محمد المهدي علوش ما أكثر ما قيل عن الحداثة وكتب عنها. من البداية أصرح أني لا أنوي التطرق لتعريفات الحداثة ولا لعرض مفاهيمها عند الفلاسفة والمفكرين حتى لا أتيه في بحر من الكلام لا طائل من ورائه ولا يفي بالغرض الذي أرومه بمقالي هذا. غرضي من معالجة هذا الموضوع هو محاولة رصد وتسجيل المواقف والأفكار والتصرفات السائدة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية والتي تتعارض مع مستلزمات الحداثة حسب المتعارف عليه في هذا الباب لدى الشعوب المتقدمة. مفهوم الحداثة المقصود في هذا المقام هو ذلك المتداول في علم الاجتماع السياسي والاقتصاد والسياسة. الحداثة بهذا المعنى هي ببساطة الانتماء إلى العصر والتشبع بقيمه وأفكاره والعمل جهد المستطاع على احترامها واستحضارها في كل عمل أو تصرف أو موقف. والقيم هنا تخص المبادىء والافكار التي تمجد وتدافع عن الحرية والعدالة والمساواة والتي ساهمت في إنتاجها مختلف الحضارات البشرية وصاغها ورسخها المفكرون والفلاسفة عبر العصور حتى وصلت إلى الحال التي هي عليها الآن. فلا يكفي أن ينتمي الفرد إلى عصره بجسده وكيانه المادي حتى يقول عن نفسه إنه حداثيا. بل لابد أن يعانق أفكار عصره التي تكرس ثقافة حقوق الإنسان وتهدف إلى صون كرامته وتحث على مناهضة الظلم والإستبداد والإستعباد تحت أي شكل من الأشكال. قيم الحداثة: الحداثة أن يؤمن الفرد بقيم الحرية والعدالة والمساواة التي تعارفت عليها الشعوب الراقية وأصبحت تتقاسمها بعد أن أقامت لها المنتديات والمؤتمرات وصاغتها في عهود ومواثيق. والشعوب المقصودة هنا هي تلك المتصدرة لأمم العالم في مراتب الديمقراطية والتقدم العلمي والرقي الحضاري. فلا نستغرب إن وجدنا الحداثة متجلية في قيم وأفكار ومبادئ الدول الراقية. فهذه ما كانت لتدرك ما أدركته من رقي وتقدم لولا إيمانها بهذه القيم وسعيها إلى اتباعها في حياتها وإشاعتها بين مواطنيها، وإحاطتها بالضمانات اللازمة دستوريا وقانونيا. وتجاهل هذه القيم وإنكارها أو التنكر لها يعني ببساطة التخلف عن قطار الحداثة والاستمرار في العيش على هامش العصر أوفي الزمن الماضي. فلن ينفع بعد ذلك التحامل على الحداثة بدعوى الاستلاب الثقافي وتقليد الغرب الكافر والانبهار بقيمه الزائفة، والتنكر للهوية والأصالة وتراث الأجداد، إلى غير ذلك من الكلام الذي الذي لم يعد يعني شيئا أمام واقعنا البئيس. الحداثة أشمل من الديمقراطية وأوسع من حقوق الإنسان وأرقى من دولة القانون، لأنها نتاج هذه المنظومات كلها مجتمعة. فالديمقراطية تمثل الوجه السياسي للحداثة، وحقوق الإنسان تعكس جانبها الإنساني والحقوقي، بينما دولة القانون تشكل الوعاء القانوني للحداثة من حيث خضوع الحكام للقانون والتزامهم باحترامه حتى ولو كان في غير صالحهم. إن الحداثة هي كل ذلك وأكثر، فهي أسلوب للحياة ونمط للعيش. وهي قبل هذا وذاك ترتبط بنوعية الفكر الذى يحمله الفرد وينعكس على سلوكه في المجتمع، تضبطها وتؤطرها القيم المرجعية الكونية التي هي