها صرخة في اليوتوب: "عتقوا الفنان"، لأن المنتج المنفذ الذي منحته الفراغات القانونية مجالا اوسع من حجم مخاطرته، قد يسمح لنفسه أن يشغل أيا كان ليس من أجل تخفيض التكلفة فقط هذه المرة، بل أحيانا استجابة لرغبة بعض الحالمين المحمومة أو المرضية في الشهرة بأي ثمن، الشيء الذي يجعل طالب الشهرة هذا هو من يحتاج المقاولة وليس العكس، مما قد يفرض على العديد من الفنانين المكرسين أو الموهوبين أو الذين تلقوا تكوينا أكاديميا الخضوع رغم أنوفهم لنفس منطق التنازل من اجل استكمال مسارهم الفني. الاعلام العمومي المغربي ونموذجه الاقتصادي من هذه الزاوية، لا يخدم المجال العمومي ثقافيا وفنيا، بل قد يميعه ويمنح مقاولات في حكم الوسيط حق صناعة نماذج النجاح الفني عبر الاعلام العمومي. لأن الشهرة سلاح، وكثيرا ما تمنح بشكل عشوائي غير مبني على تنافسية حقيقية ولا تحكمه قوانين، لأن من يقرر في نهاية المطاف هو من يمسك المال، وهو لا يقرر فقط في حصة الاسد التي سيحصل عليها في الكثير من الأحيان، بل يصنع للمغاربة رموزهم، ويمنح السلطة الرمزية لأناس قد يسيئون استغلالها ويقحمون المجتمع في نقاش لا يتقنون ابجديته، ويصبحون أداة لاستغلال في الصراعات السياسوية عن علم أو بدونه بشكل تتحول معه الممارسة الفنية إلى شكل من أشكال حب الظهور والتباهي وليس نمط رؤية جمالية للحياة والمجتمع والتزاما فنيا بقضاياه من الناحية الإبداعية. كم من الإنتاجات تعثر إنجازها، وكم منها توقف وضغطت التلفزات العمومية على صانعي المحتوى هؤلاء لكي يكملوا رغم الجور والارتجالية التي يقوم بها بعض المنتجين المنفذين، لتأخذ التلفزة منتوجها في نهاية المطاف، وليهرب المنتج المنفذ ويتبعه الممثل أو السيناريست أو المخرج او التقني إلى المقاهي، وعندما يستعصي عليه الامر يفكر بمنطق "عضة من الفكرون ولا يصدق فالت" خوفا من ان ينتهي به المطاف الى طرده نهائيا من "جنة الشهرة" ، أو حرمان أولاده من قوت يومهم. سيشتكي للنقابة؟ النقابة ستشتكي لوزارة الثقافة، ووزارة الثقافة ستقول ان الموضوع من اختصاص وزارة الاتصال، ووزارة الاتصال ستقول إن الموضوع من اختصاص التلفزة؛ التلفزة ستقول ان الامر يتعلق بالشركة المنتجة المنفذة، فيخرج الفنان بعد أن تغلق في وجهه السبل الى اليوتوب ناقما من كل هؤلاء، لكنه سيحتاج وقتا لكي يفهم الحقيقة المرة التالية: أن الدولة فكرت في كل شيء الا في مهنته ولم تبذل أي جهد يذكر من اجل تقنينها في الوقت الذي صنعت فيه "منتجا من دخان". أزمة الانتاج الدرامي الوطني: نحو ضبط توازن القوى بين الفاعلين بعد اقرار نظام طلبات العروض دخل الانتاج الوطني الدرامي منعطفا جديدا نال الكثير من سهام النقد بسبب احتكار بعض الشركات نفسها للصفقات المبرمة ومعها احتكار الطواقم الفنية والتقنية المتعاملة معها لسوق العمل، مما عرض الكثير من الفنانين المكرسين للعطالة، زيادة على اكتسابها التدريجي لسلطة التحكم في صنع "السمعة الفنية" بناء على التنازل عن الحقوق وأحيانا بدوافع الزبونية، مما يضرب التنافسية التي هي الأساس في رفع منسوب الجودة في مقتل، بحيث إن تكرار نفس النماذج يقود في النهاية إلى رفضها من قبل الجمهور، والكثير من الفنانين اصبحوا ضحية الأفراط في استهلاك موهبتهم الفنية في نفس السياقات الابداعية، ينضاف اليها استغلال المعلنين لهذه النجاحات المكثفة في زمن محدود، الشيء الذي يؤدي بشكل خطير الى استنزاف طاقات الفنانين الابداعية في نفس الترسيمات والوصفات، مما يؤدي الى: قصر عمر تألقهم الابداعي وما يترتب عن ذلك من مشاكل اجتماعية لاحقا خصوصا بالنسبة للذين لا يتوفرون على دخل قار أو إضافي؛ صعوبة تدبير مسارهم الفني لاحقا نتيجة تعود الجمهور عليهم في صورة محددة؛ ارتباط الممارسة الفنية بالموضة الزائلة عوض القيم الفنية الثابتة. حيث تعرف الممارسة الفنية عددا متضخما من الوجوه الفنية، فيهم موهوبون حقيقيون وايضا عدد من محبي الظهور وطالبي الشهرة باي ثمن. -هل العودة إلى النظام القديم احسن حالا؟ -لا. فالاستفادة من مال عمومي دون معايير للتنافسية من شأنه ايضا أن يكون مجالا للزبونية والمحسوبية. نظام طلبات العروض على علاته ليس نهاية الحل، بل جزء من الحل، أو لنقل حل مؤقت يوقف النزيف، والعودة الى الوراء ليست احسن حالا... إذن ما الحل؟ الحل الحقيقي هو هيكلة حقيقية للقطاع في أبعاده الشغلية، وعلى مستوى منظومة الملكية الفكرية، هيكلة تجعل توازن القوى بين المتدخلين فيه، هي الضمان الحقيقي للجودة والحكامة والتنافسية في نظام اقتصادي له خصوصيته...غير ذلك، قد تتحقق الحكامة جزئيا أو شكليا عند الحصول على الصفقة، وبعد الحصول عليها، هلم ارتجالية ، وصانع المحتوى هو الضحية الاولى ومعه الاعلام والمواطن. الحل، لا ينبغي ان يتوقف عند تشجيع المقاولات، بل يجب أن يتضمن ضبط علاقة المقاولة مع الفنانين من خلال القانون، وكل ما يفرضه هذا الإطار من سد فراغات تشريعية مرتبطة بوضعية العمالة الفنية مع الدولة ومؤسساتها عندما يتعلق بالثقافة والفنون المدعومة أو الخاضعة لطلبات العروض، زيادة على تطوير مجال حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. عندها تصبح التنافسية ممكنة، لأن إمكانية الريع قد أغلقت أمام إمكانية الربح المشروع للمقاولات والفنانين معا بشكل يضمن اللجوء للكفاءة المهنية في سياق الثقافة والفنون المدعومة أو الممولة من قبل الدولة أو مؤسساتها. وقتها، ستنقلب المعادلة من استغلال الفن للحصول على المال العمومي إلى توظيفه من أجل تنمية الثقافة والفنون، أما الاستثمارات الخاصة والحرة فتصبح ممكنة لأن التنافسية وانسداد ثغرات الريع قوت عنصر التنافسية ونمت الحاجة لدى المواطن لمزيد من استهلاك وتلقي الأعمال الفنية. - فنان وأستاذ باحث