لا يختلف إثنان على أن الإنسان المغربي، و ربما العربي عموما، يقضي حياته متنقلا بين كرسيين، إحداهما حداثي يبدو و هو جالس فوقه في صيغة كائن يواكب عصره و الآخر تقليداني يبدو فيه و كأنه إنسان متمسك بتراثه غير آبه بصيرورة التاريخ و تحولاته. فكلما حل عيد الأضحى مثلا إلا و خلع معظم المغاربة لباسهم العصري، إن لم أقل الإفرنجي و ارتدوا لباسهم التقليدي. و لا يتوقف التحول فقط على مستوى الهندام، بل يتعداه لما هو سلوكي عميق. في ذلك اليوم، يتحول الإطار و رجل التعليم و المثقف و الطبيب و البنكي و القاضي و المحامي إلى جزار عاشق للدماء. ذلك العشق الذي لا يطفو على السطح إلا مرة في السنة، ربما لحسن الحظ، يصبح هو الآمر و الناهي. إستجابة له تشحد السكانين من أغمدتها لتغرس في عنق الأضاحي. و بعد النحر تأتي مراسيم السلخ. تلك التي يهواها الجميع، حتى النساء و الأطفال. الكل يتلذذ بتقطيع الخروف إربا إربا. تباعا يخرجون من جوفه القلب و الكبد و الأمعاء و المعدة. علامات الدماء تتحول إلى نياشين تزين لباس حاملها و ترقى به لأعلى الدرجات. من يرتدي لباسا نظيفا ناصع البياض يصبح ذلك اليوم وضعه أشبه بوضع الخائن أو المرتد عن ملة الجماعة. ثم ما أن يمر اليوم الأول و الثاني حتى تعود المياه إلى مجاريها. يدس اللباس التقليدي في جوف الصناديق المظلمة و يعود الجميع إلى ألبستهم العصرية. الكل يحاول أن يكون إبن زمانه و متمدنا، أو على الأقل يتظاهر بذلك إلى أن تأتي فرصة أخرى ليطلق فيها العنان للتشبث ببعض تمظهرات التراث الذابل. و في حفلات الزفاف يتناسى الجميع صوت الحكمة و الإعتدال التي من المفروض أن تشكل أحد أهم الروافد المكونة للإنسان الحديث ليتيهوا في براثين مظهر آخر من مظاهر الثراث اللامعقول. في ليلة واحدة يمكن أن يصرف على العريس و العروسة ما سيصرفونه خلال أربع أو خمس سنوات إشباعا لرغبات أنانية مستبدة. كل ما يهم هو أن يقال كذا و كذا أو لا يقال شيء. لأن وجهنا الآخر الرديء لا يذكر إلا الذمم. كل شيء ينبغي أن يكون غاية في الإتقان إذا إخراسا للألسن فقط. و بعدها يأخذ العريس عروسه للبيت الذي يؤجره و تلقى ذكريات تلك الليلة البهيجة في أحضان النسيان، تلك الليلة التي كلفة ثمن شقة أو مازاد أو قل بقيلل. و حتى الذي يملك شقة قد يحدث و أن تمر به سنوات عجاف و يتذكر ما تم صرفه تلك الليلة على أشخاص لا يعرف أسماء معظمهم و يتخيل كيف كانت ستكون حياته لو لم يصرف كل الأموال. المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الكائن المغربي و العربي عموما هي أنه كان متغير الأطوار يتأرجح ما بين أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في كل لحظة و دونما تفسير. يكون عصريا في لحظات عندما تحدثه عن بعض الأشياء التافهة في معظمها ثم يتحول دون سابق إنذار لإنسان تقليداني مغرق في الرجعية و تصدر عنه سلوكيات و أفكار لا تستند على نفس المنطق العلمي الذي يدعي طوال اليوم إلى الإيمان به. الإنسان المغربي يتصرف دونما تفكير أو ترجيح للعقل، لا يفعل كذا أو يعرض عن كذا لأن ذلك أفضل و لكن لأنه يشعر بأنه مجبر على ذلك. و إن سألته عن مصدر إحساسه ذلك لا يعطيك إلا إجابات فضفاضة تلمح من بعيد إلى مسؤولية الآخر، ذلك المجهول الذي نعلق عليه أخطاءنا. كم كنت أتمنى أن نكون تقليدانيين في الأمور الجميلة أيضا. فما أكثر الأمور التي أضعناها و نحن سائرون على درب الحداثة. لم يعد في قواميسنا و نواميسنا إشارة للحي و أبنائه و لا للرحم الذي كان الكل يحرص على وصله. فالحداثة تقتضي أن تعيش الأسرة الصغيرة في عزلة عن فروعها و أصولها القريبة و البعيدة ضمانا للحرية الفردية. و الحداثة تقتضي أن لا يطرق الجار باب جاره و لا يسال عن أحواله، هل هو جائع أو مريض أو يحتاج إلى مساعدة. الحداثة تقتضي أن لا تحدث أحدا و لا تنصت إلى أحد، أن تتصرف مثل مومياء تمشي على الأرض. المشكلة ليست أن نكون في الوقت نفسه حداثيين و تقليدانيين بل في تحديد المواقف التي ينبغي فيها إتباع التراث و تلك التي يستحسن أن نركب فيها موجة الحداثة. عندما سنتمكن من فعل ذلك بالإستناد إلى أصول و معايير علمية دقيقة سنتمكن من تحقيق المصالحة التي لا يمكن بدونها أن تصلح أمورنا الذاتية و الإجتماعية على حد سواء. [email protected] -دكتور في الحقوق