الحرية والمساواة والعدالة. فكل فكر أو سلوك أو تصرف يتنافى مع هذه القيم يعتبر في نظرنا مجافيا لمفهوم الحداثة ومتعارضا مع مقاصدها. الحريات الأساسية: إن الحداثة تقتضي أن يكون الفرد حرا في عقيدته، حرا في رأيه وحرا في اختياراته السياسية والمهنية والترفيهية، وحرا في علاقاته الاجتماعية والأسرية. وتكون هذه الحريات مكفولة بقانون ديمقراطي يحميها ويجزر كل من حاول المساس بها. فليس من الحداثة أن نطالب بضمان حقوق الإنسان ونضمر العداء والحقد لغيرنا ممن رغب في ممارسة حقه الطبيعي في الاعتقاد مثلا. فنعمل على ترديد أقوال الفقهاء الذين تفننوا في بيان حكم المرتد في الإسلام متجاهلين كلام الله في كتابه الحكيم حول حرية الاعتقاد وعدم جواز الإكراه في الدين. وليس من الحداثة أن نركب الدين ونوظفه في محاربة خصومنا السياسيين ونتهمهم بالكفر والزندقة، ونوهم الناس بأن جميع مشاكلهم ناجمة عن ضعف إيمانهم وأن التدين كفيل بحلها عملا بشعار الإسلام هو الحل. وليس من الحداثة أن نلبس بذلة أنيقة وننبري في الصحف والمنتديات نهاجم ونشتم من يخالفوننا الرأي أو المذهب من التقدميين والعلمانيين والأمازيغيين، ونكيل لهم أصنافا من السباب ونتهمهم بالتآمر مع الصهيونية والاستعمار العالميين ضد مقدسات الوطن ومصالحه العليا. إنما الحداثة أن يلبس الفرد ما شاء مما يوافق ذوقه ويكون حرا في فكره ويحترم حق غيره في الاختلاف معه في الملبس والرأي والعقيدة. الحداثة أن يكون الفرد حرا في إيمانه، مرتاحا في قناعاته معتبرا الدين شأنا خاصا بين الرب وعبده، فالله وحده المحاسب والمعاقب، والفرد مسئول وحده لا غيره عن أفعاله وتصرفاته أمام الله. فالدين في أصله عبادة ومعاملة وشعائر وأخلاق، وليس برنامجا اقتصاديا ولا مخططا تنمويا معدا لحل مشاكل المجتمع التي تتطلب مقاربات دنيوية توظف فيها علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة وتستخدم فيها ابتكارات الهندسة والطب والتكنولوجيا وغيرها. المواطنة: ليس من الحداثة أن يفتخر المرء بنسبه وحسبه أو يتباهى بعشيرته أو يتعصب لدينه، لأن هذه الاعتبارات تتعارض ومبدأ المساواة الذي يعد قيمة أساسية في المجتمع الحداثي، والتمسك بها يؤدي حتما إلى إثارة الروح الطبقية وتكريس النعرة العشائرية وانتشار الثقافة الطائفية المقيتة؛ وهي من سمات المجتمعات التقليدية المتخلفة التي كانت تسود فيها الامتيازات الإقطاعية القائمة على النسب العريق من أجل سيادة القوم، والمستندة إلى القبيلة كمصدر للسلطة والنفوذ، والمتخذة للدين سندا للشرعية في الحكم وفرض احترام التعاليم الإلهية على العامة. إنما الحداثة أن يكون الفرد مواطنا حرا في بلد حر تسوده الحرية والمساواة، وينعم فيه الإنسان بالكرامة والعدالة الاجتماعية، ويكون فيه القانون سيد الجميع حكاما ومحكومين. وتكون فيه المواطنة هي القيمة الأساسية التي تربط الفرد بالدولة وبالمجتمع وبغيره من أفراد الشعب. الحداثة تقتضي أن يستعيض الفرد عن اعتبارات النسب والشرف والقبيلة والملة بالمواطنة التى يجب أن تسمو على ما سلف من الاعتبارات؛ فيكون المواطنون شركاء ليس في النسب أو العرق أو الديانة، ولكن شركاء في الوطن وفي تقاسم مجموعة من القيم والمبادئ والآمال تصب كلها في مشروع مشترك يروم بناء دولة القانون وإرساء أركان مجتمع حر عادل لا حيف فيه ولا ميز. وتبقى الأسرة وشجرتها والقبيلة وشرفها والدين وتعاليمه ملازمة للإنسان في حياتة، لأنها من صميم كيانه وساكنة في وجدانه، لا يلزمه أحد على التخلي عنها، يتعامل معها طبقا لمبادئه وقناعاته، على أن لا يكون لها أي تأثير في حقوقه وواجباته في المجتمع وفي علاقاته بغيره من الموطنين حيث يبقي القانون هو صاحب الكلمة الأخيرة. الحداثة أن يضع الفرد مواطنته في أعلى مرتبة بسجل قيمه ومبادئه فتكون هي ضميره الناطق بإسمه ، فيقيس الأشياء بمقياسها، ويحكم على الناس من خلال تشبعهم بروحها، ولا يغفل عن استحضارها في كل موقف يتطلب منه الحزم في مواجهة أعداء المواطنة من رشوة و محسوبية واستغلال نفوذ. المواطنة الحقة وحدها كفيلة بإلغاء الفوارق الاجتماعية وحجب الاختلافات المذهبية والعقيدية لأنها تقر أصلا بالاختلاف في ظل سيادة القانون دون أي اعتبار آخر مهما كان. المرأة: ليس من الحداثة اعتبار المرأة مخلوقا دونيا منطويا على الشر ميالا إلي حبك الدسائس ونصب المكائد، فنحصر دورها في توفير المتعة وإنتاج الدرية وإرضاء رغبات الرجل ونزواته، والتفرغ لأشغال البيت من كنس وغسيل وتنظيف. إن مثل هذه العقلية لازالت سائدة في المجتمعات الشرقية التي تحكم على المرأة من خلال أهليتها للمعاشرة الجنسية وقدرتها على الإنجاب. ولا يهم بعد ذلك إن كان للمرأة عقل تفكر به، وطموح لتحقيق الذات ونزوع إلى الاستقلال بشخصها وتقرير مصيرها بنفسها. والمصيبة أن كثيرا من النساء راضيات بواقعهن، قنوعات بنصيبهن من الدنيا ، ظانات أن وجودهن في الدنيا مقصور على خدمة الرجل والسهر على راحته، فيعمدن إلى تلقين هذه الثقافة الدونية لبناتهن وهكذا من جيل إلى جيل. وليس من الحداثة أن نعامل نساءنا وبناتنا وأخواتنا معاملة القاصرات ، فنفرض عليهن التزام البيت ثم نخرج إلى الشارع للتحرش ببنات الناس وإسماعهن فنونا من الكلام الخليع والعبارات النابية. إنما الحداثة أن يتلقين تعليما جيدا يمكنهن من تحقيق ذواتهن والاعتماد على أنفسهن في حياتهن، ويتيح لهن وعي حقوقهن والتحمل بواجباتهن كمخلوقات راشدات واعيات قادرات على التمييز بين الخير والشر والصالح والطالح من الأشياء والبشر، من غير وصاية ولا حجر وعلى قدم المساواة مع الرجال. الحداثة أن نعامل المرأة كشريكة مسئولة، في البيت وفي المجتمع، لها من القدرات العقلية والمؤهلات الفكرية ما يجعلها تضاهي الرجل، بل وتتجاوزه في كثير من المجالات، كما تؤكد ذلك الإحصائيات ونتائج الدراسات الجامعية في الغرب وفي الشرق. ولقد برهنت المرأة فعلا على كفاءتها لتحمل المسئوليات الجسام على أعلى مستوى ولا داعي للاستدلال. تحكيم العقل: ليس من الحداثة أن نتهافت على المشعوذين ونجري وراء السحرة لطلب الشفاء أو قراءة المستقبل، أو "فك التقاف" أو إبطال مفعول العين. ولا هو من الحداثه أن نصبغ هالة التقديس على أول شخص قدم نفسه في صورة شيخ (ديني) له من القبول والبركات ما يجعلنا نصدق خرافاته وأوهامه حول تسخير الجن واستحضار العفاريت. إن الإيمان بالخرافات وتصديق الأوهام يلغيان العقل الذي يتميز به الإنسان عن سائر المخلوقات. ذلك لأن إدراك الكائنات الغيبية يبقى فوق مستوانا نحن البشر، فلنكف عن التحدث عنها كما لو كنا عاشرناها، فلا يعلم الغيب إلا الله تعالى. وإنما الحداثة أن يستخدم الفرد عقله ويستفتي ضميره في كل ما يعرض له من الأمور والنوازل، فهنال من الأمور ما يحتاج إلى تحكيم المنطق والعقل لسبر أغوارها واستجلاء حقيقتها، وهناك من الأشياء والأحداث ما يستوجب الإصغاء فيها الى صوت الضمير . وفي الحالتين معا لا يجب التأثر بما يشيعه السحرة والمشعوذون وحملة الفكر الخرافي عن الخوارق والمعجزات. إن انتشار الأخبار عن الخوارق والمعجزات غالبا ما يكون في المجتمعات التي يعاني جل سكانها من الجهل، حيث لا منطق تقاس به الأمور ولا عقل يتدبر فيميز المعقول من الوهم والممكن من المستحيل. والحداثة أخيرا هي أن يتصرف الفرد كإنسان له عقل يفكر به ليعرف الصحيح من الخطأ، وضمير يميز به بين الصلاح والفساد، وفكر يسمو به فوق الأوهام والخرافات، ويعانق به قيم الحرية والعدالة والمساواة التي أمضى الفكر البشري قرونا في ابتكارها وصياغتها وإقرارها في مواجهة الظلم والاستبداد والعبودية والخرافة. الحس المدني: الحس المدني من مستلزمات الحداثة وأحد أبرز تجلياتها في سلوك الناس وأكثرها وقعا في حياتهم الاجتماعية. فهو الأداة التي يقاس بها سلوك الأفراد ومدى اندماجهم في مجتمع مفروض أن يسود فيه التعايش والتسامح والتعاون بين أفراده. وهو خلاف الحس الوطني الذي يخص التمسك بالأرض ويرتبط بالوطن وسيادته واستقلاله. شعوبنا تعاني من عجز مزمن في الأول وتسجل فائضا معتبرا في الثاني . ترانا نتنافس من أجل إظهار حبنا للوطن وتعلقنا برموزه وتشبثنا بثوابته، وهذا أمر حميد في حد ذاته. غير أنه قد يشكل ملاذا لبعض الأنظمة الناقصة الشرعية فتعمد إلى استغلال المشاعر الوطنية لدى شعوبها ملوحة بالأخطار المحدقة بالوطن كلما رغبت في صرف نظر الناس عن مشاكلهم الحقيقية وإلهائهم بتهديدات خارجية وهمية. هذا النوع من الممارسات لا تكاد تجد له أثرا لدى الدول المتقدمة لأن حكوماتها تحترم شعوبها وقد تهابها، ولكنها في جميع الأحوال لا تتجرؤ على سب ذكائها. وهذا وجه من الحداثة نفتقده في بلداننا لأن العلاقة بين الحاكمين والمحكومين فيها غالبا ما يسودها الخوف والريبة وعدم الثقة . الحس المدني، ذلك الوازع الكامن في أعماقنا والذي يجعلنا نتخلى عن أنانيتنا ونفكر في غيرنا من المواطنين وهم يتقاسمون معنا نفس الفضاءات والمواقع، ويشاركوننا نفس التطلعات والغايات. إنه الضمير الذي يأبى علينا أن نضر بغيرنا ويملي علينا التحلي بحسن الصفات ونهج سلوك حضاري في تصرفاتنا داخل مجتعنا وفي علاقاتنا بغيرنا. فلا نضايق الناس في الطريق سواء كنا راجلين أم سائقين، ونحترم الجوار ولا نزعج الناس بصراخنا وبسهراتنا الموسيقية الصاخبة، ولا نلقي بالقاذورات في كل مكان، ونضع نفاياتنا المنزلية في مكانها وفي ميعادها من غير مراكمتها في الشارع، ولا نتبول في الطريق العام على مرآى من المارة، وننتظر دورنا في الصف في الإدارة أو في أي مكان آخر، فلا نهضم حقوق الناس ولا نعطل مصالحهم وكأنهم مواطنون من درجة دنيا. هذا النوع من الممارسات والتصرفات ينم عن احتقار الغير والاستهتار بقواعد العيش المشترك في مجتمع متمدن. فكل ممارسة أو تصرف لايقيم وزنا للعيش في تناغم وانسجام بين أفراد المجتمع، ينم عن قصور في الحس المدني وبالتالي يعد مجافيا لمتطلبات الحداثة. وتعتبر روح المسئولية أبرز مقومات الحس المدني، حيث يعي الفرد بأنه عضو مسئول فى المجتمع، فلا يتصرف إلا في الحدود التي يتيقن فيها أنه لا يتسبب لأحد في أذى، ولا يعتدي على حقوق غيره. ولو تصرف الجميع بهذا الشكل لذللت كثير من العقبات التي تعترضنا في حياتنا اليومية. فعندما تجد سيارة متوقفة وسط الشارع دون أن يعبأ سائقها بغيره من مستعملي الطريق، وعندما تحاول أن تركن سيارتك في حيز متيسر فتجد براميل أوصناديق مهترئة تحتل المكان، ثم تحاول وتحاول فلا تنجح إلا "بعد خروج روحك"، وعندما تنجو بأعجوبة من حادثة سير محققة لأن صاحبنا لم يحترم إشارة الضوء الأحمر، تحترق أعصابك وتتعطل مصالحك فقط لأن أحدا ما ليس لديه نقطة من الحس المدني. ومجتمع تكثر فيه هذه الظواهر بعيد عن الحداثة من حيث هي سلوك راق في المجتمع، وتشبع حقيقي بقيم المواطنة وروح المسئولية ، وقدرة على التعايش مع الغير في احترام وتفاهم ووئام. التقاليد: تمثل التقاليد والأعراف أحد أهم مكونات التراث عند الشعوب، تتداخل فيها فيها العادات الجماعية والمبادئ الأخلاقية وحتى المعتقدات الدينية. تتولد عنها أنماط سلوكية معينة تتفاوت درجة اتباعها بحسب قربها أو بعدها من كل ما هو أخلاقي أو ديني. وسوف لن نتيه في محاولة التمييز بين كل من التقاليد والعادات والأعراف،لأنه ليس هذا موضوعنا في هذا المقام. المقصود عندنا الأنماط السلوكيه المتوارثة تحت كل هذه المسميات، والتي قد تصل درجة احترامنا لها إلى حد التقديس. إن التقاليد ، باعتبارها تراثا جماعيا تتوارثه الأجيال، لها دور أكيد في تشكيل هوية الشعوب. فترى شعوبا تفتخر بتقاليدها، في الوقت الذي ترى شعوبا أخرى تتهكم وتسخر من هذه التقاليد. والحقيقة أن التقاليد عندنا ليست كلها جديرة بالاعتبار ، ففيها ما يعطي نظرة سلبية عن تراثنا وقيمنا، مما يستوجب كثيرا من التحفظ في التعامل معها. فإذا كانت العادات والتقاليد الخاصة بإقامة الأفراح وإكرام الضيف وغيرها من أنواع الطبيخ واللباس لا تثير مشاكل تذكر على مستوى قيم الحداثة، فإن بعض الممارسات على العكس من ذلك، تطعن في جانب من تراثنا الثقافي. ومن ذلك انتشار بعض التقاليد المصبوغة بالخرافة وربما ببقايا معتقدات وثنية قديمة كالذبيحة عند تدشين محل للسكنى أو الصفير في البيت أو الحذاء القلوب وغيرها من المعتقدات والطقوس المتعلقة ب "العين" الشريرة . وهي تقاليد تنم عن عقلية سحرية خرافية تتعارض مع روح الحداثة ، وإن لم يتضرر منها أحد. غير أن بعض هذه التقاليد قد تتكشف عن ممارسات سيئة تخدش الحياء ويمجها الذوق السليم، من قبيل الانتظار وراء باب العروسين لحظة فض بكارة العروسة و"انتشال الخرقة" الملطخة بدم هذه الأخيرة والرقص عليها تحت هدير من الزغاريد والأهازيج. هكذا يتم التعبيرعن فحولة العريس ،وعن شرف العروسة المصونة التي حافظت على عفتها وطهارتها إلى حين زواجها. وهكذا تقاس الرجولة وبهذه الطريقة يصان الشرف... من الأكيد أن كثيرا من شباب اليوم لم يعد يحترم مثل هذه الطقوس الغريبة، وكل أملنا أن يهتدي كل شبابنا إلى أدوات وطرق بديلة لقياس الرجولة وتقييم الشرف. وهناك تقاليد أخرى تتسم بالخنوع والمسكنة كتقليد تقبيل اليد الذي لا زال يمارسه بعض المغاربة في البوادي خاصة، فكثير منهم لا يعرفون طريقة أخرى للسلام غير تقبيل اليد بدلا من مصافحتها. ربما يعود أصل هذا التقليد إلى ماضينا الحافل بالولاءات الإقطاعية وكثرة الزوايا والأشياخ وأصحاب البركات والمكرمات الذين لايتحرجون من تقديم أيديهم للتقبيل. فقد تربى المغاربة وهم صغارا على تقبيل يد "الفقي في المسيد"، وعندما كبروا كبرت معهم هذه العادة ،فأصبح "المتعلم يقبل يد المعلم" والمزارع يد صاحب المزرعة لتصبح تقليدا يدخل في باب "حسن الأدب" أكثر منه إظهارا للخنوع وقلة الحيلة. إن هذا التقليد لا يعد عيبا عندما يصدرعن فرد مستقل بشخصه وإرادته، يمارسه تعبيرا عن حب أو تقدير أوتبجيل كتقبيل أيدي الوالدين أويد امرأة (كما في الغرب) أوتقبيل يد زعيم روحي. في كل هذه الحالات تنتفي علاقة الخضوع والتبعية لصاحب اليد المقبلة. ولكن عندما يصدر الفعل عن شخص تلقى تربية تقليدية لا ترى عيبا في تقبيل أيدي الناس، بل تعتبره من حميد الأخلاق، فإن الأمر يحتاج إلى توعية وإعادة نظر في طرق التعبير عن الأحترام والتحلي بالأدب وحسن الخلق. الحمد لله على كون هذا التقليد يوجد حاليا في طريق الانقراض، وفي هذا اطمئنان على سير المغاربة في الاتجاه الصحيح المؤدي إلى الحداثة. الملبس: اللباس وطريقة ارتدائه من الحريات الشخصية التي يتحكم فيها ذوق الإنسان وسنه والوسط الذي يعيش فيه. فقد يكون لكل سن لباس وقد يكون لباس خاص في كل مناسبة وذلك بحسب المجتمعات والشعوب. والمؤكد أن عصرنا الحاضر يتميز بتعميم اللباس الغربي (الأوروپي) عبر كل بلدان العالم سواء عند الذكور أو الإناث ، مما نتج عنه تعايش نوعين من اللباس لدى الشعوب، لباس أصيل يدعى عادة باللباس القومي أو التقلييدي ولباس أوروپي يدعى باللباس العصري. وحتى هنا لا دخل للحداثة باللباس. لكن بعض الجماعات المتأسلمة تأبى إلا أن تتحدث عن اللباس الإسلامي الواجب ليس على المرأة المسلمة فحسب ولكن على الرجل المسلم أيضا، فتجعل من اللباس معيارا للتمييز بين المسلم الحق والمسلم الصوري. فتجدهم يرتدون نماذج من البذلات الداكنة اللون، الأفغانية الأصل، ظانين أن الأفغان أكثر التزاما بأصول اللباس الشرعي. والحقيقة أن لباس الرجل لا علاقة له بالدين ولا بالإيمان؛ فهون نتاج تاريخ طويل من الأعراف والتقاليد امتزجت فيها ضرورات اتقاء الحر والبرد بمبادئ الأخلاق وأيضا ببعض المعتقدات الدينية القديمة. لاحظوا الاختلاف البين فى الملبس بين بلدان المغرب الكبير ومصر وجزيرة العرب والحال أنهم كلهم مسلمون متجاورون حتى من الناحية الجغرافية. أما بخصوص اللباس الأفغاني بالذات فهو أبعد ما يكون عن الإسلام، بل هو لباس قبائل البشتون والبلوتش المستوطىين لأفغانستان وباكستان وكذا قبائل شبه القارة الهندية التي تعتبر في مجملها مجوسية. وعلى سبيل المثال غاندي ونهرو، اللذان نعرفهما جيدا من خلال الصور، يرتديان لباسا لا يختلف في شكله كثيرا عن لباس الأفغان إذا استثنينا شكل القبعة. وعلى الطرف النقيض نجد نماذج من المسلمين، خصوصا المغتربين العائدين لوطنهم خلال الصيف، يرتدون سراويل قصيرة (شورت) وأشباه قمصان مكشوفة جهة الصدر، وبرفقتهم مخلوقات على شكل آدميات، متسربلات في سواد قاتم لا يظهر منهن شيء ينبئك عن جنسهن أو طبيعتهن. فأين الحداثة من كل هذا الخليط المروع من اللاذوق واللامعقول؟ فليس من الحداثة أن تقوم المرأة بإخفاء جسدها بالكامل وتلفه في السواد وكأنه عاهة مشينة أو مرض معد يخشى منه على المجتمع أن يصاب بالعدوى. إن في هذا النوع من اللباس، الذي هو نتاج الفكر السلفي التقليدي، إجهاز على آدمية المرأة وإنكار لوجودها كإنسان كرمها الله بأن خلقها كما أراد وعلى الشكل الذي أراد. وإذا كان بعض الذكور(وليس الرجال) سريعي الافتتان بمظهر المرأة وغير قادرين على التحكم في غرائزهم البهيمية فهذا من زيغهم وسوء تربيتهم ولا دخل للمرأة فيه. وهو سلوك حيواني متخلف وذنب ومعصية عند الله الذي أمر الرجال والنساء معا بغض الابصار ولم يأمر بإنكار آدمية المرأة. إن تنكر المرأة في هيئة شبح مخيف مجهول النوع، بدعوى اتقاء تحرش الرجال، تنازل مجاني لن يساعد على حماية المرأة من زيغ الذكور، بل على العكس من ذلك، يؤدي إلى تكريس دونيتها واحتقار آدميتها وتبخيس دورها كعنصر حي منتج في المجتمع. وليس من الحداثه أيضا أن تعمد المرأة، في مجتمع محافظ ، إلى كشف مساحات معينة من جسدها وتظهر مفاتنها بشكل مثير للغرائز بدعوى ممارسة الحرية الشخصية، فتهيئ بذلك الذريعة للمتحرشين وتوفر السلاح الذي به يعتدي عليها الزائغون. وإنما الحداثة أن تلبس المرأة ما يوافق مبادئها وأفكارها وقناعاتها دون إهدار لآدميتها أواعتداء على كرامتها، ومن غير إسفاف ولا استفزاز ولا خلاعة، وأن تتعامل مع أنوثتها كما شاءت ضمن حدود الذوق العام والأخلاق الحميدة ومراعاة الاعراف الاجتماعية السائدة حتى لا يتحول حقها في ممارسة حريتها الشخصية إلى وحش يفترس أخلاقها وينهش في "شرفها" . الرباط في 3 شتنبر2015 محمد المهدي علوش